أخبار - 2017.08.15

عبد الحفيظ الهرقام: الديمقـراطية المتـوحّـــشة والجهل المؤسَّس

 عبد الحفيظ الهرقام: الديمقـراطية المتـوحّـــشة والجهل المؤسَّس

يوم 26 أوت الجاري، تمرّ سنة كاملة على نيل حكومة يوسف الشاهد ثقة مجلس نوّاب الشعب، وقد أُريدَ لها أن تكون «حكومة وحدة وطنيّة»، مهمّتها تنفيذ «اتّفاق قرطاج». ماذا بقي اليوم من روح ذلك الاتّفاق؟ وهل أوفت كلّ الأطراف الموقّعة عليه بالتزاماتها بدعم العمل الحكومي متى كان منسجما مع ما أُقرّ من خيارات وتوجّهات مشتركة؟ ولعلّ المفارقة العجيبة التي نلحظها، عاما بعد قيام هذه الحكومة، هي أنّ التعامل معها من قبل حزبي الأغلبيّة و بقية الأحزاب المشاركة فيها ظلّ يتغيّر حسب الظروف والمصالح الذاتية.. تعامل يتراوح أحيانا بين دعم مشروط وإمساك عن الإصداع بالموقف في ما يشبه الرفض الصامت؛ فكأنّ قدر الشاهد أن يتحمّل وحده مسؤولية الإخفاق وأن يحيل إلى حساب الغير ثمرة جهده.

وجاءت «نصيحة» راشد الغنوشي زعيم حركة النهضة ليوسف الشاهد بإعلان عدم ترشّحه للانتخابات الرئاسيّة القادمة حتّى «يركّز كلّ اهتمامه على معالجة الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية»، لتثير جدلا واسعا في الأوساط السياسية وتفتح أبوابا عديدة للتأويلات.

وقد اشتدّت الضغوط في الآونة الأخيرة على رئيس الحكومة لحمله على القيام بتحوير وزاري، خاصّة من قبل «نداء تونس» و«النهضة»، واقترنت تلك الضغوط بدعوة من هذين الحزبين إلى تنظيم حوار اقتصادي واجتماعي رأى فيها عدد من الملاحظين مناورة لوضع الشاهد تحت الوصاية.. دعوة سرعان ما رفضها الاتحاد العام التونسي للشغل. وقد أعطى ذلك انطباعا بأنّ تونس تعيش حالة جديدة من عدم الاستقرار السياسي، وهو ما من شأنه أن يربك عمل الإدارة وسير مؤسسات الدولة ويفتّ في عزائم إطاراتها وأعوانها في هذا الظرف الصعب الذي تمرّ به البلاد.

في الحقيقة، أصبح السعي إلى الإطاحة بالحكومة أو المطالبة بإجراء تعديل وزاري، حتّى ولو كان ذلك أسابيع أو أشهر قليلة بعد تشكيلها، بحثا عن المناصب أو ترضيةً لبعض الأطراف، أمرا مألوفا في تونس. فقد تعاقبت منذ 17 جانفي 2011 وإلى حدّ هذا اليوم  تسع حكومات ضمّت أكثر من مائتي وزير وكاتب دولة!

وعلاوة على ذلك يجب ألّا نغفل عمّا طفا على السطح في السنوات الأخيرة من ممارسات ساهمت في تلويث الحياة السياسية والاجتماعية، فإلى جانب شرعية صندوق الاقتراع، برزت في السياق الثوري «شرعيات جديدة» يُراد لها أن تتكرّس من خلال حكم الشارع والاعتصامات والتمرّد على سلطة الدولة والمؤسسات القائمة باسم الحريات والديمقراطية، وهو ما أسماه الأستاذ عياض بن عاشور بـ «الديمقراطية المتوحّشة». ومن مظاهرها، حسب رأيه، «نزعة إلى الفئوية والتسيّس المفرط تمارسها منظمات مهنية ونقابية تنحو إلى تجاوز صلاحياتها على نطاق واسع. ثم أنّ الأحزاب السياسية تحرّكها نوازع نرجسية وشعبوية. وأصبحت المصالح الآنية أعلى شأنا وقيمة من معنى الدولة ومن البحث عن الصالح العام».

ولنا أن نستحضر في هذا الصدد الدور المتعاظم للمنظّمة الشغيلة التي تحرص على أن تكون طرفا فاعلا في معالجة مختلف القضايا الجوهرية، بيد أنّها لم تحسم بعد في العديد منها، ومن بينها إصلاح المؤسسات والمنشآت العمومية الذي نخصّص له ملفّا في هذا العدد الجديد لمجلة ليدرز لشهر أوت.

في ظرفيّة حرجة، تقبل البلاد، في الأسابيع القادمة، على عودة سياسية - ولعلّها انطلقت بعد- ستكون من أبرز عناوينها:

  • مدى إصرار الحكومة على الاستمرار في الحرب على الفساد والرشوة والتصدي لمحاولات إجهاضها.
  • ضرورة متأكّدة لبذل قصارى الجهود في سبيل تعبئة الموارد الماليّة اللازمة لاستكمال تمويل ميزانية 2017 والإعداد لقانون الماليّة ولميزانية 2018 التي ستكون سنة صعبة على صعيد التوازنات العامّة.
  • تهيئة الظروف الملائمة لتنظيم الانتخابات البلدية في موعدها المحدّد يوم 17 ديسمبر 2017 والتي سيُفتح باب الترشّح لها من 19 إلى 26 سبتمبر القادم، على الرغم من تشكيك البعض في القدرة على إجرائها في هذا الموعد.
  • تركيز المحكمة الدستورية بعد تولّي رئيس الجمهورية تعيين أربعة من أعضائها، اعتبارا لمكانتها الهامّة ضمن المنظومة الدستورية الجديدة.

ومن المواعيد المنتظرة أيضا العودة المدرسية والجامعية، حيث سيأخذ أكثر من مليوني تلميذ و260 ألف طالب طريقهم إلى المدارس والمعاهد والكليات، في وقت لا تبدو فيه المؤسسة التربويّة في أفضل حال، فلم يعد خافيا على الجميع أنّ هذه المؤسسة التي راهنت عليها تونس منذ الاستقلال لتكوين نخب مقتدرة وأجيال متعلّمة تشكو اليوم من علل ونقائص جمّة، من تجلّياتها تدنّي مستوى التلاميذ والطلبة وإطار التدريس والتفاوت الصارخ في نسب النجاح في الامتحانات الوطنية بين الجهات وتفاقم ظاهرة الانقطاع المدرسي، علاوة على مواطن الضعف والقصور في البرامج والمناهج التربويّة التي لا تساهم بالقدر الكافي في نحت الشخصية المستقلّة ولا تولي الأهمية القصوى لمكانة العقل والفكر النقدي، بل أصبحت، كما تبيّنه حالات عدّة، منبتا للتطرّف والتعصّب وللجهل المؤسَّس، على حدّ تعبير المفكّر محمّد أركون.. ألم يحن الوقت للإسراع بوضع مشروع الإصلاح التربوي موضع التنفيذ حتّى ينخرط التعليم في روح العصر ويستعيد دوره مصعدا اجتماعيا ومكوّنا للكفاءات العالية؟

قد لا نجانب الصواب إن قلنا إنّ من أوكد الأولويات اليوم العمل على تخليص تونس من فكّي كمّاشة الديمقراطية المتوحّشة والجهل المؤسَّس بناءً لمستقبل أفضل.

عبد الحفيظ الهرقام

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.