عادل الأحمر: غـــــدوة نحـــرق !

عادل الأحمر: غـــــدوة نحـــرق !

فاجأني صديقي العيّاش صباح هذا اليوم بطلعة موش نرمال، تجاوزت حـــدود كل ما أعرفـــه عنــه مـــن هبال. فقد زارني في بيتي وهو مهموم، والدجاج الأسود حوله يحوم، فلم يسلّم سلام العادة، ذلك السلام الرائق الذي يتخذ شكل «تيرادة».

وعندما اكتفى صديقي بتصبيحة شايحة، لا لون فيها ولا طعم ولا رائحة، فهمت في الحال أن أمورو موش قد قد، وكيفي أنا ما يفهمو حد. ولما سألته عن سبب هذه التكشبيرة، أجابني  وقد بدت منه تكشيرة، تصيب بالإحباط أكبر المتفائلين، وتطيّح الدمار في الركايب والساقين،: «أتسألني عن أحوالي وما فيها من جديد، وأنت تعلم أني مثل «الصاندويتش» بين رمضان المعظم والعيد، وزاد دزت عليّ فاتورات الستاغ والصوناد والتليفون، وكأنّ الجماعة على تفليسي متفقون، وكملت  عليهم الدروس الخصوصية، بعد تراجع الوزارة عن منعها لأسباب لا تعرفها إلا هي».

قلت للعيّاش: «لكن ما الجديد في هذا أيها الصديق؟ فتلك هي حالك من ضيق إلى ضيق، منذ عرفتك توّه أعوام وسنين، هز ساق تغرق لخرى، إذا ما غرقوش لثنين». فأجاب العياش: «في الحقيقة لا جديد يذكر، بل القديم يعاد ويتكرر، لكنه بلغ اليوم حدا لا يمكن معه قبول أي مبرر. لذلك جئتك لأعلمك بقرار اتخذته في غاية الخطر»، فقاطعته مازحا: «لا تقل لي إنك تنوي أن تنتحر؟»، لكن المزحة لم تعجب الرجل، فأخذ يلومني ويقرعني حتى شعرت بالخجل.

ولما انتهى العيّاش من موعظته الأخلاقية، قدّمت له الاعتذار فقبل بكل أريحية، ثم قال: «لقد قرّرت، بعد تفكير عميق، أن «أحرق» إلى برّ الطليان»، فكدت أسقط من الدهشة وأنا أتمتم: «هذا جنون! هذا هذيان! أو فدلكة ماسطة تريد أن «تقصر» بها يوما من أيام رمضان»، فرد العيّاش وهو في كامل الجدية: «بل أنا في كل مداركي العقلية، وقد اتخذت قــراري عن روية، بعد أن  ضاقت بي السبل، ولم أجد لمشاكلي المزمنة أي ثنية...» فقاطعته: «صلّ على النبي يا رجل،ولا تفقد الأمل،فالحرقة مشكلة وليست هي الحل،ثم إنّ هذا الأمر ليس من عمرك، ولا يناسب مركزك»، فردّ علي دون تردّد: «إنّ  الحرقة مثل الحب ليس لها سنّ محدّد، ولا تقبل بالفوارق الاجتماعية، وغيرها من أشكال الميز الفئوية»، فقلت له: «إيه ... وأولادك  يا عيّاش وزوجتك؟ هل فكرت فيهم وأنت تخطط لهربتك؟»، فأجابني بكل ثقة: «أولادي وزوجتي سينعمون بفرحة الحياة، عندما ستتهاطل عليهم من إيطاليا الأوروات».

...على هذه الكلمات تركني العياش لحالي، وأنا غارق في خيالي، أرى صديقي قد هزّ الموج مركبه، ثم سقط بين فكي قرش فابتلعه ...وتتالت عليّ الخيالات الغريبة، والمشاهد الرهيبة، إلى أن غرقت في نوم عميق، أنساني ما كنت أتخيله من معاناة ذلك الصديق. وفي صباح الغد، وفور نزولي من الفراش، هاتفت صديقي العيّاش، فاستقبلني بتصبيحته المنعشة الفواحة، فقلت في نفسي: «سبحان مغير الأحوال والحمد لله على كل حال، فلعل الرجل قد عاد إلى سبيل الرشاد، وتخلى عن فكرة مغادرة  البلاد».

ودون تحية أو مقدمات، بادرته بهذه الكلمات: «أيه يا سيدي الحمد الله عليك، يظهر لي  ربي لطف بيك، وتراجعت يا صديقي  الحبيب، عن قرارك الغريب»، فقال لي متعجبا: «عن أي قرار تتحدث يا إنسان؟»، فأجبته: «قرار الحرقة لبلاد الطليان»، فضحك العياش ضحكة طال مداها وردّد الهاتف صداها، ثم قال: «حرقة؟! ولبلاد  الطليان؟! ما هذا الهذيان؟ ياخي عندك السخانة وإلا أثر فيك رمضان؟ برّه يا خويا شوف طبيب، وإلا صلّ على النبي الحبيب، بالكشي يرجع لك شاهد العقل، وتلقى لروحك حل».

ولما ذكّرت العيّاش بما تم بيننا نهار البارح، صك جملة وحدة وخلاّني في عقلي سارح، و أقسم بأغلظ الأيمان: «والله يا ولدي لا زرتك ولا جيتك، ولا شفتك ولا ريتك. ويظهر لي يا صاحبي نمت منامة وجدّت عليك، وعبيتها برشة في شقّان الفطر حتى مخك في الليل لعبها بيك» ...عند ذلك أيقنت أني كنت ضحية التمخميخ، وما قصة الحرقة إلا اختراع من عقل باطن أثقله الطبيخ.

(*)استعارة، دون استئذان، من عنوان شريط تونسي أخرجه محمد بن إسماعيل.

عادل الأحمر

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.