عبد الحفيظ الهرقام: الأبعاد الغائبة
لا شك أنّ من أعظم التحدّيات الماثلة اليـــوم أمام الحكومة والطبقة السياسيّة عامّة، فضلا عن تخطّي الأزمة الاقتصاديّة والماليّة التي تواجهها البلاد، مصالحة التونسي مع السياسة والشأن العامّ، بعد أن فقــد الثقـة في ممثّليه وضاق صدره ذرعا بمناورات الأحزاب وحساباتها الضيّقة وبانحراف الممارسة الديمقراطية عن مسارها الصحيح، إذ لم يعـد يــرى في السياسة مجالا لتحقيق تطلّعـــاته إلى الــرفاه والعيش الكريم.
لا يمتنع التونسي، في غـالب الحالات، عن متابعة أخبار التحويرات الوزاريّة، وقد يجد متعة في الانخراط في لعبة التكّهن بقائمة الموزَّرين والمُقالين، لكن لا يهمّـه في نهاية الأمر حظّ هذا أو ذاك من التحوير، بقدر ما يهمّه مدى عزم التشكيلة الحكومية الجديدة على الاستجابة لشواغله اليوميّة.
ينتظر التونسيون اليــــوم من يوســـف الشاهد وحكومــته إثـــر التعديل الأخير العمــل على تعزيز أمن البلاد واستقرارها والمضيّ قدما في محاربة الإرهاب والفساد والتصـــدّي للتجـــارة المـــوازية التي تنــخـر أســس الاقتصاد الوطني.. ينتظرون بالخصوص الشغل والتنمية الجهـــويّة العادلة وتحسّن الخدمات في المـــرافق العـــامّة في قطاعات الإدارة والنقل والصحّة والحدّ من تآكل قدرتهم الشــرائية وتطوير المنظومة التــربويّة العمــوميّة حتّى لا يلجأوا إلى تعليـــم أبنائهــم في المـدارس والمعاهد الخــاصّة مع ما يتطلّبه ذلك منهم من تضحيات ماليّة جسيمة.
وغنيّ عن القول إنّ الحاجة باتت ماسّة إلى خطاب سياسي يرسم الواقع بصدق ودون مواربة وينزع في الآن نفسه عن التونسيين الشعور بالإحباط ويزرع فيهم الأمل في المستقبل ويسدّ هوّة ما فتئت تتعمّق بين السلطة والمجتمع الذي تعتمل فيه روافد مبدعة لم تجد إلى الآن الأرضية المناسبة لتحرير طاقاتها.
إزاء خطاب مصطبغ بشعبـــوية مقيتـــه، مـــن ثوابته القدح والتّهريج بدل طرح المقترحات والبدائل، لم يــدرك خطاب الحكومة في تقديرنا المستوى المؤمول من حيث القدرة على الإقناع وتبليغ رسـائل واضحـــة لا تعــــتّم على أيّة قضية من القضايا مهما كانت درجة خطورتها.
ولا نعتقد أنّ خطاب يوسف الشاهد أمام مجلس نوّاب الشعب خلال جلسة منح الثقة للحكومة الجديدة قد تناول كلّ أبعاد العمل الذي يتطلّع التونسيون إلى أن يقوم به فريقه في ظلّ متطلّبات المرحلة على المدى القريب والمتوسّط فغابت عنه الرؤية الشاملة لمجمل المسائل المطروحة ولم يرد فيه توضيـــح للطرق العمليّة التي يعتـــزم انتهاجها لتنفيذ مخطّط دعم انتعاش الاقتصاد لا سيّما في ما يخصّ إصلاح الجباية وتنمية الموارد الجبائية ومراجعة نظـام المساهمات في الصناديق الاجتماعية والتخفيض التــدريجي في كتلة الأجور وإعادة هيكلة المؤسسات والمنشآت العمومية وتوجيه الدعم نحو مستحقيه. وقد بدا الخطاب، في عدّة نواح منه، وكأنّه موجّه إلى صندوق النقد الـــدولي لاستــرضائه وإقنـاعـه بجـديّة الحكـــومة في تطبيق الإصلاحات التي أوصـى بها أكثر ممّا هـــو موجَّه إلى الشعب التونسي. كما لم يتضمّن الخطاب أيّة إشارة إلى إصلاح المنظومة التربوية الذي يدرك الجميــع أهميّته القصوى وكـذلك إلى توجّهـات الحكـومة بشـــأن السيــاسات القطاعية وخاصّة في مجالي الفلاحة والصنــاعة وخطّتها لدعم القدرة التنافسية للاقتصــاد الوطني والنهــوض بالتصديــر، باعتباره أحد محـــرّكات التنمية.
ولعلّ ما يلفـــت النظــر أكثر في خطاب يوســف الشاهد، هو غيــاب البعـد الحضاري عنــه، حيـــث أنّ ما فــاض به من أرقـام ومشـــاريع إصلاحات لم يكن يوحي بأنّـه يعكـس رؤيـة وفلسفة أو ينصهـر ضمن نمط مجتمعـي يحـرص جـانب واســـع مـــن التونسيين على أن يــرتكــن إلى قيم الحـرية والانفتاح والحداثة والمساواة.
بعد هذا الخطاب، عديد المسائل تظلّ غائمة، وقد تزداد الأمور وضوحا عند عرض مشروعي الميزانية وقانون المالية لسنة 2018 على مجلس نوّاب الشعب. في الأثناء يأمل التونسيون أن يسعى الشاهد وحكومته إلى تسريع نسق الإنجاز تجسيما لأمانيهم، عساهم يتصالحون يوما مع السياسة.
عبد الحفيظ الهرقام
- اكتب تعليق
- تعليق