حنان زبيس: أيّ دور لإيران ما بعد داعش؟
عند زيارتي المتكّررة لبغداد، كنت ألاحظ وجود عربات رباعيّة الدّفع تجوب شوارع المدينة حاملة رايات ملوّنة لم أكن أعرف تفسيرها وكانت تعجّ برجال مسلّحين. جلب انتباهي عدم اكتراث المارّة بمرورها وكأنّها جزء من الديكور العادي لبغداد وسألت عنها فأخبروني أنّها الميليشيات الشيعية المختلفة التي تسيطر على المدينة والتي تموّلها إيران. استغربت إلى أي حدّ وصل النفوذ الإيراني في العراق حتى أصبحت تقريبا المالكة الحقيقية للأرض. ولكن بالرجوع إلى الدور الذي لعبته إيران بعد استيلاء داعش على الموصل وحمايتها لبغداد من السقوط في يده، ثم مساهمتها في تدريب الحشد الشعبي الذي تمكّن من استعادة معظم الأراضي العراقية التي استولى عليها التنظيم، يمكن فهم تعزّز نفوذها في العراق، ولكن أيضا في كامل منطقة الشرق الأوسط، حيث نجحت في إثبات قدرتها على أن تكون لاعبا أساسيا فيها.
لا يخفى أنّ إيـران استفادت كثيرا من دخـــول داعش الى سوريــا والعراق. ففي سوريا، مكّنها وجود التّنظيم من أن يكـــون لها موطئ قدم قويّ في البلاد لحماية النظام السوري من المجموعات المتطرّفة التي تهــدّد وجــوده. تجلىّ ذلك من خلال تقديم الدعــــم العسكري وتدخّل الحـــرس الثوري الإيراني وحزب الله اللبناني مباشرة في المعارك.
وفي العراق استطاعت إيران أن تثبت أنّها الحامي الأساسي للعراقيين في ظلّ تخلّي القوى السنّية في المنطقة عن التدخّل لحمايته مثل المملكة العربية السعودية وتركيا من جهة، وتخاذل المعسكر الغربي عن طرد التنظيم من جهة أخرى. هنا يكفي التذكير أنّ إيران بعثت بإمدادات من الأسلحة والمستشارين العسكريين إلى الحكومة العراقية بعد أربع وثمانين ساعة من سيطرة داعش على الموصل، في حيــــن لم تتحرّك قوات التحالف الدولي لقصف التنظيم في العراق إلاّ بعد شهرين من ذلك التاريخ.
كما أنّ قاسم سليماني، قائد فيلق القدس في الحرس الثّوري الإيراني كان ولا يزال العقل المدبّر للعمليات ضد داعش بل تمّ تصويره في وسائل الإعلام الإيرانية وبعض وسائل الإعلام العراقية على أنه البطل الحقيقي للمعارك ضد التّنظيم سواء في أميرلي (محافظة صلاح الدين) التي ساعد على فكّ الحصـــار عنهـــا (حصار دام شهرين) أو حتّى في المنـــاطق ذات الأغلبية السنيّة كمحافظة ديالى التي تمّ قصف أوكار داعش فيها عبر الطيران الإيراني، بالإضافة إلى استعادة مدينة تكريت والأنبار. ولا يخفى أيضا أنّ إيران هي التي تموّل الميليشيات الشيعية المختلفة التي وصل عددها إلى الخمسين في العراق وتزوّدها بالسلاح ومن بينها الحشد الشعبي. كما أنّ قادة من الحرس الثوري الإيراني ومن حزب الله اللبناني هم الذين يشرفون على تدريب عناصرها.
دخول داعش الى سوريا والعراق أعطى فرصة ثمينة لإيران لفكّ العزلة عنها وللتوسّع استراتيجبا في منطقة الشرق الأوسط. فالعقوبات التي سلّطها عليها المسعكر الغربي من أجل برنامجها النووي خلقت حولها طوقا لم تتمكّن من كسره إلّا مع حلول ثورات الربيع العربي وبداية الحرب في سوريا ضدّ نظـــام الأسد حليفها الاستراتيجي في المعسكر الشيعي، ممّا أعطاها دافعا للتّدخل مباشرة لمناصرته بالتعاون مع حليفها الآخر، حزب الله في لبنان. في نفس الوقت، فإن انطلاق ثورات الربيع العربي تزامن مع سحب القوات الأمريكية من العراق بقرار من أوباما في 2011 ليتركه فريسة للنزاعات الداخلية التي مهّدت لدخول داعش فيما بعد، خروج ترك الساحة فارغة تماما لإيران لتبسط نفوذها بالكامل على الساحة السياسية العراقية وتدعم المعسكر الشيعي على حساب بقيّة المكوّنات من سنّة وأكراد. هذه السياسية كرّسها نوري المالكي، الرئيس السابق للحكومة العراقية الذي فرضته إيران بعد انتخابات 2010 على حساب أياد علاوي، الفائز فيها، وهو الشّيعي ذو التوجّه العروبي. المالكي كرّس سيطرة الشيعة على أجهزة الجيش والشرطة وأقصى السنّة والأكراد، كما أنّه قمع التظاهرات التي ندّدت بسياسته الإقصائية المدعومة من إيران. هذا الوضع خلق عداء ضدّه من السنّة والأكراد وبيئة ملائمة لدخول داعش للعراق والذي لم يلق مقاومة من أهالي الموصل ذات الأغلبية السنيّة، حيث رأى السكان في مقاتلي التنظيم منقذين من ظلم المالكي والشّيعة بصفة عامة. والأكراد أنفسهم تحالفوا في البداية مع داعش وكانوا يسهّلون دخول المؤونة والنفط له قبل أن ينقلب عليهم ويكتسح مناطقهم إلى حدّ تهديد عاصمتهم نفسها أربيل.
مرة أخرى إيران التي كانت سببا في المشكل هي أيضا من جلب الحل، حيث كانت الوحيدة التي هبّت لمساندة الحكومة العراقية بعد سقوط الموصل وسارعت لحماية بغداد المهدّدة في صيف 2014، وذلك بدعوى الدفاع عن المراقد الشيعية. وساعدت كذلك في الدفاع عن أربيل حين وصل التنظيم إلى تخومها، لتلعب دور المنقذ الذي لا يمكن الاستغناء عن خدماته. ثم مع صدور فتوى السيستاني (المرجعية الشيعية في العراق) لخلق الحشد الشعبي كانت إيران هي المموّل الأساسي والداعمة عسكريا له من خلال تدريب عناصره وتسليحهم. كما أنّ قادة من الحرس الثوري الإيراني وعلى رأسهم قاسم سليماني كانوا يقودون المعارك مباشرة ضدّ داعش ويحقّقون التقّدم على حسابه ليتمكّنوا من استعادة معظم الأراضي العراقية.
التحرك الدولي لتحجيم النفوذ الإيراني
اليوم وقد شارفت الحرب على داعش على الانتهاء، من الضروري التساؤل حول الدور الذي ستلعبه إيران في الشرق الأوسط. لم تنتظر الولايات المتحدة الأمريكية والفاعلون في المنطقة من عرب وأتراك نهاية الحرب على التّنظيم للتحضير لمرحلة ما بعد داعش. وبدأت التحركات الاستباقية لقطع الطريق على تمدّد إيران حتى من قبل معركة الموصل بإقصاء الحشد الشعبي من المشاركة في المعارك داخل المدينة، بحجّة تخوّف السكّان السنّة من العمليات الانتقامية التي تمارسها ضدّهم عناصر الميليشيات الشيعية، وقد تمّ تسجيل عمليــات قتل وانتهاكات ضدّ المــدنيين في المناطق التي حرّرها الحشد الشعبي. في نفس الوقت، تحرّكت السعودية لإحياء العلاقات مع الحكومة العراقية، تجلّى ذلك من خلال زيارة وزير الخارجية السعودي، عادل الجبير للعراق في فيفري من هذه السنة. وذلك في محاولة لاستعادة موطئ قدم في العراق بعد أن تخلّى عنه العرب منذ سقوط نظام صدام حسين. وقد وعد السعوديون بالمشاركة في مجهود إعمار المناطق التي دمّرتها الحرب ضد داعش في العراق. أما على مستوى سوريا، فقد انخرطت السعودية في التّحالف ضدّ التّنظيم وفي العمليات العسكرية للقضاء عليه. الأتراك أيضا بادروا بالتحرّك في محاولة للتأثير في الساحة السياسية العراقية عن طريق تحريك حلفائهم الأكراد خاصّة من الحزب الديمقراطي الكردستاني بقيادة مسعود البرزاني القريب جدّا من تركيا. وتطمح هذه الدولة أن يكون لها تأثير في الموصل بعد تحريرها، خاصّة وأنها مازلت تعتبرها منطقة نفوذ لها، حيث كانت الموصل ولاية عثمانية.
في سوريا، تعوّل تركيا على تقاربها من روسيا لرسم خارطة جديدة للبلاد يتمّ فيها إقصاء الأسد حليف إيران ولا يبدو فلاديمير بوتين معارضا تماما لهذا السيناريو. كما أنّ أردوغان قدّم مقترحا بإحداث مناطق آمنة في سوريا وهو ما من شأنه الحدّ من نفوذ إيران، بالإضافة إلى تشديد المعارضة السورية المدعومة من تركيا ومن المعسكر السني على أن لا تلعب إيران أي دور في التسوية السلمية للنّزاع في سوريا.
لكن الحرص الأكبر على الحدّ من النفوذ الإيراني يأتي أساسا من الولايات المتحدة الأمريكية فبعد موافقتها على التشارك مع إيران في الحرب على داعش، سواء في سوريا أو العراق، نظرا للوجود الإيراني الفعلي على الأرض في هذين البلدين، وبعد إبرام اتّفاق مع إيران حول تخفيض برنامجها النووي في جويلة 2015، يبدو أنّ أمريكا لم تتخلّ عن خوفها من التمدّد الإيراني في المنطقة، خاصة وأنّه أصبح واقع حال وهو مرشّح لأن يتعزّز في المستقبل بعد الانتصارات التي حقّقتها الميلشيات والمجموعات العسكرية المدعومة من إيران في العراق وسوريا في الحرب ضدّ التنظيم. والجدير بالذكر أنّ حلفاء أمريكا الآخرين وخاصّة المملكة العربية السعودية وإسرائيل لم يحبّذوا التّقارب الذي حصل بين حكومة أوباما وحكومة روحاني. لذلك فإن الولايات المتحدة تسعــى حـــاليا إلى تحجيم الوجود الإيــراني والتراجع عن الاتفاق المبرم سابقا بين البلدين. وهــذا ما يمكــن الوقوف عليه من خلال تصريحات حكومة ترامب بأنها ستبقي قوات أمريكية في العراق تصل إلى 3000 جندي لضمان الاستقرار ما بعد خروج داعش، بالإضافة إلى سعي الإدارة الأمريكية للإمساك بزمام الأمور من جديد فيما يخصّ العملية السياسية العراقية بعد أن تخلّت طويلا عنها لفائدة إيران. وحاليا تضغط أمريكا على حيدر العبّادي، رئيس الحكومة الحالي، للابتعاد تدريجيا عن الحليف الإيراني مقابل الحصول على المساعدات العسكرية الأمريكية. وقد بدأ العبادي فعليا في تنفيذ هذه الاستراتيجية الجديدة من خلال دمج الحشد الشعبي فى القوات العراقية وجعله تحت إمرته في نوفمبر 2016 وذلك للتقليل من النفوذ الإيراني.
نحو التشدّد في الموقف الإيراني
لم تبق إيران مكتوفة اليدين أمام هذه المحاولات لتقزيم نفوذها، حيث أنّها تتحرّك على مختلف الجبهات العراقية والسورية وحتّى اليمنية، فهي تدرك أنّ السيطرة على منطقة الشرق الأوسط ستكون على أساس مذهبي بالأساس ومعركة بين شقّين: شقّ سنّي تديره السعودية وتركيا وشقّ شيعي تديره هي. من هذا المنطلق تواصل إيران دعم الميليشيات والحركات المسلّحة بالسّلاح والأموال والتّدريب حيث تعمل على حماية نظام الأسد في سوريا ضدّ المعارضة المسلّحة والمجموعات المتطرّفة وتدعم الحوثيين في اليمن في مواجهة التّحالف العربي بقيادة السعودية وتعزّز وجودها العسكري والسياسي في العراق. وحول هذه النقطة الأخيرة، لابدّ من التّذكير بأنّ إيران هي التي تتحكّم في العملية السياسية في العراق منذ 2003 من خلال دعمها لمختلف الأحزاب ذات الأغلبية الشيعية والتدخّل لتعيين المسؤولين السياسيين أو عزلهم. ويؤكّد المحللون للمشهد السياسي العراقي، يؤكدون أنّ إيران تـــدعم جميـــع الأحزاب الشيعية ولكنها تخلق بينها النزاعات كي تتدخّل في الأخير لفضّها وإعادة التوازن للحكومة العراقية الضعيفة. ولا يتـــوقّف التـــدخّل الإيراني في المشهد السياسي عند التحكّم في الأغلبية الشيعية وإنّما يتجاوز ذلك إلى عقد الصفقات مع الأكراد في الشمال ومع السنّة، ليبقى الاستقرار السياسي للبلاد رهين هذا التدخل. ومع اقتراب الانتخابات العراقية في مطلع العام القادم، تراهن إيران على دعم مختلف الأحزاب الشيعية وتشجيعها للتقدّم بقائمات موحّدة حتّى تبقى الأغلبية الشيعية هي المسيطرة على أيّ برلمان أو حكومة جديدين ويبقى مبدأ المحاصصة هو الأساس في تنظيم الحياة السياسية في العراق، بما يضمن عدم استقراره وتبعيّته لها. من هذا المنطلق ستســاهم إيران في تأجيج الطّائفية من جديد، خاصّة وأنّ القوى السنيّة لا تقبل بتحكّمها في مصير العراق. وفي سوريا، تبقى إيران طرفا أساسيا في التسوية السلمية السياسية حتّى رغم رفض المعارضة لذلك. وسواء بقي الأسد أو لم يبق، فإن إيران ستكون ممثّلة، وبقوّة، في سوريا الجديدة ما بعد انتهاء الحرب.
ولا يبــدو أنّ السيـــاسة الإيـــرانيـــة في المنطقة ستتغــيّر حتـــى بعـــد الانتخـــابات الرئـــاسية الإيرانية المزمع انعقادها في 19 ماي 2017 والتي ترشّــح لها 6 مترشحين منهم الرئيس الحالي، حسن روحــاني، بل مــن المتوقّع أن تسير نحو التشدّد حســب المـــراقبين. فهناك حظوظ كبيرة في أن تسفـــر الانتخــابات عـــن اختيـــار رئيــس مــــن شـــقّ المحــافظين، نظـــرا لتغيّر الوضع الإقليمي بعد صعــود ترامــب وسياسته المتشدّدة تجاه إيـــران وتلــويحه بالحلّ العسكري ضدّها وبإلغاء الاتفاقية حــــول السلاح النووي. كما أنّ هذه الاتفاقية نفسها التي عقدت في جــويلية 2015 لا يبدو أنّها ساهمت بشكــل كبير في تحسـين الواقع الاقتصادي والمعيشي للمواطن الإيــراني، ممّــا أدّى إلى عديد الانتقادات داخل إيران، للمعسكر الإصلاحي بقيادة روحاني، ولجدوى التّصالح مع الغرب.
المؤكد هو أنّ منطقة الشـــرق الأوسط ستشهد مواجهات جديدة في فترة مابعد القضاء على داعش، فالتشدّد في المواقف لدى القوى الكبرى المتدخّلة فيها واشتداد المواجهات بين المعسكـر السنّي والمعسكر الشّيعـي واحتمـال تغــــيّر الخــريطة الجغـرافية للمنطقة بظهــور تقسيمـات ومنـــاطق جـديدة سواء في سوريا أو في العراق لا ينبئ بانفراجات قادمة.
حنان زبيس
- اكتب تعليق
- تعليق