مرثيّة اللغماني لبورڤيبة وصفحات مـن سجــلّه
من المبادرات التي تُحسب للمجمع التونسي للعلوم والآداب «بيت الحكمة» إصداره للأعمال الشعرية الكاملة لشاعر من فحول الشعراء التونسيين، المرحوم أحمد اللغماني (2015-1923). وتتضمّن الأعمال الكاملة التي جاءت في 543 صفحة دواوين الشاعر الأربعة (قلب على شفة- سي الحبيب - ذرّة ملح على جرح - عواصف الخريف)، ونصّا نثريّا بعنوان «أنا وزماني»، وهو بمثابة ترجمة ذاتيّة استعرض فيها عددا من الأحداث التي عاشها. وتحتوي هذه الأعمال على الأشعار التي نشرت وعلى الأشعار التي لم تنشر، وكلّها في الصيغة التي راجعها الشاعر بنفسه. ويبيّن الأستاذ عبد المجيد الشرفي، في تقديم الكتاب أنّ المجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون «بيت الحكمة» لفخور بنشر الأعمال الكاملة للشاعر أحمد اللغماني، معتبرا أنّها «ستأخذ حظّها ضمن عيون الشعر العربي المعاصر، لقيمتها الفنية أوّلا، ولأنّها شهادة على إحساس صادق عميق بعيد عن التملّق ثانيا». ويتناول الأستاذ مبروك المنّاعي في التوطئة دوائر الدلالة في شعر أحمد اللغماني، وقد اقتصرها في أربع دوائر وهي: دائرة الذات ودائرة الأهل والأصدقاء والقرية ودائرة الوطن والمثل الأعلى الوطني ودائرة العروبة والهويّة الواسعة، مستشهدا في ذلك بأبيات من قصائد اللغماني.
وقد اخترنا أن ننشر مقاطع من القصيدة العصماء التي رثى بها الشاعرأحمد اللغماني الزعيمَ الحبيب بورقيبة إثر وفاته يوم 6 أفريل 2000:
سيِّدًا كُنْتَ، سيِّدًا سَوْفَ تَبقَى !
هَذِهِ مرثية غير عاديّة لزعيم لاَ كالزّعماء يُقال لَهُ الحبيب بورقيبة. (الخفيف)
إنَّ صَـــدْرِيَ حضــنٌ يضــمُّ رزاياهُ * * * وقـــد تحضــنُ الرّزايا الصّدورُ
يكــبرُ الصّبرُ قدرَ مَــا يكبرُ الخطبُ * * * كَـــذا يعـــدِلُ الكبــيرَ كبــــيرُ
يَصْلُــبُ الطّبعُ بالهُمـــُوم كمـــــا * * * يَصْلُـــبُ بالنّار معدِنٌ مصهورُ
إنْ أكـــنْ نِدَّ محـنَتـــــي فـــــلأنّي * * * بِالبـــلايا مُمــَــــرَّسٌ وخبـــيرُ
عِنــــْدَمَا أَلْتَقِي بِهــــَا ليـسَ يُدري * * * أيُّنـــا دافــــــعٌ، وأيٌّ مـــغــيرُ
إنّ شَـــأني مَعَ البَـــلايـــا صُمــــودٌ * * * مُتَحــــَدٍّ لاَ يزْدهيــــهِ غُــرورُ
وَشهيـــدي قصيـدتي رغــم حـــُزني * * * لا شهيــــقٌ يـــُذلُّها، لاَ زفيـــرُ
فهــيَ ليسـتْ مَرثيّةً تسفـحُ الدّمعَ * * * كمــــا يُسفحُ الدّمُ المَهــــدورُ
هــي مــن فورةِ المشــاعِر إعْصـارٌ * * * ومـن ثورةِ الضّميـرِ هديرُ (...)
أَيُّهَـــا الرّاحــلُ الحـــزينُ ! تمهّـــلْ * * * بعضَ حينٍ ! فلِي حــديثٌ أَخِيرُ
وحَـــديثـــي إليكَ نجْــوى نَجـــِيٍّ * * * قلبُــــه طافِحٌ أسًى، مَــوتــــورُ
قــد تهـــاوتْ بـــكَ السِّنونَ وأبلَى * * * الشّيبُ مَا أبْدعَ الشّبابُ النّضيرُ
تلـــكَ أطـــوارُ قصّةِ المجـدِ: نُعمى * * * ثـــمّ بُؤسى، والمجـــدُ نارٌ ونورُ
لســــتُ آسَى أنّ المقــاديرَ أقصتْكَ * * * فلِلْحكـــــم هَبَّـــةٌ وفُتــــــورُ
عُمُــرُ المجــدِ ذُو امْتدادٍ مَعَ الآمادِ * * * والحُـــكـــمُ عُمـــرُهُ مبتــــورُ
مِثْلما الحكمُ لم يزِدْ مجدَكَ الشامخَ * * * مـجـــدًا، فَسَلْبُـــهُ لاَ يضــــيرُ
لســــتُ آسَى لـــذاكَ ! إنّ أســـايَ * * * المـــرَّ هـــَذَا الجحودُ والتّزويرُ
فكــــأنْ لم تكـــنْ لتونسَ مصبـاحًا * * * منـــيرًا إذْ أطبــقَ الدّيــجـــورُ
إذْ تـــولّى مـصــيرَ تـــونسَ محتـــلٌّ * * * خبيـــثٌ وآمـــرٌ مــأمـــورُ(1)
وكـــأنْ لم تَفُـــكَّ قيـــدًا وطـــوقًــا * * * فاستـــراحــتْ معاصِمٌ ونُحورُ
وكـــأنْ لم يسُـــدْ بفضلــكَ حُـكـــمٌ * * * تـــونسيٌّ، وَلــَمْ يَقــُمْ دستـوُرُ
نسِــيَ القـــومُ؟ أَم تنـــاســَوْا ! فهلْ * * * يُجدي ملامٌ؟ أو ينفـعُ التّذكيرُ؟
أيــنَ ذاكَ الهتـــافُ فِي كلّ بطحـــاءَ * * * يُـــدوِّي؟ أيـــن النّداءُ الجهيرُ؟
أيــن «نَفديكَ بالدّمــاءِ وبالأرْواحِ»؟ * * * أيـــن التّطبيـــلُ والتّـــزميـرُ؟
أيــن راحَ الروّادُ؟ أين «الحَوَاريّون»؟ * * * لا دعــــــوةٌ وَلاَ تبــشـــيــــرُ
كفـــروا بانتمـــائِهـــمْ واسْتجـــدُّوا حيــن * * * جـدّتْ بَعْدَ الأمورِ أُمورُ
أَيــْنَ شعــرٌ تَحَلَّبــتْ مِنْهُ أطمـــاعٌ * * * جيـــاعٌ، وَغِيـــضَ فِيهِ الشّعورُ
ســالَ سيــلَ السّـراب فِي فَدْفدٍ أغبرَ * * * لا ظــلَّ عنـــده، لاَ غـــديــــرُ
مُبْــدعــوهُ إنْ كـــَانَ ثَمَّــتَ إبــداعٌ * * * سَمَـــاسـِيــرُ هَمُّهـــم تــوفيرُ
رصـــَدُوا مـــن نفــاقِهــمْ رأس مالٍ * * * ثمّــــروهُ، وأثْمـــرَ التّثــمــيـــرُ
ونُــــفـــوسُ المُنــــافقيــنَ بَغــــَايا * * * ضــاقَ عَنْهـَا الرّصيفُ والماخورُ
أين أهـــلُ الوفاءِ؟ قَد أنكر الأحبابُ * * * أحْبــابهـــم، ونَـــدَّ العـشـــيرُ
«قَلبُوا النّعلَ»(1) عِنْدَمَا انْقَلَب الوضعُ * * * وفــــَرُّوا كَـــمَــا تفــرُّ الطّيورُ
سُحِبَ الغارُ من عَلَى الجبهةِ الشمّاءِ * * * فالشـــّوكُ حـــولَهـــا مَضْفـورُ
هَكَـــذَا تُجْحـــدُ الأيَــادي ويُجــزَى * * * بالتّجَـــنّي صَنيعُـــكَ المشكورُ
كم سُعــاةٌ سعــوا إِلَيْك ! ومسْعَاهُم * * * خـــدَاعٌ، وَوُدُّهـــمْ تـغْــريـــرُ
مَـــلَأُوا حــــولك الفَــضَـــاءَ ذبـــابًا * * * ثــم حطّوا، وبعــدَها لم يطيرُوا
أنـــتَ أَعليْــــتَ شَأْنَهـــمْ فتَعَـــالَى * * * قــاصِرٌ واستــطالَ منهُم قصـيرُ
هـــُمْ رؤوسٌ جَـــوفاءُ فهـــي طبولٌ * * * وَقلوبٌ صمّـــاءُ فهي صُخُـــورُ
هُــم عصافيرُ فِي ازْدحـــامِ المُلمّـــاتِ * * * وفي فُسحــــةِ الأمَــــانِ صُقورُ
همْ عَلَى مشهــدٍ من العـــينِ حُملانٌ * * * وفي خُفيـــــةٍ ذئــــابٌ تُغيـــرُ
هــــمْ أولاء الذين كــــانوا لنعليْــكَ * * * بِسَـــاطًا يُمــــَدُّ حيـــثُ تسـيرُ
هــــمْ أُولاءِ الذيــنَ أكْـــرمتَ دَارُوا * * * يَـــوْمَ راحتْ بكَ الرّيـاحُ تدورُ
وطــــأُوا مجـــدَكَ المُنيــــفَ ونـالُوا * * * منـــكَ لمّا هــــَوى بك المقدورُ
أنا أدرَى بهـــــَؤلاءِ: فــلا عـــــهـــدٌ * * * وثيـــــقٌ، لاَ ذمــــّةٌ، لاَ ضميـرُ
قَصَـــــبُ الرّيـــــحِ هُـــمْ، لهم من * * * طبــاعِ الرّيحِ ذَرْيُ الغُبارِ والتّصفيرُ،
ألِفُـــوا غــــــدْرهمْ فَهـــَان عليهــمْ * * * أنْ يُنــــالَ القَفَا وتُرْمَى الظّهورُ
فئةٌ سبّحــــــتْ بحمـــــدِكَ أزمــانًا * * * وتسبيـحُهـــــا نِفـــــاقٌ وزورُ
مثلَمــــا مَجَّـــــدتْكَ بالأمــــسِ راحَ * * * اليـــومَ يرميكَ غَدرُها المسعورُ
يا لَعَــــارِ الرّجال ! يَا وصمـــةً تُومي * * * إليهـــــمْ فضّــــاحةً وتُشــيرُ !
وصمـــــةٌ فِي تُـــــراثنا تــــَقْـــــرَفُ * * * الأجْيالُ مِنْهَا وتشمئزُّ الدّهــورُ
ســـوفَ تبقَى عَلَى الضّمائر كابــوسًا * * * مُنِيخًــــا تنهــــدُّ مِنْهُ الصّدورُ
قد يُطيـــحُ الإعصارُ بالدّوحةِ الفرعاءِ * * * لكنْ تبقَــــى تـــــرفُّ الجذُورُ
ثُــــمَّ يَشَّقّـــَقُ الأديــــمُ وينْمــو * * * من جديدٍ دوحٌ عَتِيٌّ قديرُ(..)
ومن النـــصّ النثــــري، «أنــــا وزماني» نورد مقتطفــات يتحدّث فيهــــا أحمد اللغماني عن تجــــربته الإذاعيــة، منتجا لبــرنامج «هـــواة الأدب» وكـــذلك عـــن أوّل لقـــاء له بالرئيـــس الراحل الحبيب بورقيبة عند زيارته لمقرّ الإذاعة التونسية في 7 نوفمبر 1962:
في يوم من أيام جوان 1962 اتّصل بي هاتفيّا مدير البرامج الإذاعيّة الوطنيّة وطلب منّي أن أنوبَ الشاعر مصطفى خريّف في برنامجه «هواة الأدب» لأنّه كان مريضا. وألحّ عليّ في القبول لا سيمـــا ونحن على أبواب العطلة الصيفيّــــة. فقبلـــت العـــرض لمــــدة العطلة الصيفيّة لأنّ عملي المدرسي لا يدعُ لي من المجهود والوقت ما أصرفه في قراءة محاولات الشّبان في الإنتاج الأدبيّ من شعر وقصّة ومقالة واختيار ما يمكن لي إذاعتهُ. كما رجَوتُ مديرَ البرامج ألاّ يذكر اسمــــي على شــــريط «الجنريك» حتى لا أقـــع في مشاكل مع رؤسائي في وزارة التربيــة ذلك لأنّ وزارة التربيـــة لا تسمح لموظّفيها أن يتعاطوا نشاطا خارج نشاط وظيفتهم إلاّ برخصة كتابيّة من مصالحها.
وأشرفتُ على البرنامج شهريْ جويلية وأوت وفي أوائل سبتمبر اتّصلت بمدير برامج الإذاعة مذكّرا باتفاقنا الذي وافت نهايته بحلول السنة المدرسيّة قريبا ليرى رأيه في من سيُشرفُ على «هواة الأدب» بعدي.
والحقّ أنّ هذا البرنامج شدّني إليه كما أنّ الشبّان الذين يراسلون البرنامج تضاعف عددهم وتكثّفت محاولاتهم وفوق ذلك مازال الأستاذ مصطفى في المستشفى.
عندما نبّهت مدير البرنامج لانْسحابي من هذا البرنامج ألحَّ عليَّ لمواصلة الإشراف عليه أيّاما قليلة ريثما يجد من يحلّ محلّي. وبعد ساعةٍ من مكالمتي مع مدير البرنامج خاطبني المديرُ العام للإذاعة: الحبيب بوالأعراس ملحّا هو أيضًا أن أواصل الإنتاج ولتأكيد الحاجة أنبأني بأنّ الرّئيس بورقيبة مُعجبٌ بـ«هواة الأدب» ولا تفوتُهُ حصّة واحدة منه. فقبلتُ على أن تأتيني سيارة للتّسجيل إلى نابل ويتم تسجيل الحصّة في مكتبي.
وواصلت مسيرتي مع «هواة الأدب».
واتّصل بي الحبيب بوالأعراس يوم 6 نوفمبر 1962 وأخبرني أنّ الرئيس بورقيبة سيــزور الإذاعة صبــاح الغد 7 نوفمبر وأنّه عليّ أن أحضر لأنّ الرّئيس أبدى رغبة في التعرّف عليّ، وأضاف الحبيب بوالأعراس مداعبا «ألم أقل لك أنّ الرئيس مفتون ببرامجك». فسمعتُ وأطعتُ وكنتُ حاضرا في الموعد.
وجدت أمام الإذاعة جمعًا من علْية القوم ينتظرون قدوم الرّئيس: أعضاء الإدارة وأعضاء الدّيوان السياسيّ للحزب الاشتراكي الدّستوري، والبعض من كبار الموظّفين.
والتقت عيني بعيني الأستاذ محمود المسعدي وزير التربية ولاحظت في طرفة عينٍ استغرابه وجودي في هذا المكان في هذا اليوم وفي هذه الساعة.
تلقّاني الحبيب بوالأعراس بالتّرحاب ودعاني إلى الدّخول والانتظار في مكتب كاتبته ريثما يأتي الرّئيس إلى مكتبه بعد أن تتمّ جولته في أستوديوهات الإذاعة ففعلتُ.
طاف الرّئيس بأقسام الإذاعـــة وأستوديــوهاتها ثمّ دخل مكتــب المدير العام للاستراحة. عندها فتح الحبيب بوالأعراس باب الكاتبة وأدخلني مكتبه.
كان الرّئيس واقفًا وسط المكتب الفسيح يحفّ به وزراؤه. وتقدّمت في رهبة لا تخفى ذلك لأنّي أراهُ من قرب لأوّل مرّة. رغم قصر قامته بدا لي – لهيبته – عملاقًا، وشدّتني نظرتهُ النافذة وزرقة عينيه الصّافيتين.
قدّمني إليه الحبيب بوالأعراس فرحّب بي ترحيباً حارّاً ما كنتُ أتوقّعه، وعبّر لي عن إعجابه الكبير ببرنامج «هواة الأدب» وحياني بتشجيع كبير وإطراءٍ أخجلني. ثمّ سألني: «لماذا لا تذكر اسمك في البرنامج؟» فأجبته بعموميّات لا تغني في الإقناع لئلاّ أحرج الأستاذ محمود المسعـدي الـــذي كـان يلوّح بابتســامة عــريضةٍ ورأيته ينحني على الرّئيس مســـارّا، وأردف الرّئيس: «وبلغني أنّ لك محاولات موفّقة في الشعـــر أرجــــو أن أسمع منها في مستقبل الأيّام».
ثمّ التفت إلى الحبيب بوالأعراس وقال «برنامج مثل هذا يُذاع مرّة واحدة في الأسبوع؟ في حين يُذاع برنامج «أغنية لكلّ مستمع» كلّ يوم؟ لم لا يذاع برنامج «هواة الأدب» أيضًا كلّ يوم. كيف يكون هذا يا سي الحبيب؟».
فأسرعت بالجواب: «ذلك صعب سيّدي الرّئيس إنّ لي عملا يتطلّب منّي وقتي كلّه» فقال: «وما هو عملك؟». عندها أجابه الأستاذ المسعدي «الأستاذ أحمد متفقّد التعليم الابتدائي بدائرة نابل سيدي الرّئيس». فقال «عمل مجدّ حـقّا. ولكن جـــدوى «هــواة الأدب» لا تقلّ عن جدوى تفقد المعلّمين والمـــدارس. على كلّ حـــالٍ أطلب منك يا ســـــي أحمـــد أن تزيــــد في حصــص هــذا البرنامج المفيد. هو لا يــذاعُ إلاّ يوم الجمعة؟ أليــــس كذلك؟ فليذع أيضًا يـــومي السبـــت والأحـــد هذا إذا وافق الأستاذ المسعـــدي طبعـــًا». فسارع الأستـــاذ المسعدي بقوله «لا أرى مانعًا سيدي الرّئيس بل أحبّذ ذلك».
أذعت مرّة قصّة لأحد الرّواة فعلّقت عليها بما فحواه: «الحـدث في هذه القصّة: امرأة جاءها المخاضُ فولدت لكنّ الوليد كان ميّتاً، واهتمّ الكاتب بمفعول هذه الحادثة في نفس الوالدة قبل الولادة وبعدها، لكنّ التّحليل النفساني أتى موازياً للحـــدث غير متـــدخّل فيه كأنّه كان مجانيّاً كما يقال». وبعد يوم واحد من إذاعة القصّة هتف لي مدير الإذاعة أن الرّئيس يدعوني إلى نقاش القصّة من جديد لأنّه يرى فيها غير ما أرى. وأخبرني السّيد بو الأعراس أنّ هذه المناقشة سيحضرها كبار الأدباء رجال الدّولة وكبار المثقّفين في قصر الرّئاسة.
فحضرت وأخذت مجلسي بين الحاضرين فأشار إليّ الرّئيس بالجلوس إلى جانبه على «الكنبة» ففعلت وأدرت آلة التسجيــل وسمع صوت المختار حشيشة يقرأ القصّة ثمّ صوتي معلّقًا عليها وعندما انتهيت وختم المختـــار حشيشة الحصّــــة بادرني الرّئيس بقوله: «لقد غَبنتَ هذا الشّاب حقّه. القصّة جيّدة وأنت كنت قاسياً في تعليقك».
وأخذ يحاورني في مفهوم القصّة ويناقشني وأنا أيضًا أحاوره وأناقشه وكان بين الحين والحين يلتفت إلى اليمين حيث يجلس ثلاثة وزراء من رجال الأدب هم: أحمد بن صالح، الشاذلي القليبي، ومحمد مزالي. يلتفت إليهـــم كأنّه يستميلهم إلى رأيه قائلاً أليس كذلك؟ فيجيبون «بلى ســيّدي الرّئيـــس» وطالت الجلسة وألحَّ هو على وجهة نظره وتمسّكت أنا بأفكاري، وبدا عليـــه شيء من التشنّـــج فقلــت «معذرة سيدي الرّئيس! لا تؤاخذني، إنّ رأيك لم يقنعني» فكان جوابه: «بارك الله فيك يـــا سي أحمــــد أنا أقـــدّر ثباتك على رأيك. هيّا بنا إلى العشاء!» وكانت الساعة تشيرُ إلى الثامنة مساءً.
فوقف شــابّ وطلب من الرّئيس أن يلقي قصيدة فقال له «تفضّل اقرأها!» فقرأها. فقال لي الرّئيس: «هـيّا يـــا سي أحمــد! ما قولك في هذه القصيدة» فأجبــتـــه «لا أستطيع أن أقول شيئاً في هذه القصيدة ذلك أنّه يجب أن أتأمّلها كثيراً لآخذ منهــا مـــا أجيبُكم به سيّدي الرّئيس». فقـــال الرّئيــــس للشّـــاب «أعطها للأستاذ أحمد ليعطيك رأيه فيها! هيّا بنــا إلى العشاء». والقصيـــدة التي ألقـــاها أمـــام الــرّئيس بعثها إلى وزارة الثقافة قصد المشاركة في حفل عيد ميلاده ولم تقبل.
هذا الشاب لي معه صِلة، فقد كان يتّصل بي كثيراً عندما كنت أشرف على إدارة الإذاعة وعندما أخرجت ديواني الأوّل «قلبٌ على شفة» قرأت مرّة على إحدى الصحف فوجدت بها نقدًا لديواني، يقول إنّ هذا الشعر جميل لكنّه شعر للمناسبات.
أمّا اسم هذا الشاب فلا حاجة لذكره.
- اكتب تعليق
- تعليق