احميده النيفر: الإرث وأسئلة الزمن المُتَوَقِّف

الإرث وأسئلة الزمن المُتَوَقِّف

1 - ما أن أنهى رئيس الجمهورية خطابه الذي ألقاه بمناسبة العيد الوطني للمرأة حتى انطلق جدال واسع حول قضية مساواة المرأة بالرجل في الإرث ومسألة زواج التونسية المسلمة بغير المسلم.

إن كان الخطاب الرئاسي قد اتّسَم بتطلّع لإقرار العدالة والمساواة فقد حرص على قدر من التنسيب والتوازن الواضحين. فمع الإعلان عن المُضيّ نحو المساواة في جميع الميادين بما فيها الإرث نجد تأكيدا على عدم مخالفة الدين أو مصادمة مشاعر الشعب. في ذات التوجه شددّ الرئيس على أنّ تونس، وفق دستورها الجديد، دولةٌ مدنية لشعب مسلم وأنّ العقل القانوني التونسي سيجد الصيغ الملائمة التي لا تتعارض مع الدين والقانون.

2 - اللافت في الردود التي تلت الخطاب الرئاسي هو العودة إلى الاستقطاب المُتشنّج الذي شقّ البلاد بعد الثورة ولم يهدأ إلاّ مع المصادقة على الدستور مطلعَ سنة 2014. تمثّلت هذه الرّدود في مواقف سياسية وحزبية مختلفة وتصريحات لمثقّفين ونخب مع ما انتظم من اتفاق عموم الخطب الجُمَعية في رفض التوجه الرئاسي واجَهَهُ مفتي الجمهورية بصمت ثقيل لم يُخفِّف من دلالته بيان ديوانه المؤيد للتوجه. بمتابعة هذا المشهد الوطني بمكوّناته المختلفة وتوجّهاته المتناقضة ندرك أن التاريخ يُعيد نفسه وأن الماضي لم يَمْضِ ولم ينقضِ  وأنه حاضر مترصّد بحدّة. لهذا وجدنا إعلانا للبعض أن تصريحات الرئيس تُخرجه من المِلَّة وأنّه إن لم يعلن توبته فلا يُصلَّى عليه ولا يُدفن في مقابر المسلمين. موازاةً لهذا طالب آخر مجلسَ نواب الشعب بسحب الثقة عن الرئيس لخرقه الفصل الأول من الدستور مع معاضدة بيانٍ يُدين زواج التونسية المسلمة بالأجنبي غير المسلم إذ لا يرى فيه سوى «علاقة زنا».

3 - بالمقابل صرّح مسؤول مقرّب أنّ من يرفض التوجه التقدمي الرئاسي المتعلق بالمساواة  وبزواج المسلمة بغير المسلم فعليه أن يلتحق بداعش. مسؤول سياسي آخر لا يقل أهمية عن السابق آزر موقف نظيره  قائلا إنه سيفرض حرية المرأة وحقوقها بقوّة القانون.

من جهة المثقفين طالبَ جامعيّ التوقف عن الدوران في حلقة مفرغة بعد انخراط التونسيين في مسار الديمقراطية والمساواة وحقوق الإنسان وتأكيهم ذلك بعد الثورة فلا حاجة لتأويل النصوص الدينية بل ليس هناك سوى تطبيق المساواة.

4 - من هذا الغيض من فيض التدابر يتبيّن أنّنا نعيش زمنا مُتَوَقِـفًا تسوده حالة التنافي التي جُربت بعُقمها ودمارها. فهل كُتــــب علينا في قضية الحال ومثيلاتها من القضايا الثقافية - الاجتمـــاعية أن نمـضي مســــارعين إلى الاحتـــراب؟ أليس هناك ســـوى خيــار الفرض أو الرفـض: فـــرضِ ما يـــراه بعضـــُنا تقـــدّما ومساواة أو رفضِ أي مراجعة باعتبارها مسّا بالنص الديني وآياته المحكمة؟

للإجابة عن هذا السؤال الأول ودون الدخول في تفاصيل قضية «المساواة في الإرث» فإن ارتدادات الخطاب الرئاسي أكدت أننا نواصل في موقف تبادل للإقصاء الإيديولوجي. ينكر الطرف الأول «اللامساواة في الإرث» في تونس الحديثة مستندا إلى الدستور وإلى نصّ مرجعي أُمَمِيّ لا يضاهيه في تقديره أي نص آخر، يقابله بالرفض طرفٌ ثانٍ مرجعيتُه الدستور أيضا وقداسةُ المرجع الديني بنصوصه قطعية الدلالة التي لا تحتمل التأويل. للتذكير فقد طَرحت قضيةَ «المساواة في الإرث» لجنةٌ من رجال القانون المدني التونسي سنة 1981 على الرئيس بورقيبة الذي لم يقبل تعديل مجلة الأحوال الشخصية بهذا الخصوص. قد تكون وراء رفض الرئيس آنذاك اعتبارات سياسية وطنية أو عربية لكن من المتعذر قبول دعوى «المساواة» لالتباسها فضلا عن فتحها أبوابا يعسر سدُّها. فهل كان ليغيبَ عن الرئيس بورقيبة أن المطالبة بالمساواة فيها تجاهل للطبيعة المتكاملة لمنظومة المواريث في التشريع الإسلامي ولجملة الاعتبارات التي تنتظمها في توزيع منابات الورثة والتي لا صلة لها بتميّز الرجال على النساء؟ ثم كيف القبولُ بدعوى المساواة التي إن مَسَّتْ عنصرا من منظومة المواريث فإنها ستطيح بالبقية فارضة إقامة منظومة مغايرة تقرُّ «المساواة في الإرث» وتستتبع ضرورةَ المساواة في الإنفاق بين الرجل والمرأة.

5 - ينضاف إلى سؤال لماذا المواصلة في تبادل الإقصاء الإيديولوجي سؤالٌ  ثانٍ أشدُ إحراجا متعلق بالمنظومة الأممية لحقوق الإنسان ذاتها. في هذا الشأن كيف تستقيم المطالبة بفرض حقّ المساواة في الإرث وحقّ زواج المسلمة بغير المسلم على اعتبار أنهما من حقوق الإنسان مع الإعراض عن حقّ ثالث تكفلُه نفس المنظومة الأممية وهو الحقّ في حرية الاعتقاد؟ على هذا، هل من دواعي الديمقراطية وحقوق الإنسان أن ننكر على الطرف المخالف جزءًا من اعتقاده الديني بأن نفرض عليه المساواة في الإرث وأن نلزمه بإلغاء المنشور 73 مخالفةً لما وقع الإجماع على تحريمه في خصوص زواج المسلمة؟

أليس في هذا، إضافةً إلى محظور الإقصاء الإيديولوجي، مغالطةٌ للنفس بالتناقض مع الذات في اعتمادها المرجعية الأممية لحقوق الإنسان؟ وكيف يمكن فك الارتباط بين حَقّين من حقوق الإنسان: الحقّ في المساواة والحقّ الأممي «في حرية الفكر والوجدان والدين ... وحقّ عدم التعرض لإكراه من شأنه أن يخلّ بحرية الفرد في اعتناق دين أو معتقد». ينجم عن هذا سؤالٌ ثالثٌ يقتضيه هذا الزمن الذي تريده نخبٌ أن يظل مُتعَطِّلا.  ما جدوى مواصلة الاستقواء بالدولة لفرض ما نعلم أنه مخالف لعموم الرأي السائد؟  وهل من فائدة تُرْجى من إرغام الجموع على دخول «جنة التقدم» بالسلاسل؟ ثم أليس في هذا إضعاف لحياد الدولة وصدقيتها؟

6 - في هذا السياق يصدع جامعي وحقوقي معروف بأن الإصلاح الاجتماعي في تونس لا يتطلب إصلاحا دينيا البَتَّة. مؤدى هذا أن تبقى الدولة بنخبها الداعمة لاختيارها التحديثي الخاص وبقدرتها على الفرض والإلزام هي الأعلم بما يصلح للمجموعة الوطنية من قوانين وقرارات واختيارات في المجال الديني خاصة.

في الزمن المذهول الذي يَصْدُق عليه المثل القائل «كأنك يا أبَازَيد ما غَزيت» تتواصل الدعوة لاحتكار الدولة باب الاجتهاد والفهم والتوجيه. يتكرّر هذا مع أنّ التحديث في تونس حوّل الدعوة للاجتهاد إلى إيديولوجية سياسية غايتها فرض «إجماع» سياسي بما فاقم من التَشَظّي المجتمعي ونتائجه الوخيمة على الشباب وعلى مؤسسات الدولة نفسها. يبقى سؤال خاصّ بالمكانة والتأثير اللذين نريدهما لتونس في تشريعاتها الجديدة الخاصة بالأسرة والمرأة والأحوال الشخصية والحريات الفردية. فهل نعتبر في هذا المستوى العمقَ الاستراتيجي لتونس أم أنّنا لا نرى ولا نُبالي بما تؤدي إليه اختياراتنا من عزلة أو انبتات عن ذلك المجال الحيوي؟ هل نقدّر حجم المكاسب أو الخسائر الناجمة عن قبولنا أو تخلّينا عن رهان أن نكون النموذج المقنع والفاعل على الصعيد العربي الإسلامي خاصة في مشاغله التجديدية الحارقة

7 - محصلة أسئلة هذا الزمن القَلِق تتّجه في الختام لأن تتحدّد من خلال بِنية متكاملة ثلاثية العناصر: مفهومٌ وإجراء وبديلٌ ٌ. للخروج من معضلة حَدَيْ الرفض والفرض وما ينجرُّ عنها من التباسات يكون من المتاح التوجه نحو «التعايش» الديمقراطي تأكيدا لاحترام الرأي الآخر وقطعا مع أيّ إقصاء.

يتولّد عن مفهوم «التعايش» إجراء «الاختيار» الذي يسمح عمليا في قضية الإرث بقيام نظامين متعايشين أولهما مُتَّسِقٌ مع مجلة الأحوال الشخصــية في اعتمــادها منظومة الفقه الإسلامي والثاني اختياري يسمح بالمساواة في ميراث الأبناء.

يمثّل هذان العنصران توجّها ممكنا تتضح نجاعته بالممارسة لكنه يبقى رهين إنشاء «البديل» القادر على معالجة التحديات التجديدية في تونس وخارجها. يُعَدّ هذا البديل قضية شائكة لكنها حيوية ومستقبلية إذ تتطلب أن نجمع لها من وعينا وكفاءاتنا وإرادتنا إسهاماً في بناء المرجعية الدينية لتونس ومؤسّستها الجامعة والمعاصرة التي تُعْوِزُها.

قضية الإرث ومسألة زواج المسلمة وغيرها من المسائل المستجدّة وما يُقترَح لها من معالجات وبدائل تتجاوز جهد الأفراد أو الفئات أو الجهات الرسمية. إنها إذ تتطلب تعددا في مسالك التفكير والحوار المجتمعي والمراجعة فهي تظل بحاجة إلى مؤسسة مرجعية مختصّة بعلمها وبحثها واجتهادها في قضية القيم عامة والشأن الديني خاصّة. ذلك أنّ من السمات الرئيسية للحداثة السويّة إقامة المجتمع المؤسَّسِي المستوعب لنشاط الأفراد والجماعات والمتمثّل لتطلعاتهم وبدائلهم ليصوغ منها القرارات الأكثر تسديدا.

بهذا تكون المساهمة في تحريك زمننا المُتَـلَكِئِ بما يمكّن لتونس ريادةً منشودة في مجالها الحيوي الباحث في حيرة عن التطور والتّجديد.

احميده النيفر

رئيس رابطة تونس للثقافة والتعدّد

اقرأ المزيد:

في المساواة في الميراث بين الجنسين وزواج المسلمة بغير المسلم : البيان الثالث

المســـاواة حـــقّ كَـــونِي وليس مِنَّةٌ مــــــن أحــــد!

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
1 تعليق
التعليقات
سمير ماجدي - 14-09-2018 09:20

جازاك الله خيرا دكتور احميدة حفطك الله ما احوجنا لخطاب التعقل و الترشيد نحو التعايش السلمي و تحقيق سنة الاختلاف و احترامها و قبولها في مجتمعاتنا .

X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.