الرّاحل محمد الطالبـــي ومعضلة الحقيقة
1 - لا يسع المتوقف في ذكرى المرحوم محمد الطالبي (2017-1921) إلا أن يقف إجلالا لهذا العالم الذي أصرّ طوال حياته أن يحذو حذو رواد الشرق بأن يجعل حياتَه قَدَرًا ومصيرا.
لهذا كان التنويه بمآثره الذاتية ومسيرته العلمية والفكرية ومواقفه النضالية الوطنية واجبا لا مندوحة عنه. لقد استطاع الراحل أن يُرسِيَ مسلكا يجعله بحقٍ، لجيل صاعد علَمًا من أعلام تونس المعاصرة. أرسى ذلك في رحاب الجامعة التونسية فكان ذلك الباحثَ المحقق والمثابر الجريء وكان خارجَها العاملَ الدؤوب الذي لا يتردد في مواقفه متمثّلا في السياقين بعمق وعناد قول الله تعالى: «وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع»(الرعد /26).
المميّز في رحلة الرجل الحافلة أنّه نَحَت مسارا طافحا بالإنجاز الناقد.كان في ذلك متأسِّيا بعظماء الغرب في مراجعاتهم للسرديات الكبرى وبالتشكيك في مُسَلَّمات لا يمكن أن تستسيغها المعارف المختلفة والمتجددة.
كيف نجح الراحل في التركيب بين عبقرية رياديّ الشرق وبين النبوغ الغربي الذي لا يهدأ؟ كيف استطاع أن يحقق ذلك في سياق تاريخي كان النزوع إلى الأرثودكسية والأحادية هو الغالب والسائد حتى لدى الذين يظنون أنفسهم الأكثر وعيا وتقدُّمًا؟
2 - منطلقُ درسِنا لسَبْق محمد الطالبي يكون بتنزيل جهوده ضمن خصائص عصره ومقارنتها بما أنجزه أقرانه في جامعة تونس وخارجها. ما يؤكد هذا السبق هو طبيعة الإشكاليات التي انشغل بها فكره وتمحور عليها إنتاجه بالعربية وبغيرها وفي المواقف التي تبنّاها دون مواربة. يظهر ذلك جليّا منذ ثمانينات القرن الماضي وخاصة منذ مطلع الألفية الثالثة حيث تَمَحَّضَ عمله وفكره بإزاء زملائه في تونس خاصّة من خلال العناية بقضية صارت لديه مركزية هي: الإسلام، حضارةً وفكرا وعقيدة.
لقد انطلقت أبحاث محمد الطالبي المُبَرِّز في اللغة العربية وأستاذ التاريخ الوسيط بعنايته سنة 1956 بـكتاب « المخصّص لابن سيده» ثم كان له سنة 1966 إصدار عن «الإمارة الأغلبية» متوِّجا ذلك بأحد أبرز ما أنتج عن «ابن خلدون والتاريخ» سنة 1973. واصل بعد ذلك فكانت له دراسة سنة 1982 عن «تاريخ إفريقية والحضارة الإسلامية الوسيطة»ليحدّد وجهته بعد ذلك وبصورة لا رجعة فيها للعمل على التأسيس لإسلام معاصر.
نتيجة ما التحم لديه من القضايا اللغوية والتاريخية والإسلامية والحضارية والسياسية مع ما ساعدته عليه شخصيته وبيئته الأسرية تمكّن الراحل من التميّز ضمــن تيــار جنينيّ في تونس والوطن العربي بما اشتغل عليه من إشكالية المعاصرة المتمحورة حول قضية الحقيقة.
3 - اختار هذه الوجهة حيث بدت لعموم المهتمّين بالقضايا الحضارية وكأنّها منسية أو متجاوَزَة. أهمية السؤال المحوري الذي ظل يؤرقه تعيّنت في العلاقة التي تربط بين مفاهيم ثلاثة هي: القراءة والعلم والحقيقة. بعبارة أخرى صار محمد الطالبي منشغلا بسؤال بدا للكثيرين غريبا وهو: هل نقرأ لنتعلّم أم أنّنا نتعلّم لنقرأ؟
في الحالة الأولى لا معنـــى للبحث عـــن الحقيقة ما دامـــت القـــراءة لا تتجاوز الحروف والمباني و لا ترى من امتلاك المعرفة الناتجة عن القراءة سوى الوقوف على يقينيات لا تحرّك السواكن ولا تحلّ المشكلات.أمّا إن كان امتلاك المعرفة هو المُفضي إلى القراءة بما تتضمّنه من دلالات الفهم والنقد والابتكار فقد اقترن العلم بما يؤدّي إليه من قراءة أي من فهم وحكم وتذوّق. مؤدّى هذا التلازم بين العلم والقراءة استخراجُ ما تتكشَّف عنه من جوانب الحقيقة وما يقتضيه ذلك من تعدّد واجتهاد وابتكار.
ما أحرج الكثيرين في كتابات محمد الطالبي هو هذه المقاربة للعلم والتعلم وما تتضمّنه من إدانة للمنهج التربوي التعليمي الذي اعتبره مقلوبا. هو منهج لم يبق معه مسوِّغ للسعي إلى الحقيقة بعد انصراف الاهتمام عن المعنى إلى المبنى أي إلى الشكل مع ما ينتج عن ذلك من وثوق ساذج على حساب الفهم والتدبر واتساع الدلالة. مقابل هذا فإنّ الحقيقة في مجال العلم تفتح آفاق السعي للارتقاء والعمران فالشهود الحضاري.
4 - توضيحا لهذه الإشكالية المؤرّقة يبرز أمامنا كتاب «قضيّة الحقيقة» للراحل محمد الطالبي الصادر بتونس سنة 2016. لم يجد الكتاب اهتماما كافيا شأنُه شأنَ المؤلفات الأخرى الصادرة مع نهاية القرن العشرين مثل عيال الله (1992) و«مرافعة من أجل إسلام معاصر»-(Plaidoyer pour un islam moderne- (1998) و«كونية القرآن» Universalité du Coran وكتاب «مفكّر حرّ في الإسلام» Penseur libre en islam الصادرين سنة 2002 وصولا إلى «أمّة الوسط» (2006) ولـ«ليطمئنّ قلبي» (2010).
تتعمَّد هذه المؤلفات تناولَ قضايا مثيرة للجدل في مجتمع تونسي تغلب عليه النزعة التقليدية المنكفئة المنكرة للمراجعات والحوارات العميقة شأنه في ذلك شأن عموم البلاد العربية والإسلامية. ثم هي، في مستوى ثان، مؤلفاتٌ لا تتورّع عن إحراج قسم من النخب والأكادميين فضلا عن الزعماء وكبار السياسيين وأنصارهم. وراء هؤلاء وأولئك يبدو أنّ المستهدف المقصود من قراءات محمد الطالبي النقدية هي العقلية المدرسية للمؤسسات الجامعية والسياسية وما أحيطت به من هالات المبالغة في التقدير وبما انتهت إليه من تقديس المُتَضادّات.
5 - إذا قصرنا النظر على كتاب « قضية الحقيقة» تاركين ما عبّر عنه محمد الطالبي هنا وهناك في لقاءات إذاعية أو تلفزية انساقت في سجالات حادة لا عمق فيها برز أمامنا عملٌ يُعتبر محظورا لدى «تونس العالمة» أو ممّا لا يمكن تناوله إلا في دوائر خاصّة جدّا. ما يعالجه الكتاب من قضايا الإيمان والفكر والحضارة والنخب والتثاقف ورموز الدولة والسياسة في تعاطٍ علني مباشر لا يبدو مراعيا للمصاعب الكبرى التي تعرفها البلاد التونسية خاصّة بعد الثورة.
فهل كان الراحل بكتابه « قضيّة الحقيقة» غير واعٍ بطبيعة السياق أم أنّه مُصِرٌّ على تحريك السواكن فيما يعتبره البعض استفزازا فكريا وسياسيا؟
بالرجوع إلى فقرات مفصلية في الكتاب تتبيّن لنا ثلاثة مشاغل رئيسية. هناك من جهة لماذا كَتَب؟ ومن جهة ثانية لمن يَكْتب؟ ثالثا: أيّة إشكالية يريد معالجتها؟
عن الدافع الأول يتبيّن أنّ المرمى هو مواجهةُ الشرخ الغائر الذي يعاني منه عدد من المؤمنين جرّاء هيمنة « طاغوت علماء الدين الذين يريدون أن يسيطروا على عقول العباد وعلى تصرفاتهم». لذلك فغاية الكتاب هي المصالحة بين المؤمن «وبين دينه بضمير مرتاح ...[و ] أن يؤمن بكتاب الله الذي هو بمفرده مُلزِمٌ».
6 - بالنسبة إلى السؤال الثاني الخاص بـالمستهدَف من الكتاب، فالمؤلّف واضحٌ إذ يعلن أنّ كتابه تذكرة لـ«المسلم العادي الحداثي المثقّف ثقافة عصرية» الذي يريد تجاوز أزمة « العيش بضمير مجروح مكلوم يؤلمه» أو أن «يرفض الإسلام جملة وتفصيلا». هو في هذا يذكّر بكتاب لحسين أحمد أمين المعنون بـ«دليل المسلم الحزين» الذي تجاوز فيه الكتابة الدينية التقليدية ليتحدّث في مكاشفة راقية موسومة بحداثة فكرية وموضوعية باحثة عن الإسلام المطلوب لزماننا هذا.
أما السؤال الثالث المتعلق بإشكالية الكتاب فما يعني المؤلف هو سعيه للتأصيل المنهجي لقضية الحقيقة التي يعتبرها ذهبت- تونسيا وعربيا- بقادة الرأي والفكر وصنّاع القرار مذاهب شتى مُورثةً إياهم الحيرةَ والشك المؤدِّيَيْنِ في أسوإ الحالات إلى نفي الخالق والمعنى والغاية.
الأهم هو تجاوز استتباعات قضيّة الحقيقة المجالَ التجريدي النظري وما ينجر عنه من انخراط جانب من النخب والمثقّفين فيه. لهذا كان حرص المؤلف على التصدّي لحالة التنافي والاستقطاب بين دعاة التحديث القائلين بالقطيعة المعرفية والتاريخية وبين مُدَّعي حماية الهويّة وتحصين الخصوصيات الثقافية والدينية بتحويل حقبة من الحقب التاريخية إلى منظـــومة فكرية واجتماعية. أخطـر ما في هذا التنازع تهافت الوضع الفكري وعُقم الصراع الاجتمـاعي وعجـــزٌ قاتل عن التصدّي للتحديات المتفـاقمة التي تواجـــه كافة فئات المجتمع.
7 - لهذا كانت وقفةُ محمد الطالبي مواجهةً واعيةً لمعضلة الحقيقة بأبعادها. لذلك لم يُخْفِ اختلافه الكليّ مع ما انتهى إليه مفكّرو الغرب وفلاسفتــــه في خصـوص هذه القضية في الفترة المعاصرة. مع ذلك فقد أكّد على أنه يجلّ عملهم وإسهامهم إنسانيا لأنّهم يقولون ما يعتقدون بصدق وحماس. إنّهم بما بَنَوْهُ من فكرٍ في صيغه المتعددة إنّما حققوه، عبر الخلاف والسجال، تقدّمًا واستنارةً تُكْسِب الاعتقاد الشخصي مصداقية مُثرية لشخصية الفرد مما يُمَكّنُه من الفاعلية النقدية التاريخية والمدنية. مقـــابل هـذا تستدعي معضلةُ الحقيقة لدى الراحل الكبير من النخــب العربية وقفةً جريئة بالأخصّ في تونس ليتجاوزوا بها الوعي الحداثي المُستعار المُعرض عن الحوار والمراجعة حتى يتمكّنوا من الإسهام في التمدّن الفاعل. لذلك تحديدا ظلّ محمد الطالبي مدافعا عن حريتهم الفكرية لأنّ تديُّنَه الإسلامي يوجب عليه حماية الحرية للجميع.
احميده النيفر
رئيس رابطة تونس للثقافة والتعدّد
- اكتب تعليق
- تعليق