المعضلة الفلسطينية في نظر الـزعــيـــم الحبيــب بـــورڤــيـــبـة

المعضلة الفلسطينية في نظر الـزعــيـــم الحبيــب بـــورڤــيـــبـة

إلى جــانب جملــة من القضايا الحضاريّة، تواجــه الشعوب العربيّة، دولا ومجتمعات، تحدّيات عظيمة، في مجالات حيويّة، بسبب الطريقة التي بها تعالج دولها المشكلة الفلسطينيّة.

والمنظـــمــة الدوليّة، التي بقـــرارها الظالم حدثـــت قضيّة فلسطين، كانت تـُعلن أنّها تقصِد إنصاف اليهود. لكنّها، بقرار التقسيم، تسبّبت في مأساة الشعب الفلسطيني؛ ولم تنتبه إلى ذلك، أو هي لم تأبه له. ولم يَصدر عنها سعيٌ جادّ لإصلاح ما أفسدته. فآلت المسؤوليّة إلى المنظـّمة العربيّة: لكنّها عالجت الأمر، عقودا متتالية، دون جدوى، لتمسّــك الطـرفين، العربي والاسرائيلي- كلّ بموقـفه – ولغيـاب وسيط دُولي يجتهد، ويتكفّل بتقديم حلول صُلحيّة.

أما القـــادة العـــرب، فكان أكثرهم مُصرّيـن على رفـض قرار التقسيم، مُتمسّكيـــن بطريقـــة الحــــرب، «لإرجـاع الميــــاه إلى مجـــاريها» – باستثنــــاء رئيــــس الجمهوريّة التونسيّة: فــقـد كـان، منذ أوائل القضيّة، مُدركًا أنّها لا تُعالج إلاّ بطُرق سياسيّة، خلافا لِما انتهجته سائر الدُول العربيّة.

مجتمعاتنا في مأزق

وممّا كان يقوله الزعيم التونسي، على رؤوس الملإ – فأوقعه في مشاكل لا تنتهي – إنّ العرب أخطأوا إذ قاموا مقام الوكيل عن القضيّة، دون الشعب الفلسطيني، صاحب الحقّ المباشر، فنزعوا عن القضيّة، دُوليًّا، صبغتها الإنسانيّة، بجعلها نــزاعــا بين دُول متنافسة على أرض، وليس للضميـر الأخلاقي فيه الدور الأوّل كما كان ينبغي. ويقول الزعيـم بورڨيبة إنّ العــرب اختاروا طريقة الحرب، وهم لم يُمارسوا الحروب منذ قرون؛ وجيوشهم مقتصرة على التظاهرات الاحتفاليّة، في الأعياد والمواسم وبعض المهام الداخليّة. ويقول الرئيس بورڨيبة إنّ العرب اغترّوا بما كان لهم من ظاهر الكثرة، وما يبتاعون من عتاد عسكري- باهظ الثمن- دون أن تكون لهُم خبرة كافية باستعماله، فجيوشهم كانت في الواقع متخلّـفـة، لا تعـــرف من أساليب الحروب الحديثة إلا القليـــل الظـــاهر، لا يُجدي نفعًا. ويُضيف الرئيس بورڨيبة أنّ العرب لم يُقيموا حسابًا لكون المنظمات الصهيونيّة المقاتلة في فلسطين متركّـبة من عناصر أغلبهم شهدوا ماكان للدول الأوروبيّة مــن حــروب، خاصّة أثناء القرن العشرين، فاكتسبوا بذلك تجارب حربيّة عالية، مكّـنتهم من الانتصار، في مثل البرق، على الجيوش العربيّة مجتمعة.

ويقـــول الرئيس إنّ العـــرب لم يُدركوا ما أصبحت عليه مـــن تــطــوّر المجموعات اليهوديّة، التي كانت انحشرت في شعوب أوروبــا وأمريكا، منذ قرون. ولم يُقم القادة العــرب وزنا لتأثير ذلك الاندماج في توجيه الرأي العامّ بتلك الأقطار، وتكييـــف القــرار السياسي لدى حكوماتها. وهذا ناتج عمّا كان عليه العرب من جهل بأوضاع اليهود، داخل فلسطين، وفي سائر بلاد العالم. ثمّ إنّهم امتنعــوا عــن متابعة شؤون الكيان الإسرائيلي، ترفّـعا، وجعلـــوا ذلك مـــن المحـــرّمات الأخــلاقيّة – وكأنّهم اعتقدوا أنّ اجتناب التلفّظ باسم إسرائيل يعيذهم من أذاه. ويُؤكّد الرئيس أنّ مساهمة اليهود، في إثراء الآداب والفلسفات الغربيّة، كان لها أثر بعيد في تعبئة الرأي العامّ الدُولي لِمُناصرتهم – رغم ما كانت عليه شعوب كثيرة من خفيّ «اللاّساميّة». ويتوّج كلَّ هذه الاعتبارات، في نظر بورڨيبة، ما كان لليهود، من أياد في تطوّر المجتمعات الغربيّة وفي اقتصاداتها، وما لهُم من دَور في قيادة إعلام يصنع الرأي العامّ داخل شعوب تعيش على إيقاع أدوات الاتّصال، وتحت تأثير الصور التلفزيّة، بمختلف أنواعها. وإحقـــاقا للحقّ، فالجمــوع اليهوديّة التي التحقت بمجتمعـات أوروبّية أو أمريكيّة، ساهمت في النضــــالات الاجتمـــاعية التي شهدتها تلك المجتمعـــات؛ بل إنّ البعض من هؤلاء الوافدين احتلّوا الصدارة في هذا الشأن، وكانت لهُم فيه الكلمة الفصل؛ ممّا جعَل البعض منهم ركنا من أركان الفكر، وجعَل البعض أيضا وجها من وجوه الضمير الاجتماعي، وبعضهم اعتبر قدوةً  للشباب؛ وجُعلت أسماء بعضهم منــارات في أمـــاكن عموميّة مرموقة.

فمن حظّ إسرائيل أن يكون لها، في الدُول الفاعلة عالميّا، مَــن يُســـاندها، ويَجلب لها الأنصار. وإحقاقا للـواقع، أيضـا، فإنّ الجماعات اليهوديّة التي التحقت بالشعوب الأوروبّية والأمريكيّة، اجتهــدت، بذكـــاء، لتوخّي ما يُمكّنه من الانصهار، دون حـرج. واجتهدت، ببالغ الدهاء، لإطفاء مشاعر «اللاّسامية» في تلك المجتمعات، وقلبها إلى مشاعر الخجل والحياء ممّا حصل أيّام النازية، وإلى مواقف المناصرة لإسرائيل. كما أنّ اليهود الوافدين تحاشوا أن تكون مميّزاتهم العِرقيّة أو الدّينيّة ظاهرة سافرة، حتّى لا يؤذوا أهل البلاد، فيظهروا في مظهر الأجانب عن تلك الشعوب. وفي الأوساط اليهوديّة الراقية، ليس بقليل مَن ينتخبون لأبنائهم من الأسماء الرائجة في المجتمع، وأحيانا ممّا هو مرتبط بتقاليد مسيحيّة. أمّا القادة العرب – حسب الرئيس بورڨيبة دائما – إذ أصرّوا، بعد الهزيمة الأولى سنة 1947، على استرجاع الأراضي الفلسطينيّة بالقوّة، سواء ما أُخذ منهم بقرار دُولي، وما احتُـلّ بحرب – فقد حكموا على شعوبهم بمُواجهة حروب خاسرة، أربكـــت علاقاتهم مع أغلب الدُول المتقدّمة في العالم.

والرئيس بورڨيبة يُؤكّد أنّ الخِطّة العربيّة، في مواجهة إسرائيل، لها انعكاس سلبي على تنمية المجتمعات العربيّة ؛ إذ تجعل أغلب مواردها مخصّصة –وسُـــدى– لِما تسمّيه لوازم تلك المواجهة، وخاصّة شراء أنواع السلاح الباهظة الاثمـــان –لِتبقى مكدّسة، دون أيّ نفع منها، اللهمّ إلاّ فيما يطرأ بين الأجوار من مشاكسات. ويلاحظ بورڨيبة أنّ من الفوارق العجيبة أنّ العرب لم ينتبهوا إلى أنّ لهُم، على الدُول الكُبرى، فضل تمويل صناعاتهم الحـربيّة، برصد مبالغ طائلة لذلك، بينما إسرائيل هي التي تحظى بالمناصرة من قِبل تلك الدُول، وتتلقّى منها المدد المادّي، والعون العسكري الذي به هزيمة العرب. ولئن كــان الــرأي العــام العربي، في أغلبه، مدفوعا، بتأثير الدعايات المُضادّة، إلى رفض النظريّة البورڨيبيّة، فإنّ إسرائيل، من جهتها، كانت منزعجة من آراء بورڨيبة؛ ذلك أنّه، لو انقادت الدُول العربيّة للنظريّة البورڨيبيّة، لكانت قَطعَت، عــن الــدولة اليهــوديّة، الطريق إلى ما كانت ترمي إليه من أهداف بعيدة، غير معلنة، لم تنكشف إلا ّمنذ عقود.

تفاصيل النظريّة البورڨيبيّة

والنظريّة البورڨيبيّة التي صدع بها صاحبها، خاصّة في أوائل الستـّينات، تقول: لئن كان قرار التقسيم المُعلن سنة 1947، ظالما في حقّ الفلسطينيّين، لأنّه أعطى من أراضيهم مَن ليسوا إذّاك مِن أهلها، فإنّ الأمر سيؤول إلى أسوإ من التقسيم، إن أصرّت الدُول العربيّة على طريقة الحرب. فالدُول العربيّة – السّبْع المستقلـّة إذّاك – اجتمعت كلمتها على مقاومة «الكيان الصهيوني» بوسائل حربيّة، رغم أنّها لم تكن لها القدرات اللازمة. أمّا اليهود، فإخوانهم في أوروبا، الذين لهم مهارات سياسيّة وخبرات عسكريّة عالية، هم الذين كانوا يقودون العمليات العسكريّة، ثمّ هُم الماسكون بمقاليد الحكومة الصهيونيّة، لا اليهود الشرقيّون، المعروفون، لدى العرب، لمحاكاتهم في التخلّـف وقلّـة الباع. ثـمّ إنّ المقاتلين الصهاينة كانوا يتلقَون، من الخارج، أنواع المساعدات؛ وتلتحــق بهم قيادات عسكــريّة يهــوديّة، من العــديـد من الدُول، وخاصّة منها دُول شيـــوعيــّة كانت تعدّها الحكــومات العربيّة صديقة لها.

أمّا في مستــوى السياسة الــدُوليّة، فلم يكن للعرب مَن يُساندهم، إذ قرار التقسيم اتُّخذ بموافقة الـدُول الغربيّة، وكذلك بمصادقة الدُول الشيوعيّة. وأوّل دولة أعلنت موافقتها الاتّحاد السوفياتي – الذي تعامل معه العرب وكأنّه من أكبر أنصارهم – لكن لم يُغيّروا من مواقفه السياسيّة أيّ شيء جوهري. ولئن كانت أبواق الدبلوماسيّة السوفياتيّة تعطي العرب «من طرف اللسان حلاوة»، فإنّ الحكومات الشيوعيّة، عامّة، لم تكن تُمدّ الجيوش العربيّة بوسائل هجوميّة، كفيلة – نظريّا – بأن تُـرجّح كفّتَهم في الحرب. فالعرب إذن كانوا يصرّون على حرب لا قِبَل لهم بها؛ وفي الآن نفســه، لم يكُن لهــم، في المحافل الدُوليّة، نصير. ويُؤكّـد الرئيس بورڨيبة أنّ اليهود ما كان يُرضيهم قرار التقسيم. ولكن تريّثوا في رفضه، على أمل أن يكفيَهم العرب المؤونة؛ «وتنفّـسوا الصُعداء»، لمّا بادر العرب إلى إعلان رفضهم. فكَفَوْا بذلك الصهاينة مغبّة الخِصام مـع أصدقائهم في الغــرب، وفي البلاد الشيوعيّة. لكن الحكـومة الاسرائيليّة اغتنمت إعلان الحرب من طرف العرب، فوسّعت من رُقعـــة الأرض التي أسنــدها القرار الدُولي إلى اليهود، وادّعت عندئذ أنّها تدافع عن الشرعيّة الدُوليّة، متمثّـلةً في قيام دولة إسرائيل، وأنّ عمليّات التوسّع إنّما تمّت في سياق ضمان أمنها.

وبذلك – وما حدث منذئذ يؤكّـده – فإنّ الخطة الصهيونيّة كانت تهدف إلى التظاهر بالتعامل إيجابيا مع الشــرعيّة الـدُوليّة؛ وكانت، في الحقيقة، تعمد إلى توسيع رقعة الدولة اليهوديّة، سعيا إلى تنفيذ المقاصد الصهيونيّة، كاملة: لِيتمّ، بذلك، للصهاينة، السَند الدبلومــاســي في المنتظــم الدُولي، والنصر المؤزّر علـى أرض القتال، فيقرّبهـم أكثر فأكثـر إلى تحقيق خطّتهم؛ مع بقاء العــــرب، في تلك الأثناء معزولين سياسيًّا عـــن الـــرأي العام الدُولي، مُكَبَّلين بقيود تخلّفهــم، لا قدرة لهــم على الانتصار، في ميادين القتال. فالنظريّــة البـــورڨيبيّة إنّما رفضــت الخطّة العربيّة غيرةً على القضيّة، لا خيانة لها وللحقوق العربيّة، كما قِيل؛ وكانت تمثّل ذودًا عن الحقّ العربي، بالسلاح الوحيد الذي يُمكن للعرب الالتجاء إليه: وهو التخطيط السياسي؛ لا سيّما أنّ صاحبها تنبّأ بأنّ الوضع العربي متّجــه إلى أن ينتقـــل مــن سيّء إلى أسوإ، ما تمسّك القادة العرب بطـريقتهم الفاشلة. والرئيس بورڨيبة أعلن عن رأيه، في أوائل سنة 1965، إذن قبل حــرب 1967؛ وكانت إذّاك الضفّـة والقطاع والقدس الشرقيّة، في أيدي العرب. أمّا، بعد «حرب الأيّام الستّة» – كما سمّـــاها الصهــاينة – والتي مكّنت إسرائيل من تحقيــق حُلمـها، أو ما يُقـــارب، فالأمر اختلــف تماما. وللتاريخ أنّ بورڨيبة، لمّا كان لاجئا بالقاهرة، قبل الاستقلال، سُئل عن رأيه في القضيّة الفلسطينيّة: فأجـاب بما يُنبئ بما سيكون موقفَه، بعد تسلّـمه الحكــم: وهو قبول قرار التقسيم، في حدوده الدُوليّة.

استفادة عربيّة –متأخّـرة– من الفكر البورڨيبي

وطرأت أحداث جعلـت جامعـة الدُول العربيّة تنتقل إلى تونس؛ وسُمّي على أمانتها وزير تونسي. وتساءل الكثيرون هل تكون فرصة لجعل آراء بورڨيـــبة تصـــل إلى مراجع القرار العربي. وذلك ما وقـــع فعــلا، ولكــن، والحـــــقّ يُقــال، مــن خـلال التفاهم الحميـم الذي كــان يجمــع بين الملك الحسن الثــــاني والأميــر فهـــد بن عبدالعـــزيـــز – أميرا، إذّاك، لكن صاحب النفوذ الحقيقي– وتمّ ذلك برعاية، لا شكّ، من الأمين العام، الذي كان، مدّة إشرافه على الإعلام في تـــونس، من المدافعين عن النظريّة البورڨيبيّة. والصداقة التي كانت بين الحكومة المغربيّة والحكومة السعوديّة، ومشاعر الإعجاب التي كــان يكنـّهـــا المسؤولون السعوديّون للعاهل المغربي، هــذه وتلك، هــي التــي جعلت الأمير فهد يتقدّم إلى قمّة فاس، سنة 1981، بمشـروع قرار يقضي باعتراف الدُول العربيّة بإسرائيل رسميّا، مقابل انسحابها من الأراضي المحتلّـة سنة 1967، وقبولها بقيام دولة فلسطينيّة مستقلّـة.

وبعد صعوبات كثيرة، تمّت المصادقة على المشروع السعودي، في قمّـــة فاس الثانية، سنة 1982. لكن إسرائيل لم تعبّر علانيّة عن موقفها، وحضّت أصدقاءها على عدم التعامل مع هذه الخطّة. وشهادةً للحقّ، فإنّ الرئيس بورڨيبـــة لم يتدخـّــل في شــــؤون الأمانة العامّة، مدّة وجودها بالعــاصمة التونسيّة. وكأنّه أراد أن يتجنّب ما كانت تُتّهم به حكومات القاهرة من تأثير على شؤون الجامعة العربيّة – وهو أيضا، لا شكّ، أعلم بمحدوديّة قُدُرات الدولة التونسيّة في هذا الصدد؛ وهو، على كلّ، لم يشأ أن يُسبّب للأمانة العامّة تعقيدات لا تخدم سمعة تونس، ولا تفيد الأمين العام التونسي –وهـــو كاتب هـــذه السطور– في اضطلاعه بمسؤولياته العربيّة.

المنعرج العربي

كان قرار قمّة فاس منعرجا في تطوير الحساسيّة العربيّة، إزاء إسرائيل. وكان يُمكن أن يحقّق هذا التحوّل نتائج، لو قامت الدُول الغربيّة والشيوعيّة – وخاصّة الاتّحاد السوفياتي والولايات المتّحدة –بالدور الصحيح، في تهيئة الأوضاع الإقليميّة من أجل إحداث تقارب إسرائيلي – فلسطيني، يُمكّـن مــن إقــامة دولة فلسطينيّة ترعاها الأمم المتّحدة، ومن استتباب الأمن في المنطقة، بصورة دائمة. فقد شُكّـل وفـد وزاري – برئـــاسة الملك الحسن الثاني، تارة، وتارات بـرئاسة الملك الحسين بن طلال – لِزيارة كـُبريات العواصم العالميّة، وإعلامهم رسميّا بالقرار، وطلب معونتهم على التنفيذ. ولقي الوفد العربي إلى واشنطن، برئاسة الملك الحسن الثاني، ترحابا رسميًّا؛ لكن الموقف الأمريكي بقي غائما: فالرئيس ريغن اقتصر، عند اجتماعه بالوفد، على تلاوة مذكرتين: تلا الأولى في مستهلّ الاجتماع، وتلا الثانية في الختام. وما عدا  المذكّـرتين – أعدّهما، لا شـــكّ، مستشارو الرئاسة، قبل وصول الوفد العربي – لم يزد الرئيس كلمة تفيد مساندته للمشروع. ونأسف إن لم تدرك الحكومة الأمريكيّة – أو أنّ أوضاعها الداخليّة منعتها – أنّ تطوّر الموقف العربي كان فرصة تاريخيّة، لا تعوّض لإسرائيل نفسها، وللعرب، وللسلام عامّة. ثمّ إنّ ذات المقترح السعودي، تقريبا، أعيد، بعد مدّة، تقديمه سنة 2002 إلى قمّة بيروت، باسم الملك عبدالله؛ لكن لم يكن له أيّ مفعول على أرض الواقع.ذلك أنّ «الكيان الصهيوني» صار أشدّ تعنُّتا، لا يأتمر إلا ّبما يظنّه المصلحة الإسرائيليّة: وهو السعي إلى الاستحواذ على كامل الأراضي الفلسطينيّة، لأنّ الصهاينة مصرّون على اعتبار كلّ ذلك أرض اليهود التاريخيّة. ورئيس الحكومة الوحيد الذي همّ بالخروج عن هذا المسار، تمّ اغتياله؛ واعتُـبر قاتله من الأبطال.

 

وبقي الوضع في المنطقة أعرج: إسرائيل، رغم وسائل قوّتها، لا ترعوي؛ والجانب الفلسطيني في تمزّق، والمجموعة الدُوليّة رهينة العجز الأمريكي، والآراء العربيّة في اختلاف ؛ والمصالح الدُوليّة في تنافر.لكن تبقى القضيّة الفلسطينيّة، لدى العرب، في تمزّق : بين الواجب الأخلاقي، والداعي الوطني، والوازع الحضاري، من جهة، وبين الانزعاج المتزايد من مُعطّـلات النموّ ومُحبطات التحديث والنهوض، من جهة أخرى. وتبقى القضيّة الفلسطينيّة، أثناء كلّ ذلك، هي الضحيّة الكبرى.

التقاعس الدُولي

لقد قيل إنّ خلاصة القضيّة الفلسطينيّة سلسلة من الفــــرص الضـائعة. فلقد كاد جمـــال عبـــد الناصــر يقبــل – في محادثة ثنائيّة – بمنطق الواقع، عند اجتماعه بالرئيس التونسي الحبيب بورڨيبة، في القاهرة، سنة 1965؛ ثمّ، خُتِمت هذه الزيارة، بتوتّـــر جـديد في العلاقات المصريّة التونسيّة، لِرفض بورڨيبة ما عبّر عنه بـ«لخضوع» للقرار المصري، بقطع العلاقة مع ألمانيا الفيديراليّة – دُون سابق استشارته. وأمّا اللحمة التي كانت تجمع بين المملكة المغربيّة والمملكة العربيّة السعوديّة، فلم تقدر على إقناع الولايات المتّحدة بضرورة إنضاج القرار الإسرائيلي لفائدة السلام. فاللوبي الصهيوني ظهر أقوى، داخل المجتمع الأمريكي من المصالح الأمريكيّة لدى دُول عربيّة.

والرئيس الأمريكي باراك أوباما، بعد خطابه المشهود في جامعة القاهرة، لم يقدر على تنفيذ أيّ خطوة من الخطى التي أعلن أنّها ضروريّة للسلام. أمّا الشقّ الشيوعي من الملإ الدُولي، فأغلب العرب يطلبون ودّه، مع التمسّك بالنظام الليبرالي والانتماء سياسيّا إلى المعسكر الغربي. فلا شيء من كلّ ذلك كان يُجدي نفعًا. وغير مجد، في اجتهــــاد الرئيــس بورڨيبة واعتقاده، أن يجمـــع العــــرب بين الشيء وضدّه، وهُم يحسبونه من البراعة والدهاء. وبقيت»ديار لقمان» على أحـــــوالها: مــن تفــــاقم العذابات الفلسطينيّة، والإصرار الإسرائيلي والعجز الأمريكي، والتشتّـت العربي. ولم يتنبّـــأ أحـــد في واشنطن – رغـــم احتضانها لأهمّ مراكز الدراسات الاستشرافيّة – أنّ استمـــرار تعفّـن الوضـــع العـــربي سوف يُنشىء التربة الحاضنة لِمــا هو أمـــرّ وأدهى من الصِراع العربي الإســــرائيلي ولا قِبَـــلَ للعــالم أجمع بالسيطرة عليه في آماد منظورة: أعني الفتنة الإرهابيّة، التي تُهدّد السلام والإنمــاء، في أغلــب دُول المنطقـــة. ألا يُمكن أن نقول أيضا إنّ اضطرابات الأمن الدُولي، هي أيضا قصّة فُرص ضائعة، بسبب تقــاعس ذوي النفوذ القيادي في المستوى الدُولي؟

لكن، لئن كانت آفة الإرهـــاب – المتولدة خاصّة عن المظلمة الفلسطينيّة – منتشرة في كثير من الأقطار، فإنّه من دهاء إسرائيل أن استطاعت إيجاد توافقات ثابتة مع ما في مجتمعها من تكتّلات مُتعصّبة: فالإرهاب اليهودي لا يُهـدّد مصالح المجتمـع الإسرائيلي، إذ منهــا يستمدّ دوافــع الغلوّ؛ والحـكومـة الإســرائيليّة لا تـعـطّـل مبـادرات إرهابيّة، مهما كانت، ما دامت مُتّجهة إلى الخارج.أمّـــا الإرهـاب في الـدُول العـــربيــّة، فمُتصَدّ لِمصــالح حيـويّة في مجتمعاتها، لِيـزيدها خصاصة وارتبــاكًا، واحتيـــاجًا إلى معـونــات خارجيّة، قد تطول السيــادة، وقــد تُـــربك مناخ التعاون البَيْني، فتزيد شعوبنا تمزّقا.

أليـــس، في تمـادي هـــذه الأوضـاع العـــربيّة المأساويّة ما قد يجعل إسرائيل تقول: «ذاك مـا كّنّـا نبغي»؟

كيف يُمــكـــن أن نُخـــرج القضيــّة الفلسطينيّة من المأزق الذي تردّت فيه؟

لمّا أصبح الإرهاب يُنَاوش معًـا المجموعة الأوروبّية والولايات المُتّحدة، فالحلّ الأوفـــق اتّفــاقهما–وبالتــعــاون مــع العُقـــلاء مــن الصهاينة– على تطويع إسرائيــل لِتتخلّى عمّا في النظريّة الصهيونيّة من غُلوّ وإسراف، والركـون إلى سياسة واقعيّة، كفيلة بتوطيد الأمن للجميع. لكن الأمر يقتضي ثورة في العقليات، لدى المجموعات الصهيونيّة، وخاصّة في أمريكا وداخل المجتمع الإسرائيلي، للاكتفـــاء بما يُيَسّر لليهــود النفــاذ إلى تراثهم التاريخي، دون طموح إلى السيطرة على أجوارهم.

وإنّمّا ذلك هـــو الذي مــن شأنه أن ينشــر، داخل المجتمعـات العـربيّة والإســـلاميّة، «ثورة ثقافيّة» تجعل ممكنًا التعايش مــع إسرائيل – بصيغ يُتَفاوض لِضبطها، عند قِيام الوضع الجديد.

الشاذلي القليبي

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.