فاضل موسى: الـــدستــور زمـــن التعــــديــل

الـــدستــور: زمـــن التعــــديــل

إنّ مسألة تعديل الدستور من المسائل ذات الاتصال المباشر بزمن الدستور. فنظام التعديل، المنصوص عليه في الدساتير، يمكن أن يقصّر في عمر بعض الأحكام، ويمكن أن يؤبّد بعض الأحكام الأخرى. فالتعديل يطوّر الدستور زمنيّا. كما أنّ هذا يفيد أنّ الدساتير ليست محنّطة، وأنّها معرّضة للمراجعة؛ والمراجعة مطلوبة، لكن عندما تكون الأسباب موضوعيّة ومشروعة. وهذا ما يفسّر أنّ دستورا واحدا فقط، حسب المتعارف عليه، لم يقع تعديله: وهو دستور اليابان الذي تمّ وضعه سنة 1946. إنّ نظام تعديل الدستور التونسي وارد في الباب الثامن. وقد تعلّقت به تجاذبات كبيرة، ونقاشات حادّة، عند إدراج فصل، من الأغلبيّة الحاكمة في مسودّة الدستور الأولى، ينصّ على أنّ التعديل غير جائز لمدّة خمس سنوات. وكان المبرّر المعلن هو ترك الزمن لاستقرار المؤسسات الدستورية، وللممارسة ثمّ تقييمه، ويأتي بعد ذلك التعديل عند الاقتضاء وبدون تسرّع. لكن رأت المعارضة أنّ النيّة الحقيقية، والمبرّر غير المعلن لهذا المقترح، إنّما هو وضع دستور على المقاس أوّلا، وتثبيته ثانيا، للتواصل في الحكم نيابيتين متتاليتين؛ والبقية تأتي بطبيعتها بعد أن يتمّ إحكام القبضة على مفاصل الدولة، وعلى جانب كبير من المجتمع الذي شرع فيه منذ ديسمبر 2011...

بدأ الحديث مؤخّرا، من البعض، عن تعديل الدستور(1)، وإن لم يمرّ عليه سنتان ونصف من الزمن. والمستهدف الأساسي هو النظام السياسي الذي تسبّب حسبهم في عدم استقرار الحكم، وتقهقر البلاد على كلّ الأصعدة، في  حين كان الشعب ينتظر أنّ، مع هذا الدستور، ستأتي حوكمة رشيدة، وسيعمّ الرخاء، ويعمّ الأمن والأمان، وتتحسّن الخدمات الإدارية، ويتراجع الفساد و.. ا خيبة المسعى لهذا الدستور «الكبير» الذي لم يقدر على تحقيق أحسن ما حقّقة «الدستور الصغير» السابق له. ففي ثلاث سنوات استهلك «الدستور» الصغير ثلاث حكومات واستهلك «الدستور الكبير» في سنتين ونصف حكومتين، وشرع في الثالثة؛ بدون نتائج تبعث على الارتياح والتفاؤل. هذا ما دعا إلى تحميل طبيعة النظام السياسي المسؤولية في ذلك كما ألمح رئيس الجمهورية، في حوار صحفي؛ ثمّ في كلام عديد الحقوقيين والسياسيين. فكانت في البداية مؤاخذات ونقد للنظام السياسي المدرج في الدستور، ثمّ تحوّل الكلام إلى دعوة لتعديل الدستور، واستبدال النظام الهجين ذي الطابع البرلماني الغالب، بنظام آخر يحقّق الاستقرار. 3 حكومات في سنتين في ظلّ هذا الدستور بعد 3 حكومات للترويكا في وقت التنظيم المؤقّت، وسبقتها 3 حكومات بعد الثورة. يعني 9 حكومات في أقلّ من 6 سنوات. هذه المواقف، في تقديري، غير وجيهة، إذ أنّ الحكومات الثلاث الأخيرة كانت تتمتّع بثقة من المجلس تفوق الثلثين 166 و168 من 217 نائبا. كما أنّ الفائز في الانتخابات التشريعية والرئاسية هو نفس الحزب؛ وإنّ هذا الحزب يترأّس الدولة والبرلمان والحكومة. كما أنّه تحالف مع الحزب الثاني وحزبين آخرين، فلم يبق للمعارضة كملاذ إلا محاولات للحصول على توافقات، في أفضل الحالات. فلا أرى وجاهة في تحميل المسؤولية لطبيعة النظام المدرج في الدستور، الذي يتمتّع فيه رئيس الجمهورية بصلاحيات هامّة لا تتوفّر لنظرائه في الأنظمة البرلمانية، والذي له سند سياسي كبير، وإمكانيات مبادرات مهمّة.

كما أنّه مدعوم بتوافق تامّ مع حركة كان من المفروض أن تكون في المعارضة، ويتمتّع بتفهّم منظمات وطنية وأحزاب أخرى. فهل تعديل الدستور سيفرز لهؤلاء نظاما أفضل من هذا النظام؟ في الحقيقة من يدّعي ذلك هو من يريد تحويل الأنظار، للتفصّي من مسؤولية الفشل في الأداء وفي الوفاء بالوعود، ولحجب فشل القيادات السياسية للحزب الفائز في الانتخابات، التي أضاعت كلّ طاقاتها في التنافس والصراع. وهذا ما يجعلني أذكّر بكلّ أسف بالأبيات البليغة للإمام الشافعي:

«نعيــــب زماننا والعيب فينا     وما لــــزماننا عيـــب ســــوانا

  ونهجو ذا الزمانَ بغيـــر ذنب            ولو نطــق الزمــان لنا هجــانا

وليس الذئب يأكل لحم ذئب  ويأكـــل بعضـــنا بعضــا عيانا

لا مجال، في تقديري، للتشكّي من «غدر الزمان» في وضعنا الحالي، ولا أن ننتظر أن يغيّر الله ما بالقوم حتّى يغيّروا ما بأنفسهم.

إنّ الإشكـــــال ليس في الدستــــور، ولا في طبيــــعــــة النظام السيـــــاسي، الذي وضــــع بالتوافق ، بعـــــد نقاشات مضنية بين المــدافعين عن النظام البرلماني، والمدافعين عن النظام الرئاسي. وأفضت هذه المواجهة إلى نظام لا يمكن إنكار أنّ فيه ضمانات الحدّ الأدنى من التوازن بين السلط، وخاصّة داخل السلطة التنفيذية. والعديد يعرف أنّ نظاما سياسيّا ممتازا، وطبقة سياسية لا تحسن الأداء، لا يضمن نجاحا للبلاد؛ في المقابل إذا كان النظام السياسي سيّئا، والسياسيون يحسنون الأداء، يمكن تحقيق نجاح للبلاد(2).

هذا ما زاد في اقتناعي بوجاهة، بل بضرورة بعث معهد عال للعلوم السياسية، لتكوين جيل جديد، وتأهيل تنمية مهارات الجيل الحاضر، في زمن أصبحت فيه السياسة علما ومعرفة، وليست مجرّد ارتجال وهواية، أو ملء لأوقات فراغ. هذا ما يمكن أنّ تقدّمه الجامعة، بعد أن قدّمت إحاطة كبيرة فاعلة في مرحلة الانتقال الديمقراطي ومرحلة كتابة الدستور. وأريد أن أسجّل، فيما يخصّ مسألة التعديل، إعلان رئيس الحكومة، ردّا على نوّاب مجلس الشعب، خلال جلسة منح الثقة في 26 أوت 2016، أن ليست له أي نيّة لطلب تعديل الدستور. ومهما يكن من أمر، فتعديل الدستور جائز، وإنني مطمئن ومقتنع بأنّ الفصول ممنوعة التعديل هي الضامنة لاستدامة الدستور الذي رسمنا. بل أعيد وأكرّر : لو عُدّلت كلّ الفصول بما فيها التوطئة، يمكن لتونس أن تعيش في نظام عصري ومتوازن بـالفصلين الأوّل(3) والثاني(4)، والفصل 49 فقرة أخيرة التي تنصّ: «لا يجوز لأيّ تعديل أنّ ينال من مكتسبات حقوق الإنسان وحرياته المضمونة في هذا الدستور»، والفصل 75 رمز ديمقراطية الحكم يحجّر محاولة «سلطنته» بالترسيخ القاطع للتداول السلمي على السلطة(5).

إنّ دستور تونس الجديد، رغم قابليته للتعديل وهو أمر مشروع عند توفّر الشروط، محمول على الاستدامة لتوازنه، والتوافق الذي حصل حوله. وأذكر أنّ هذا الدستور ليس من صنع المجلس التأسيسي وحده، بل هو دستور شارك فيه، أو أثّر على صياغته، بصفة مباشرة أو غير مباشرة، ممثّلو المجتمع المدني والأحزاب والمنظّمات الراعية للحوار الوطني والخبراء وعديد الحقوقيين والجامعيين. كلّ هؤلاء الذين تجنّدوا مع الجماهير الشعبية لتصحيح المسار بعد اغتيال النائب الشهيد محمّد البراهمي بعد الشهيد شكري بلعيد رحمهما الله، ولإعادة الوعي للأغلبية الحاكمة ومناصريها. ومحقّ من لقّبها بالثورة الشعبية الثانية (15 جويلية/ 15 أكتوبر) ضدّ محاولة الالتفاف على أهداف ثورة 17 ديسمبر/14 جانفي. محقّ من رأى فيها ثورة سلمية، تصحيحية، كلّلت بدورها بالنجاح بعد «اعتصام الرحيل» وأرجعت الرأي السداد والعقل الرشاد وأثنت عن نهج الوغى والجلاد، وإيقاف السيل الهباء لدماء الأبرياء وإن كان إلى حين، وأنقذت الدستور والمسار الانتقالي. وهكذا انتهى سنّ هذا الدستور الذي كرّس ضمانات استدامته برسم ثوابت الجمهورية التونسية المدنيّة، القائمة على المواطنة وإرادة الشعب وعلويّة القانون، والمعتزّة بانتمائها الثقافي العربي الإسلامي وبتفتّحها وتنوّعها، والساعية لإثراء الحضارة الإنسانية ولتحقيق العدالة الاجتماعية والتمييز الإيجابي والتنمية المستدامة والديمقراطية التشاركية والحقوق والحريات والكرامة الإنسانية وإقامة العدل باستقلالية القضاء.

هذه أسس الدستور الجديد لتونس. هذا الدستور الذي تمّت المصادقة على نسخته الأخيرة، بعد رحلة متعثّرة وشاقّة(6)، في الليلة الفاصلة بين 26 و27 جانفي 2014، بأغلبية ساحقة لا أحد كان يتوقّعها. نعم، إنّ دستور تونس الجديد في تقديري، وخاصّة بفصوله الدائمة ليس بدستور الزمن الحاضر، فحسب، بل هو قابل أن يكون مستداما، لتجاوب مبادئه وأحكامه الأساسية مع التطلّعات المشروعة لجيل زمن اليوم ولأجيال الزمن القادم ، الزمن الجميل لتونس.

فاضل موسى

أستاذ تعليم عال في القانون العام، العميد الأسبق لكليّة العلوم القانونيّة والسّياسيّة

(1) السبسي يفتح معركة تعديل الدستور مبكّرا. الموضوع في «منتدى الأخبار» بتاريخ 2 أفريل 2016. تونس

(2) أذكر مثال إيطاليا التي بنظامها البرلماني عرفت 62 حكومة في 70 سنة ورغم ذلك أصبحت إيطاليا من بين الدول الثماني العظمى. فيجب أن ننسّب هذه العلاقة بين الإخفاق الاقتصادي والاجتماعي والسياسي وطبيعة نظام الحكم المدرج في الدستور.

(3) الفصل الأوّل: «تونس دولة حرّة، مستقلّة، ذات سيادة، الإسلام دينها والعربية لغتها، والجمهورية نظامها. لا يجوز تعديل هذا الفصل».

(4) الفصل 2: «تونس دولة مدنيّة، تقوم على المواطنة، وإرادة الشعب، وعلــويّة القـــانون. لا يجوز تعديل هذا الفصل».

(5) الفصل 75 فقرة أخيرة: «.. ولا يجوز تولّي رئيس الجمهورية لأكثر من دورتين كاملتين، متّصلتين أو منفصلتين. وفي حالة الاستقالة تعتبر تلك المدّة مدّة رئاسيّة كاملة. لا يجوز لأيّ تعديل أن ينال من عدد الدورات الرئاسيّة ومددها بالزيادة».

(6) انطلقت عملية صناعة الدستور من ورقة بيضاء، وأفرزت ثلاث مسودّات فمشروع غرّة جوان 2013. ثمّ دخل هذا المشروع في زمن المراجعات والبحث عن التوافقات وأدخل بعدها إلى الجلسة العامة النهائية للمصادقة، لكن وقع من جديد تعديل فصول تمّ التوافق في شأنها وحتّى المصادقة عليها في الجلسة العامة النهائية: كالفصل 6 والفصل 13 والفصل 106..عملا بالفصل 93 فقرة 3 من النظام الداخلي.

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.