أخبار - 2017.07.06

أيّ مستقبل بعد الثورة في ظل عالم مضطرب وعَوْلَمة بدون حَوْكمة؟

أيّ مستقبل بعد الثورة في ظل عالم مضطرب وعَوْلَمة بدون حَوْكمة؟

إنّ الوضع الجغراسياسي العالمي في حالة عدم استقرار ويشهد تغيرات عميقة تنبئ ببداية عصر جديد كما حدث ذلك في القرن التاسع عشر بفعل الثورة الصناعية. هذه التغيرات هي علمية وتكنولجية وهي أيضا تحول مركز الثقل الاقتصادي العالمي من الغرب إلى الشرق بفضل سرعة النمو الذي شهدته الصين وهي التي استغلت أيّما استغلال ظاهرة العولمة الاقتصادية التي جلبت لها الاستثمار الأجنبي ومعه التكنواوجيا كما سمحت لمنتجاته بغزو الأسواق العالمية بدون حواجز لما انخرطت في اتفاقيات المنظمة العالمية للتجارة(1). إنّ نجاح الصين ودول أخرى جنوب شرق آسيا وغيرها دفع الكثيرين إلى التغنّي بالعولمة وانعكساتها الإيجابية على الدول النامية خاصة أنّها تفتح آفاقا هائله بفضل رفع الحواجز الديوانية وتحرّر التجارة ممّا يخلق فرصا لا متناهية للدول التي تنخرط في هذا التيار. وإن كان في هذا شيء من الصحة فإنّ المنافسة الاقتصادية على صعيد كوني يشوبها عدم المساواة بين اقتصاديات مزدهرة تمتاز بمنتجات ذات قيمة مضافة عالية وتعتمد على تكنولوجيا متطورة وعلى قدرات متقدمة في التصرف بجميع أبعاده من حيث التنظيم ونسق الإنتاج وخاصة التسويق. وبقدر ما يوفّر الانخراط في العولمة فرصا فإنّه يعرّض إلى خطر انتشار الأزمات، الشيء الذي حدث في 2008 لمّا انهارت الأسواق المالية في عديد الدول الغربية والشرقية بسبب أزمة الرهن العقاري (سوبريم)، ومن بين تداعيات هذه الأزمة أن اتّضح جليّا أنّ تيار العولمة يفتقد إلى حوكمة صالحة وعادلة.

إنّ من عناصر الحوكمة، وجوب مشاركة المعنيين في اتخاذ القرارات والشفافية في إدارة الشأن العام وكذلك المساءلة، لكن أيّ قدرة للمنظومة الدولية على المساءلة؟ مساءلة من كانوا السبب في الأزمة؟ وأيّ مساءلة للمؤسسات المالية التي كان لها ولا يزال دور في توجيه سياسات الدول خاصّة منها الفقيرة وحثّها على التداين في كثير من الحالات لبعث مشاريع ضخمة تفوق طاقتها على التسديد؟ وهي قبل كل شيء استثمارات تمثّل فرصا مهمّة جدّا للشركات متعدّدة الجنسيات والعابرة للدول والقارات للاستثمار والربح الوفير دون اعتبار ما سيعود بالنفع على سكّان الدول المقترضة. وفي هذا الإطار كتب الأمريكي John Perkins الذي كان يعمل في مؤسسة استشارات كوسيط، تتمثّل مهمته في إقناع الحكومات على الاستثمار في بعض المشاريع الضخمة. وقد أصدر بركينز كتابا هذا بعد حرب الخليج الثانية بعنوان «Confessions of an Economic Hitman» أي "اعترافات قاتل اقتصادي مأجور"(2)، وفيه الكثير من أمثلة المشاريع التي تدخّل فيها وكانت في عديد من الدول من بينها السعودية ودول أمريكا اللاتينية. يذكر على سبيل المثال الخطة التي قدمت للأسرة الحاكمة بالمملكة السعودية من طرف الأمريكان من أجل إعادة الأموال المتأتية من البترول إلى الاقتصاد الأمريكي من خلال الاستثمار في البنية التحتية وحتى تشيّد مُدُن كاملة من طرف مؤسسات أمريكية مقابل حماية الحكم القائم وإلا فسيلقى مصير مصدّق بإيران لما أقدم على تأميم المنشآت البترولية ونزعها من قبضة الشركات الانقليزية!

أيّ مساءلة أيضا للولايات المتّحدة الأمريكية، القوّة الكبرى في العالم التي تعتمد - كما بيّنت Naomi Klein في كتابها "The Shock Doctrine"- خلق الصدمات والمصائب لإتاحة الفرصة للاستثمار المربح بالإضافة إلى تغذية بؤر التوتّر في العالم من خلال الحروب والأزمات في عديد الدول من الفيتنام إلى العراق(3).

وهل يمكن مساءلة دول مجموعة الثمانية ومجموعة العشرين التي من المؤمل أن تضع  منظومة جديدة لحَوْكمة العالم؟ ماذا يمكن أن ننتظر منها إذا لم تكن هناك سلطة مضادة لمساءلتها؟ هم يتحدثون عن القيم وكأنها حكرعليهم ولكن سياساتهم لا توجهها إلا المصالح التي لولاها لما خربت دول كليبيا والعراق وسوريا اليوم ومن المحتمل أنّ دولا عربية أخرى هي ضمن أجنداتهم.

لكن أليس غياب القيم بدولنا العربية وما يطلق عليه اسم العالم الثالث هي سبب الوهن الذي أصابها والذي جعلها لقمة سائغة في فم الدول القوية باقتصادها وسلاحها وقدراتها المؤسساتية والاستراتيجية؟ أليس فقدان الحكام للقيم هو الذي سمح لهم بالبقاء متفردين بالسلطة لعقود، هم وعائلاتهم وبطانتهم وباستعمال القوة المفرطة لتكميم أصوات كل المعارضين بالسجن والحرمان من الشغل وحتى التصفية الجسدية؟ أمّا نتيجة هذا التعسف فهي لا تنتهي بنهاية هؤلاء الحكام وإنّما تأثيرها يستمر على المدى الطويل. فالحياة في ظلّ الدكتاتورية التي تقتل حرية التعبير والتنظّم تعيق قدرة المجتمعات على إنتاج القيادات وإعطاء الشباب فرصة المساهمة في التدرّب على العمل السياسي. وبما أنّ النظام الدكتاتوري يخترق كلّ القطاعات فإنه من خلال التعليم والاتصال والإعلام يثني الرغبة في المبادرة والمخاطرة ، ممّا يؤثر في نسق بعث المشاريع، وبالإضافة إلى غياب العدالة في تطبيق القوانين يفتح الباب على مصراعيه لانتشار الفساد واستفحاله، وهكذا يطغى اقتصاد الريع ويضعف الإنتاج وتتعزّز التبعية لمؤسسات الاقتراض والمؤسسات الكبرى عابرة القارات والدول التي تحمي مصالح هذه المؤسسات. وعندما تشتدّ الأزمة وتحدث ثورات إمّا تلقائية أو موجّهة فيرتقي إلى الحكم من كانوا معارضين في السابق كان الكثير منهم يحتمي بدولة من الدول الغربية الكبرى، فيبعدون كل الذين تحمّلوا مسؤوليات قبل الثورة بقطع النظر عن كفاءاتهم ونزاهتهم ويأتون بأقربائهم ومن وَالاهم أو انخرط في أحزابهم، وأغلبهم لا تجربة لهم في إدارة الشأن العام ولا يمتلكون الحكمة السياسية، همهم الرئيسي يبقي الانتقام والصراع على المناصب الممزوج بالتنافس الأيديولوجي. هكذا تتفاقم الأزمات بجميع أشكالها وتتعمّق ولا تُرى لها نهاية في الأفق القريب على الأقل. وهذا لا يعني أنه لا يوجد من بين الذين تحمّلوا مسؤوليات بعد الثورة أناسٌ وطنيون ذوو مبادئ وأخلاق ويبحثون عن خدمة الصالح العامّ، لكن يبدو أن تحوّل موازين القوى لصالحهم يتطلب وقتا طويلا، طويلا.

د. رياض الزغل

(2) Martin Jaques (2009) When China Rules the World, The Penguin Press, New York

(2) John Perkins (2004) Confessions of an Economic Hitman, Berrett Koehler Publishers, San Francisco

(3) Naomi Klein (2010) The Shock Doctrine, Macmillan Publishers

 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
1 تعليق
التعليقات
عبد الكريم الحصايري - 07-07-2017 12:14

شكرا على كتابة هذا المقال

X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.