انهيار منظومة الانتدابات بعد الثورة وإدماج ٲكثر من 130 ألف عون في الوظيفة العموميّة
لقد تضافرت جملة من العوامل أفضت منذ سنة 2011 إلى الزيادة المذهلة لكتلة الأجور في الوظيفة العمومية.
حصل ذلك بداية على مستوى عدد الأعوان الذي يقدر بـ130 ألف عون وذلك في ظل الاعتبارات التالية:
- إعادة إدماج المستفيدين من العفو التشريعي العام مع مراجعة المسار المهني
- إدماج المتعاقدين
- انتداب العاملين من خارج الوظيفة العمومية في إطار المناولة
- انتداب عدد من العمال العاملين في الحضائر
- الانتدابات الجديدة
ثم تأتي زيادات الأجور على كرّات والترقيات والمكافآت المعمّمة، إلى جانب الزيادة في المنح الجارية وإقرار منح جديدة، بالإضافة إلى امتيازات خاصّة أخرى. حصل كل ذلك بمفعول الضغوط الناجمة عن المطالبات المهنية الملحّة التي تكتسي طابعا نقابيا وتجد لها صدى في مختلف وسائل الإعلام، وفي ظلّ توتّرات اجتماعية وإضرابات تجري هنا وهناك خاصة في قطاعات حسّاسة فتتسبّب في انقطاع خدمات أساسية، وكثيرا ما يضطر هذا الوزير أو ذاك إلى الرضوخ إليها. وقد وجدت الحكومة نفسها أكثر من مرة أمام أمر واقع لا تستطيع تغييره.
اتفاقات توقع على عجل
حصل ذلك عديد المرات في عهد مختلف الحكومات... نقابات تمارس ضغوطا قويّة على الحكومة تتّخذ شكل إيقاف للعمل وإطلاق تهجّمات عبر وسائل الإعلام مستهدفة هذا الوزير أو ذاك وإقامة اعتصامات أمام الوزارة ورفع شعار "ارحل" في وجه الوزير بكل شراسة.. فلا يجد بدّا من الإذعان لمشيئة المحتجّين والانقياد لأوامرهم، ويجبر في آخر المطاف على الاستجابة للمطالب مهما كانت مجحفة وغير متماسكة. ولا تقتصر الوثائق الموقع عليها على الزيادات في الأجور، بل تشمل المنح والترقيات وغير ذلك من الترضيات. ترى! هل وجد الوزير مجالا للتشاور مع المصالح التابعة لرئاسة الحكومة؟ هل حصل على موافقة بينة من رئيس الحكومة؟ لم يحصل ذلك إلا في القليل النادر. ثم تكون المفاجأة الكبرى حينما تأخذ رئاسة الحكومة في القصبة علما بتلك الاتفاقات. هذا النوع من السلوك "الفوقي" الذي يضطر إليه الوزير مجبرا لا مخيّرا قد ظهر منذ سنة 2011 بمناسبة الاتفاقات التي وقع عليها وزير التربية الوطنية آنذاك الطيب البكوش الذي شغل قديما منصب أمين عام للإتحاد العام التونسي للشغل، واستمر نفس السلوك بلا انقطاع بالغا أقصى مداه قبيل كل تغيير للحكومة.
بادرت بعض النقابات التي استوعبت جيدا طريقة التعامل هذه إلى تصعيد الضغوط كلّما بدا في الأفق تغيير حكومي ( علي لعريض، المهدي جمعة...) بغرض انتزاع أوفر نصيب من الترضيات، وهو ما تحقق لها فعلا في غالب الأحيان. ثم تأتي الحكومة الجديدة وتفاجأ بهذا الذي حصل!
أحد المطلّعين بدقّة على الملفّ يلمح لمجلة "ليدرز" إلى أن المركزية النقابية "تقتصر، وبكل بساطة، حين تجتمع بالجانب الحكومي، على المطالبة بتنفيذ اتفاق سبق أن أبرم مع هذه الوزارة أو تلك وتشدد التأكيد على أن ذلك يقع بطبيعة الحال في إطار استمرارية الدولة. نفاجأ تماما بهذا الموقف إذ لا أحد له علم مسبق بهذا الاتفاق الذي ينتهي إلى مسامعنا لأول مرة ويعرض على أنظارنا على كونه وثيقة رسمية بختم رسمي. والأدهى من كل ذلك هو أنّ الأمر لا يتعلق بمجرد اتفاق واحد أو بعشرة اتفاقات، بل بـ15 أو 20 أو حتى 30 اتفاقا وأكثر".
تفتّت الهرم وتفكّك المنظومة
أحد المختصّين الذين التقتهم مجلة ليدرز يقول إنّ انعكاسات تلك "الزيادات التي أقرت على عجل وكيفما اتفق "وتلك التي حصلت دون تشاور مع مصالح رئاسة الحكومة، تضاف إليها الانتدابات بالجملة" كثيرة، لا نفع يرجى منها، وغير مقتصرة على الجانب المالي".. كل ذلك أحدث شرخا في هرم العاملين في الوظيفة العمومية وانخراما على مستوى الزيادات.. منظومة كاملة كانت بالأمس القريب محل عناية دقيقة ومراقبة لا تنقطع وفق منظور تضامني وطبقا لأصول وقواعد متجانسة قد انحلت بالكامل".
يستطرد محدثنا قائلا: "يتجلّى هذا التضامن من خلال الفجوة بين الأجور التي لم تكن شاسعة إذ أنّ الفارق بين التأجير الأدنى والتأجير الأقصى كان يتدرّج في الغالب من واحد إلى أربعة أو إلى خمسة، بينما نجد تفاقما كبيرا في هذا الفارق يتجاوز عشرة أضعاف أو حتى 12 ضعفا في بعض البلدان الأخرى. ومن شأن الحدّ من الفوارق بين الأجور الدنيا والأجور القصوى وفقا لاختيار تم إقراره منذ سنوات الاستقلال الأولى أن يحول دون ظهور أي شعور بالحيف أو الغبن بين أفراد الأسرة الواحدة. ولا شكّ أن تجانس المنظومة بأكملها سبيل إلى تأمين التوازن العام بين مختلف الأسلاك والدرجات والوظائف والتعيينات سواء على مستوى الوزارات أو على مستوى الجهات".
منطق جديد يطفو على السطح
باحث في سياسات التأجير أشار في حديث لمجلة ليدرز إلى أن "الجهات الأقوى، أي تلك التي تحظى بإسناد من نقابيين من ذوي الألسن المطلوقة والتأثير الإعلامي، وتلك التي تؤمّن خدمات أساسية في مجالات حيوية (الصحة، التربية، القباضات المالية، أملاك الدولة الخ. ) هي التي تفوز بالنصيب الأوفر. أما الجهات الأخرى الأكثر انضباطا والأشد التزاما والأقل لجوءا إلى المطالبة والاحتجاج، فإنّ نصيبها من الزيادات يبقى متواضعا؛ ما يعني أن الفوارق آخذة في الاتساع وأن الشعور بالضيم يحتدّ ويشتدّ.
عوامل مشددة
حينما نتفحص بدقة حسابات كتلة الأجور المتشظية، نرى أن بعض الزيادات التي حصلت على كرات متتالية قد أسندت كنتيجة مباشرة لإقرار جملة من المنح الجديدة ورفع مقدار المنح الأخرى الجاري بها العمل. ومن الزيادات ما حصل على نحو غير مباشر في شكل ترقيات؛ حتى أن النقابات أصبحت تتحدث عما تسميه بـ"العبور الآلي" الذي صار حقا يسند بشكل آلي على نطاق واسع. كانت الترقيات تسند في السابق بعد أقدمية بخمس سنوات في الرتبة وبعد اجتياز مناظرة داخلية بنجاح. في كل سنة تفتح مناظرة ترقية مع تحديد عدد المراكز المعنية وتتراوح عادة بين 20 و30% من الموظفين المعنيين. وفي ظل هذا التمشي الذي صار تقليدا متّبعا بانتظام، كان السعي منصرفا إلى مجازاة الموظفين على قدر جدارتهم وتفوقهم وإلى القطع مع معاملتهم على حد سواء.
هذا التمشي لم يعد معتمدا في الوقت الحاضر. لقد استطاعت بعض النقابات أن تفرض مبدء "العبور الآلي" فرضا بذريعة أن التقدم على مسار الوظيف قد تعطل في عهد النظام السابق، وأن هذا يعطي لكل موظف حق التمتع بترقية برتبة تسند له بشكل آلي، وهو ما حصل. وكان للنقابات ما أرادت فمضت قدما في المطالبة ثم فرضت بعد ذلك مباشرة ترقية برتبة ثانية. حصل ذلك في قطاع الصحة العمومية على سبيل المثال. ونال موظفو التربية الوطنية من الترقيات ما تجاوز ما ظفر به نظراؤهم في الصحة إذ حصلوا على ترقية برتبتين وثلاث وأربع بحسب الأصناف. أما الموظّفون الذين أعيد إدماجهم في الوظيفة العمومية بعنوان العفو التشريعي العام، فقد حصلوا على ترقية برتبة ورتبتين وثلاث.
بوسع موظف برتبة متصرف أن ينال مباشرة ترقية إلى رتبة متصرف عام ( دون مرور برتبة متصرف مستشار ثم مستشار رئيس). ويشير أحد الخبراء في هذا الصدد إلى أن الترقية من رتبة إلى أخرى تتم دون الحصول على مهارات جديدة وبدون تقدم في الوظيف. هنالك كثير من الخلط".
- اكتب تعليق
- تعليق