عبد الحفيظ الهرقام: السّــبـيـل إلـى الـخـلاص
حدّد الرئيس الباجي قايد السبسي في خطابه يوم 10 ماي قواعد جديدة لإنجاح المسار الانتقالي، من تطبيق صارم للقانون وحماية لمواقع الإنتاج وإقرار بحتمية المصالحة الاقتصادية والمالية وعدم قبول بالحوارات الوطنية خارج المؤسسات الدستورية وتعزيز للعمل الحكومي وتوطيد لأركان الوحدة الوطنية.
ويأتي هذا الطرح في الوقت الذي تدرك فيه العهدة الرئاسية منتصفها ويتعرّض فيه المسار الديمقراطي لمخاطر الانتكاس، في حين ظلّ الإرهاب يتهدّد البلاد وشبح التدهور والإفلاس يخيّم على الاقتصاد.
ربّما لم يسبق، منذ 14 جانفي 2011، أن انتظر التونسيون خطابا لرئيس الجمهورية كخطاب الباجي قايد السبسي الأخير.كان سقف انتظاراتهم مرتفعا.. هي انتظارات شعب، جانــــب كبير منه، أصابه، حسب آخر عمليات سبر للآراء، الإحباط وغلبه التشاؤم بشأن مستقبل البلاد، أمام احتدام التجاذبات السياسية وتصاعــد موجــات العنـف والفوضى وتنامي الاحتجاجات الشعبية بسبب انسداد آفاق التنمية في الجهات الداخلية والمناطق المحرومة.
ما عسى أن يقدّم رئيس الجمهورية من حلول وأن يطلق من مبادرات لإخراج البلاد من نفق أزمتها المستحكمة ، بعد أن غرق الفاعلون في الساحة الوطنية في أوحال السياسة السياسوية عوض طرح الاقتراحات والبدائل لتجاوز الأوضاع الراهنة؟ ذلك هو السؤال الذي تردّد على كلّ الألسن.
ولعلّ ما يفسّر حالة الترقّب التي سبقت الخطاب الرئاسي ما ظلّ مترسّخا في لاوعي التونسيين وفي موروثهم السياسي، طيلة عقود طويلة، من تطلّع دائم إلى تدخّل رئيس الجمهورية، خاصّة زمن بورقيبة، كلّما اضطربت أحوال البلاد واستدعت منه قرارا سريعا لمعالجتها، وذلك على الرغم من اختلاف السياق التاريخي وصدور دستور جديد منح رئيس الدولة صلاحيات محدودة. بيد أنّ رئيس الجمهورية يظلّ في المخيال الجماعي لعديد التونسيين شخصية اعتبارية تحظى برمزية قياديّة عالية، وهو ما كان يدركه جيّدا الباجي قايد السبسي وعمل على توظيفه في خطابه الأخير بتوجيه رسائل قويّة إلى الرأي العامّ.
«لا تعوّلوا عليّ لتغيير الحكومة وتمزيق اتّفاق قرطاج». بهذه الكلمات، فنّد الباجي قايد السبسي الإشاعات والتخمينات التي سرت كالنار في الهشيم عبر عدد من وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي منذ أن أُعلن موعد إلقاء خطابه.
دقائق قليلة قبل أن يتوجّه بكلمته إلى الشعب، واصل البعض نقل ما ظفر به من «تسريبات»: تشكيل حكومة جديدة، ودعوة إلى انتخابات تشريعية سابقة لأوانها بعد حلّ مجلس نوّاب الشعب، وإجراء استفتاء لتنقيح الدستور...
تكلّم الرئيس.. لن يتمّ شيء من ذلك، فكانت رسالته الأولى التي أكّد من خلالها تمسّكه بالشرعية الانتخابية وضرورة التزام المعارضة بقواعد اللعبة الديمقراطية، معتبرا أنّ «النزول إلى الشارع والدعوة إلى العصيان المدني فتنة».
كما تضمّنت هــذه الرســـالة دعما غير مبــاشر ليوســـف الشـــاهد وحكومته بإبراز التحسّن المسجـــلّ في عـــدد من المؤشرات الاقتصادية المتعلّقة بإنتاج الفسفاط وبالحركة السياحية وبالاستثمار الخارجي المباشر، فضلا عن الإقبال الهامّ على عقود الكرامة، إلّا أنّه عاب على الحكومة قلّة الحزم في التصدّي للاحتجاجات غير الشرعية.
وقد حدا هذا الأمر برئيس الجمهورية إلى توجيه رسالة ثانية إلى الرأي العامّ مفادها الحرص على تطبيق القانون وفرض سلطة الدولة وهيبتها - وهو ما كان يطالب به عديد التونسيين- إذ أنّ الديمقراطية شرطها الأساسي، في تقديره،إرساء دولة القانون والدولة العادلة إزاء كلّ أبنائها.
وبنبرة لا تخلو من حزم أعلن القرار القاضي بتكليف الجيش الوطني بحماية مواقع الإنتاج والطرق المؤديّة إليها، وهو ما يفرض تنسيقا بين وزارتي الدفاع والداخلية لتوزيع الأدوار بين القوى العسكرية والأمنية وتحديد مهامّها.
وكما كان متوقّعا، لم يتخلّ الباجي قايد السبسي عن الدفاع عن مشروع قانون المصالحة الاقتصادية والمالية الذي أثار جدلا كبيرا في الآونة الأخيرة، مع ترك المجال للجنـــة البرلمانية لتعديـــل ما تراه مناسبا في فصوله، معتبرا أنّ هذه المصالحة ستُخرج تونس من عنق الزجاجة وتُزيل عن الإدارة التي أنقذت الدولة من الانهيار بعد 14 جانفي 2011 كـلّ المعــوّقات التي تكبّلها بما يساعد على تحسين مناخ الاستثمار في البلاد. ولعلّه أراد أن يؤكّد أنّ الجدل القائم بشأن المشروع لا يثنيه عن التعبير عن إيمانه بجدوى اعتماده.
أمّا الرســـالة الأخرى التـــي احتـــواها الخطاب الرئـــاسي، ففيـها تأكيــد على أهميّة الوحدة الوطنية قصد تجـــاوز الأزمة الحــالية وتشديد على دور البرلمان دون سواه في إدارة الحوار الوطني.
بحكم صلاحياته الدستورية وبوصفه رئيسا لكلّ التونسيين، سعى الباجي قايد السبسي إلى تحديد الأولويات القصـوى في المرحلة الراهنة، بما يحمي «المسار الديمقراطي المهدّد» من الانزلاق نحو المجهول ويقي البلاد شرور الفوضى والانقسام.
لم يستجب خطابه لكلّ الانتظارات.. أرضى شقّا من التونسيين، وأغضب شقّا آخر، لكنّه اتّسم بالصراحة والواقعية. ويخطئ من يعتقد أنّ أزمة البلاد المعقّدة ستُحلّ، بين عشية وضحاها، بمجرّد خطاب. فتعافي تونس ممّا أصابها من علل يتطلّب معالجة متأنّية، متدرّجة تشترك فيها سائر الأطراف من حكومة وبرلمان وأحــزاب سيـــاسية ومنظمّات وطنية ومجتمع مدني ونخب فكريّة ومواطنين. لا أحـــد يمتلك مفتاح الحلّ، ففي هذه المقاربة التشاركية يكمن سبيل الخلاص.
عبد الحفيظ الهرقام
- اكتب تعليق
- تعليق