الانتخابات التشريعية البريطانية أكبر تحدّ للإرهاب
لقد قلب الإرهاب بالدم الحملة الانتخابية التي عاشتها بريطانيا خلال الأسابيع الأخيرة.فقد كانت منشتسر ولندن،على التوالي مسرحا لهجومات أعلنت داعش المسؤولية عنها.وهو ما عكّر صفو النقاش السياسي الذي كان من المفترض أن يطرح على الشعب البريطاني الخيارات الاستراتيجية الكبرى في إدارة مسار فكّ الارتباط بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي.
رغم الفجيــعــــة المضاعفة رفض السياسيـــــون البريطـــانيون الرضوخ لإرادة العدوّ حتى بمجرد تأجيــل الانتخابات.وقد كان في إصــرار تـــريزا ماي،رئيسة الحكومة البريطانية،على إجراء الانتخابات في موعدها،أي بعد خمسة أيام فقط من هجوم لندن،مخاطرة سياسية كبيرة،إذ كان بالإمكان أن يستغل خصومها هذا القرار لاتهامها بأنها تقدم أولوياتها السياسية على المصلحة العامة. كما كان من الممكن أن يشكّل تقدم حزبها في استطلاعات الرأي إحراجا لها.ولكن الطبقة السياسية البريطانية في عمومها لم تقع في الفخّ لأنّها فهمت معنى الانتصار على الإرهاب.ولاستيعــاب ذلك ينبغـــي توضيـــح الأبعاد الاستراتيجية لتنظيماته ..
يعلم الإرهابيون أنّ لا أمل لهم في إيذاء دولة عريقة كبريطانيا من خلال مجموعة من العمليات التي تستهدف المدنيين.ولكنهم يعلّقون آمالهم على خلق صدمة عاطفية وسط الرأي العام، بحيث تنهار الثقة التي تربط أوصال المجتمع،ممّا يمهّد لانحلال العقد الاجتماعي، أي أنّ الغاية الاستراتيجية للإرهاب لا تكون قي آثاره المباشرة، بل في آثاره غير المباشرة التي عبّر عنها منظّرو الإرهاب قديما وحديثا ومن أبرزهم يوهان موست،منظّر العنف الثوري عند التونسيين في القرن التاسع عشر وأبو مصعب السوري،أحد أبرز منظّري الإرهاب المعاصر.
لقد بدأ يوهان موست حياته ماركسيا،فلخّص كتاب رأس المال وتراسل مع ماركس وإنغلز.ولكنه سرعان ما انحرف إلى غلوّ تجاوز بسببه الشيوعية ليتبنى الفوضوية التي كتب فيها كثيرا ثم ازداد غلوّا فانتقل من الفوضوية المسالمة إلى الفوضوية العنيفة تحت شعار «البروباغاندا بالفعل لا بالقول «.وهو شعار يعكس تصوّره للثورة التي يرتضيها.اذ اعتبر أنّ للقول والتنظير أهمية، ولكنه يبقى محدودا من حيث الأثر. وعليه فإنه لا مجال لمحاربة المنظومة القائمة إلا بالعنف.ولم تعوزه الحجّة لتبرير ذلك فيما أن الإديولوجية الفوضوية تعرّف الدولة على أنّها التمظهر البنيوي للعنف في المجتمع فقد إدّعى موست أنّ الردّ لا يمكن أن يكون ذا نجاعة إلا باستخدام نفس الوسيلة.ومن ثمة دعوته إلى «ثورة مليئة بالديناميت والدم، حبلى بالمتفجرات والجثث».
ولم يعتمد موست في تقديمه لهذه الاستراتيجية على خطاب رومنسي وعاطفي، بل على تحليل منطقي وعقلي.فقد اعترف أنّ الديناميت في حدّ ذاته ليس قادرا على إسقاط الدول،فتلك وظيفة الثورة.ولكن الإرهاب وسيلة لإشعال فتيلها.وبطريقة أخرى تقوم استراتيجية موست على الاعتراف بأنّ الأثر المباشر للعنف لا يكفي لإسقاط الدول ولكن أثره غير المباشر قد يهيئ الطريق لهذه النتيجة .وهكذا يكون العنف مع موست،أولا وقبل كل شيء وسيلة تواصل قادرة على التعبير ببلاغة لا تحيطها الكلمات، وبقوّة لا تدركها العقول، أي أنه كالرسم ذو خطاب ومعنى،ولكن مع تحرّر من قيود اللغة يجعله أبلغ منها أداء وأنفذ أثرا.
بعد قرن ونّيف من الزمان حمل مشعل التنظير للإرهاب أبو مصعب السوري الذي اشتهر بما يسمى نظرية إدارة التوحش وهي تشترك مع استراتيجية ورست في صياغتها العقلية، إذ تقر ابتداء بعجز العنف عن إسقاط الدول .ولكنها تدعي، في المقابل أنّ بوسع الإرهاب، خاصة إذا بلغ حدا كبيرا من الكثافة،أن يطلق نوعين من الديناميكيات التي من شأنها إسقاط الدول. وأوّلها الاستقــطاب بالابهار .فالعنف أنجع للتجييش من أي خطاب نظري وثانيها الإخضاع بالرعب.ويعتمد ذلك بالأساس على التعبئة الإعلامية وما تخلقه من هوس لدى المتلقّي .وهو ما يذكّر بقول مارغرت تاتشر إنّ الإعلام أوكسيجان الإرهاب.وبقدر ما تكون العمليات فردية أو معتمدة على الخلايا الصغيرة فإنّها تكون أكثر انسجاما مع مثل هذه الاستراتيجيات.فاستحالة توقّعها والتعاطي بنجاعة دائمة معها تجعلها أقدر على تفكيك الثقة التي لا تقوم المجتمعات من دونها.وهو ما يفرض على الدول استنفار أكثر ما يمكن من وسائلها من أجل حماية منشآتها ومواطنيها.وتلك ديناميكية دفاعية تنتهي في أقصاها إلى تضخّم مسؤوليات الدولة تمهيدا لمطالب مؤسساتها.
وخلاصة القول إن أبا مصعب السوري يعلم، كما علم موست من قبله بعبثية العنف كوسيلة مباشرة ولكنهما ربطا آمالهما بأثر بعيد متخيّل لديهما وفهم ذلك ييسّر التعامل مع خطر الإرهاب، إذ أنّ واقع الأثر البعيد يكشف المأزق الذي فرضه الإرهابيون على أنفسهم ذلك أنهم سجينو اختلال التوازن بين إمكاناتهم وطموحاتهم.فالإرهاب سلاح الضعفاء الذين لا يكتفون برغبة التمرّد على الآخرين، لأنهم يمنّون النفس بالهيمنة السريعة عليهم، بل وعلى العالم ومن ثمّة حبكهم لسرديّة مفادها أنّ الإرهاب إذا ما أوجع المجتمع فإنه والدولة سيردان الفعل بما يحقّق غايات الإرهابيين، إذ من المأمول أن تنزلق الدولة نحو المبالغة في العنف في ردّة فعلها ،ممّا يقسّم المجتمع ويدفع مكوناته إلى الاحتراب.كما يمكن أن يبهر الإرهاب بحيث تغري مغامرته المزيد من الأنصار. ولكن ورغم الظاهر المنطقي للسردية المذكورة ،فإن الواقع يدحضها أي أنّ الواقع يؤكد أنّ الأثر غير المباشر الذي يعوّل عليه كلّ من يوهان موست وأبو مصعب السوري هامشي القيمة، بل إنه أقرب إلى الوهم.
وليبقى كذلك ينبغي الوعي بخطورة أي تلاعب سياسي أو فئوي بقضية الإرهاب. ومثال ذلك في بريطانيا مواظبة صناع الرأي،بكل مشاربهم وبلا استثناء تقــــريبا، على تبرئة الجالية المسلمة،بل وحتى أعضاء المجموعات السلفية فيها،من تهمــة الإرهاب. كما أنهم يصرون على الحفاظ على رباطة جأش الشعب البريطاني وعلى إثبات عبثية السعي إلى تفتيته أو تركيعه عن طريق العنف.وبالتالي ،يكون نجاح الانتخابات التشريعية بعد أقلّ من أسبوع من هجمات لندن أكبر تحدّ،بل وأبهى نصر، فلئن حظيت العمليات الإرهابية بنصبيها من التغطية الإعلامية، فإن استمرار الحملة الانتخابية قد كبح جماح الهوس الذي عادة ما يعقب مثل هذه الأحداث.وهو ما قلّل من أثر الصدمة وهو ما يثبت أهميّة تجاهل الإرهاب إعلاميا لتحقيق النصر عليه..
أيمن البوغانمي
- اكتب تعليق
- تعليق