أخبار - 2017.06.20

بعد فتح المعركة ضدّ الفــــساد... الارتــداد قاتل

رشيد خشانة

انطلقت الحملة الراهنة على الفساد منذ أشهر بعيدة، بل يمكن القول إن التحضير لها بدأ منذ حكومة الحبيب الصيد. وتولى مجلس الأمن الوطني متابعة مراحل العملية، خطوة خطوة، في كنف التكتم المطلق. ويضم المجلس، الذي يترأسه رئيس الدولة، كلا من رئيس الحكومة ووزراء الدفاع والداخلية والعدل، بالإضافة إلى رئيس هيئة الأركان وآمر الحرس الوطني ورئيس فرقة مكافحة الإرهاب، وأحيانا تتم الاستعانة عند الاقتضاء بمسؤولين آخرين، بحسب علاقتهم بالملف المطروح للبحث.

في خطٍ مُواز كانت الأجهزة المعنية، على اختلافها، تقوم بشغلها في رصد العناصر المشبوهة، التي تمّت الإطاحة بها مؤخرا، بواسطة المراقبة والتنصّت من أجل تجميع أقصى ما يمكن من الحجج والأسانيد القانونية التي تُثبت إدانتها. كان الأمر يتطلب قرارا سياسيا قبل أن يكون أمنيا، بحكم نوعية الأسماء التي كانت تظهر على شاشة التحقيقات واحدا بعد الآخر، وهو ما حصل بالفعل في مرحلة مبكّرة من العملية. وإذا ما وضعنا  هذا المسار في سياقه، يتأكد أنّ الأمر لا يتعلّق بضربة جلدية ولا بعملية دعائية عابرة، وإنما بقرار سياسي له تداعياته البعيدة داخليا وإقليميا. بهذا المعنى يمكن أن نفهم لماذا كانت البيانات الرسمية تتحدث عن ضربة موجهة للإرهاب، بينما يرقص معظم الإعلام تحت يافطة الحرب على الفساد.

ما من شك في أن الحربين مترابطتان ومتكاملتان، إلا أن العمل الذي تمّ في إطار كشف الغطاء عن العلاقة بين التهريب والإرهاب، ساعد في الوقت نفسه على تعرية شبكات فساد كانت معروفة، لكن لم توجد الإرادة ولا الجسارة للقبض عليها، أو لأن من كانوا في مركز القرار تواطئوا معها. من هنا تُعتبر الخطوة التي قُطعت حريّة بالتسجيل لأنها فتحت على مسارات متعددة تشترك كلها في عنوان الفساد. واستطرادا، لم تكن المعركة ضدّ الإرهاب والفساد ترمي إلى تحويل اهتمام الرأي العام عن قضايا المحتجين في الجنوب، مثلما ردّد المتحفظون على محاربة الفساد، الذين يتمنون أن يُغلق الملف فورا، بل أن يُقبر قبل وصول شراره إلى ثيابهم وغرف نومهم. ولذا فلا خيار أمام الحكومة اليوم سوى المضي إلى الأمام في أرض صخرية وعرة، لأن الارتداد قاتلٌ.

ربما أول من خذل الحكومة في هذه المعركة هي أحزاب الحكـــومة، لأن كثيرا من عناصرها تحوم حولهم الشبهات، بل أكثر من الشبهـــة. ولذا نرى الحكومة في موقع ضعيف وفي وضع دفاعي أكثــر مما هو هجومي، مع أن جميع الأوراق القوية في يدها. لذا فوسيلتها لكسر العزلة هـــي الثبات على هذا الخط وتجاوز إطـــار الأحـــزاب الثمانية المُشكلة صوريا لـ«حكومة الوحدة الوطنية»، مـن أجــل كسب الثقة والتعاطف من 11 مليون تونسي يحلمــــون باليـــوم الذي تُدك فيه حصون الفساد في بلادهم. غير أن إحدى العقبات في هذا المسار هي الإخفاق الاتصالي الذريع، فبقدر ما نرى من التحدي والصفاقة في خطاب المدافعين عن الفساد والمُبررين لســـوآته، نلحـــظ أن الحكومة بلا صوت أو أنها متلعثمـــة وغــير قـــادرة على ردّ الصاع صاعين، بالرغم من أن موقفها القانوني والسياسي هو الأقوى.

إذا كان «كلُ واقف في تأخر» مثلما يقول المثل، فالوضع يقتضي اليوم فتح ملف آخر من ملفات الفساد بما يجعل حلقات المسار متصلة، ويُقيم الدليل للمشككين والمنتقدين على أن الخيار هو الخيار، وأن التراجع غير وارد، على ما أكد رئيس الحكومة قي تصريحاته الأخيرة. لنضرب مثلا بملف حارق ثقُلت موازينه منذ الثورة ولم يجرؤ أحد على الاقتراب منه، وهو تمويل الجمعيات. ألم يحن الوقت لرفع الغطاء عن بئر عميقة ابتلعت مبالغ طائلة لا يُعرف كيف تسربت ولا أين استقرت؟ هناك حاليا أكثر من 18000 جمعية من بينها 1800 جمعية تُراقبها الدولة من خلال الدعم الذي تتلقاه من الاتحاد الأوروبي وتوابعه، فماذا عن الجمعيات الأخرى؟ وماذا عن الأحزاب التي تلقت مبالغ كبيرة من الخارج بمناسبة الانتخابات؟ رمزيا، يكفي أن تمسك الحكومة بحلقة صغيرة مثل الجمعية التي كشفت وسائل الإعلام مؤخرا عن تلقيها تمويلا خليجيا بمائة مليون دينار أنفقت منه 90 مليونا على تسفير شبابنا إلى بُؤر الصراع في المشرق العربي.

في هذا السياق اتخذت بعض مكونات المجتمع المدني، على غرار الائتلاف المدني لمكافحة الفساد وجمعية «يقظ» وسواهما، مواقف بناءة لدعم الحملة الأخيرة على الفساد والإرهاب، مع تقديم بعض الاقتراحات الإيجابية ومنها تأمين الدّعم المالي واللوجستي والبشري لمختلف المؤسسات والهياكل المعنيّة بمكافحة الفساد،  كالقطب القضائي المالي والهيئة الوطنيّة لمكافحة الفساد، ودائرة المحاسبات وكلّ الهياكل الرقابيّة ذات الصلة، وإلزام تلك الهياكل بنشر التقارير التي تحتوي على عمليـــات فساد موثّقة للعمــــوم. كمــا اقترحت تطوير الإطار التشريعي لمكافحة الفساد والإسراع بالمصادقة على مشاريع قـــوانين مكافحة  الإثــــراء غير المشــروع والتصريح بالمكتسبات، ومنــع تضـــارب المصـــالح وســـنّ النصوص التطبيقية لقـــانـــون حماية  المُبلغين، بالإضافة إلى التفعيل الفــوري للاستراتيجية الوطنيّة للحوكمـــة الرشيـــدة ومكـــافحة الفساد وخطّة عملــها التي  تبنّتهـــا الحكــــومة وأمضـــت على ميثاقها  منذ  يوم 9 دسيمبر الماضي.

قُصارى القول إن المعركة مع الفساد ينبغي أن تستمر، مع الحرص على أن تكون الملفات متينة ودامغة، لأن الإحجام عن مداهمة أوكاره، مثلما فعلت الحكومات المتعاقبة الســابقة سيجعله يُرسّخ أقدامه ويتفرعن، مُوقّعا في حباله الموظف العمومي والتاجر البسيط فتتسع الدوائر، ومن ثمّ تعسر السيطرة عليها.

ومادامت ملفات الفساد عندنا دسمة ومتنوعة، يمكــــن للحكـــومة التقاط حلقاته، الواحدة بعد الأخرى، في معركة طويلة النفس تشمل فئات الفاسدين من رجال أعمال وموظفين سامين وسياسيين وأصحاب مؤسسات إعلامية وصحافيين ومُهربين... فالتونسيون نخبا وفئات شعبية، لا ينتظرون سوى قليل من الصدق في إدارة هذه المعــــركة، ليس بغاية المحاسبة والعقاب أو التشفي والانتقــام، وإنما خـــاصة من أجل وقف النزيف الذي يجعل من بلــد قادر على أن يكـون ســـويسرا أفـــريقيا، يتخبّـــط في وحل الأزمات الاجتمــاعيـــة والبيئـيّــــة والاقتصادية. والأجدى في المستقبل التعويل على مُكونات المجتمع المدني، بدل انتظار الدعم من الأحـزاب، لأنه بمثابة انتـــظار غودو، الرجل الذي لا يأتي في النهـاية في مسرحية صمويل بيكيت الشهيرة.

رشيد خشانة

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.