الصحبي الوهايبي: في فــضـل الكــلام عــلى الــسّــــكــوت
الصمت هــو غيــاب الصـّوت وانعدامه؛ ولا يكون مُطْلقا، إلاّ إذا بلغتْ درجــةُ الحرارة الصّفرَ المطلقَ، أي 273 درجة مئويّة تحت الصّفر؛ والصّوت، هو، فيزيائيّا، اهتزازُ جزيئاتٍ في جسم مَرِن؛ أو موجةٌ قادرة على التّحرّك في أوساطَ مادّيّةٍ مختلفةٍ، صلبةٍ، أو سائلةٍ، أو غازيّة؛ وهناك الموجات المسموعة، التي تتبيّنها الأذن البشريّـة، وهي التــي تقع تردّداتهــا بين 20 و20000 هــرتــز؛ فإذا تجاوزت ذَيْنَكَ الحدّيْن، نزولا أو صعودا، صارت دون السّمع، أو فوق السّمع؛ ومثالُ ما دون السّمع، حركةُ طبقات قشرة الأرض، وهي تنزلق، منبئةً بالزّلازل والبراكين. وكأنّ ما تأتيه بعض الحكومات، لا يتخطّى 20 هرتز؛ وكأنّ الزّلزال يحتدم في رحم الأرض، ولا أحد يسمع؛ غير أنّ بعض الحيوانات، على غرار الكلاب، وعكس الإنسان، تستطيع أن تتبيّن تلك الذّبذبات؛ وليس سبّةً أنْ تنعتَ أحدَهم بالكلب، فطوبى للكلاب التي تستقرئ ما لا نستقرئ بمراصـدنا وأقمــارنا وعلمنا. أمّا وِحدة قياس الصّوت، فهي الدّيسبل؛ ويمكن اعتبار الجوّ هادئا، إذا كان ارتفاع الصّوت في حدود أربعين ديسبل؛ فالحوار بين مجموعة من النّاس المهذّبين المحترمين، مثلي ومثلكم، ينحصر عادة بين 60 و80 ديسبل؛ فإذا بلغ المائة والعشرين، أصاب الأذن ببعـض من الألم؛ فإذا تجاوز، كما هو الشّأن تحت قبّة البرلمان، ثَقَبَ الطّبلة... والكلام، في غير موضع الكلام، مصيبة؛ كذلك، الصّمت، في غير موضع الصّمت! وليس صحيحا أنّ الكلامَ من فضّة، والسّكوتَ من ذهب؛ وفي كلّ الحالات، نتمنّى على الحكومة أن تتكلّم، حتّى لو كان كلامها من قصدير؛ فالله كلّم موسى تكليما، ليُسمعه ويُفهمه، فسمِع وفهم؛ «وضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ»؛ وجاء في القرآن الكريم:»واحللْ عقدةً من لساني يفقهوا قولي». مَنْ ذا الذي يحلل عقدةً من لسان الحكومة؟، وهي التي بالكاد تُتَأْتِئ؛ وجاء أيضا: «وأخي هارون هو أفصح منّي لسانا»؛ و«ويضيق صدري ولا ينطلق لساني»؛ أما آن للحكومة أن ينطلق لسانها، فينفرج صدرها؛ وقال تعالى: «ألم نجعــل له عينيــن ولسانا وشفتين»؛ وسُئل أحدهم، عن الكلام والسّكوت أيّهما أفضل؟ فقال: «لكـلّ واحــدٍ منهما آفاتٌ، فإذا سَلِما من الآفات، فالكلام أفضل من السّكوت، لأنّ الله عزّ وجلّ ما بعث الأنبياء والأوصياء بالسّكوت، إنّما بعثهم بالكلام، ولا استُحِقّت الجنّة بالسّكوت، ولا استُوجبت ولاية الله بالسّكوت، ولا تُوقّيت النّار بالسّكوت، إنّما ذلك كلّه بالكلام، ما كنتُ لأعدل القمرَ بالشّمس، إنّك تصف فَضْلَ السّكوت بالكلام، ولست تصف فضلَ الكلام بالسّكوت»؛ وقال حكيم: «إذا أعجبك الكلام فاصمــت وإذا أعجبــك الصّمت فتكلّم»؛ ويقــال: رجــل شـريف أوفى بكلامه؛ ولا يُقال رجل شريــف أوفى بصمته؛ فبماذا تـوفي الحكــومة، وهي لا تنطـق؟. وتخطئ الحكومة حين تصمت؛ فللصّمت ثمن، مثلما للكلام ثمن؛ ولعلّها تعمل بالحكمة التي تقول: «من الأفضل أن تظلّ صامتا، ويقولَ عنك النّاس غبيّ؛ خير من أن تتكلّم، فترفعَ من أذهانهم كلّ شكّ»... لكــلّ شيء صوت؛ للصّخر قرقعته، إذْ يتشقّق؛ وللنّار زئيرها، إذْ تلتهب؛ وللماء خريره، إذْ ينساب؛ وللرّيح زفيرها، إذْ تزفّ؛ وللورق حفيفه، إذْ يهفّ؛ وللنّحل طنينه، إذْ يرفّ؛ وللرّعد جلجلته، إذْ يحتدم؛ وللسّلاح قعقعته، إذْ يلتحم؛ وللفرس حمحمته، إذْ يجمح؛ وللرّصاص دمدمته، إذْ ينفجر. إلاّ الحكــومة، فليس لها صوت... رَجُلٌ أتى في حياته، من المعاصي، ما خفّ منها، وما ثقل؛ فقرّر أن يتوب توبة نصوحا، فهاجر إلى دَيْرٍ منعزل في الصّحراء؛ فقال له الرّهبان هنـاك: «إنّنــا نصــوم عن الكلام، فلا نلفظ إلاّ لفظيْن اثنـين، كلَّ عشر سنوات؛ ومضت سنوات عشــر، والرّجل لا يتكلّم؛ فلمّا أتمّها، أشار إليه كبير الكهنة أن ينطق بكلمتيْه؛ فقــال: «الطّعام بارد»؛ ثــمّ سكــت عــشــر سنــوات أُخَر؛ فلمّا أتمّها، نطق بكلمتيْــــه: «الفراش صلـد»؛ ومضــى مـــن الزّمــن عـقـــد، كلمـــح البصر، وجـاء الرّجل، يقول كلمتيْـه: «إنّي راحل!»؛ فردّ كبيـر الكهنــة: «لا أستغرب قرارك، فأنت لم تتوقّــف عـــن الشّكوى، منذ حللتَ بهذا الدّيْر!».
الصحبي الوهايبي
- اكتب تعليق
- تعليق