أيمن بوغانمي: ريـاح الشّـعبــويّـة تهـبّ علـى الــغــرب
يبدو أنّ فوز دونالد ترامب بانتخابات نوفمبر المــاضي في الــولايات المتحدة الأمريكية قد منحت الشعبوية الغربية ثقة كبيرة في النفس.فقد ارتفعت مصداقية اليمين المتطرف في كل البلدان الأوروبية تقريبا. ورغم أنّ حزب الحرية اليميني في هولندا لم يفز في الانتخابات التشريعية الشهر الماضي،فإن حلوله في المركز الثاني إشارة لاستمرار الديناميكية الإيجابية لهذا التيار الذي يتوقّع أن يؤثّر جوهريا في انتخابات فرنسا وألمانيا في ماي وسبتمبر من هذا العام.فقد شهد المناخ السياسي لهذه البلدان حضورا لافتا لإشكالية ماهية إرادة الشعب والطرق المثلى لتمثيلها. وقد قدحت الحركات الشعوبية في دور المؤسسات الديمقراطية التقليدية في اتخاذ القرار بحكم أنّها لا تمنح الشعب الأولوية في سياساتها، ومن ثمة المطالبة بعودة الكلمة الفصل للجماهير بشكل مباشر.
تطرح هذه الظاهرة أكثر من تساؤل عن واقع السياسات الغربية ومستقبلها، خاصــة في ظـــل الضبابية الفجـــّة التــي تلفّ مصطلح الشعوبية، إذ لم تسلــم من تهمته أحزاب أقصى اليســار، وحتى الوســط، فضلا عن اليمين بشقيه المتطرف والكلاسيكي.وبما أنّ جذر الكلمة قائم على فكرة الشعب. وبما أن الغرب يقيم شرعية مؤسساته على مبادئ الديمقراطية، فإنّ من الضروري السعي بجدية إلى تحديد محتوى هذا المفهوم. والشعبويون على اختلاف مشاربهم يشتركون في قواعد مذهبية ووسائل اتصالية كثيرة، وإن اختلفوا في تنزيلها حسب السياق.
أما اتصاليا فقد استفادت القيادات الشعبوية من الإمكانات التي تتيحها اليوم وسائل الاتصال الحديثة من أجل اكتساح المجال العام دون المرور بالإعلام التقليدي. فموقع تويتر مثلا قد أمسى مع ترامب أحد أبرز ميادين المعارك السياسية، رغــم ضيـــق ما يـــوفّره من مجال للتعبير في 146 عـلامــة. ولئن كان هكذا مجال لا يتلاءم تماما ومتطلبات الديبلوماسية، فإنه يوفر إمكانات كبيرة للتبسيط وللمباشرتية، تتّفق وطبيعـة الخطاب الشعبوي الذي لا يحبّذ عمق التحليل ولا يتردّد في التحرّر من قيود الحقيقة. وبالإضافة إلى قــدرة هذه الوسائل على توفير أكبر صندوق صدى ممكن للأخبار المصطنعة وللمعلومات الكاذبة، فإن هيكلة شبكاتها تتلاءم والقراءات التبسيطية التي تقوم على الفصل بين الأنا والآخر. ومثال ذلك تعريف مارين لوبان للانتخابات الفرنسية على أنّها استفتاء للتصويت مع فرنسا أو ضدها.
وأما مذهبيا، فتشترك التيارات الشعبوية في تعريف الشعب من خلال رفض الآخر الذي يمكن أن يمثّله الأجنبي أو النخب أو المؤسسات بشتى أنواعها. وفي مثل هذا الخطاب سعي لتبسيط مفهوم الشعب وللنزول بـه من التعدّد إلى الأحادية.فهو يبــدو في انسجـامه المطلق كيانا أسطوريا تربطه مصلحة مشتركة لا ينازعه إياها إلا الآخر الذي يجب التحفّز لإقصائه من المجال العام.وسبيل ذلك التصويت للقيادة التي وحدها تمثل إرادته. وفي ذلك احتكار فجّ لتمثيل الشعب. وبما أنّ هذا الأخير لا يملك من السلطة الفعلية إلا ورقته الانتخابية، فقد وجب تثمين تأثيرها.ويكون ذلك أوّلا بكبح جماح المؤسسات غير المنتخبة التي تعمل لصالح النخب، ومن أبرزها القضاء والإعلام والمثقفون.كما يكون ثانيا بدعم الديمقراطية المباشرة التي تمنح فرصة حقيقية للتعبير عن إرادة الأغلبية، عن طريق الاستفتاء مثلا. وهو ما يؤكد أننا لسنا إزاء ظاهرة رافضة للديمقراطية، كمــا يذهب إلى ذلك الكثيرون، وإنما هي ظاهرة قائمة على استنكار الديمقراطية الانتخابية كوسيلة لتحقيق المبادئ الديمقراطية واقعيا.وفي ذلك انتصــار لشرعيــة الأغلبيــة على حســاب باقي الشرعيــات الدستورية والقانونية والإعلامية وغيرها.
وتعتبر مؤسسات الاتّحــاد الأوروبي، بالإضافة إلى الجاليات الأجنبية، الهــدف المفضّل للخطاب الشعبوي في أوروبا. وقد منح تصويت بريطانيا على الخروج من الاتّحاد مشروعية للنظريات القائلة بأنّ مؤسساته قد أُنشئت ضد الشعب أو على الأقل دون استشارته. ومثال ذلك في ألمانيا، أن الشعب لم يُستفت قط على التنازلات المتتالية على السيادة الألمانية لصالح بروكسال وهو ما ييّسر اليوم مهمّة حزب البديل من أجل ألمانيا. أمّا في فرنسا فيشترك حزب الجبهة الوطنية بزعامة مارين لوبان مع حركة فرنسا المتمرّدة بقيـادة جــون لـوك ميلــونشون في أقصى اليسار، في المطالبة بضرورة تعديل محتوى المشروع الأوروبي، وصولا إلى حـدّ التهديــد بمغـــادرة مــؤسساته التي تُخضع حســـب القيادتين، الشعب الفرنسي إلى دكتاتورية المـــال والأعمال في ظلّ عـــولمة لا تراعي مصالحه الأساسية. تعبّــر كــل هـذه العنـاصر عــن الأزمة الخانقة التي تعــاني منها البلدان الغربية، فمقبولية الشعبوية لدى الشارع الغـربي ليست إلا عارضا من أعراض الأمراض الاجتماعية التـــي أدّت بقطاعات واسعة من المجتمعات إلى شعور عميق بالغبن والإقصاء.
وقد ساهم الخطاب الإعلامي المبالغ في التشاؤم والمغــرق في السلبية في نشــر العــداء لآليات الديمقراطية الانتخابية، وفي تكـريس التشكيـك في قدرتها على مجابهة الأزمة. ومن أبرزها الأحزاب التي تأثّرت كثيرا بالتركيز الإعلامي المفرط على الفضائح المالية والأخلاقية لبعض السياسيين ممّا ساهم في دعم الشعبوية وخدمة مصالح قادتها الذين يؤكّدون على أنّ كل أحزاب الحكم تعبر عن نفس النخبة وتشكل الحملة الانتخابية الفرنسية أبرز مثـال على ذلـــك. فمـن ضمـن المرشحين الخمسة الأبرز نجد ثلاثة مـن خـارج الأحزاب الكلاسيكية بل وحتّى ضـدّها وهم مارين لوبان وايمــانوال ماكرون وجون لوك ميلونشون. أمّا مرشحا أحزاب الحكم فرنسوا فيون وفينوا أمون فهما يواجهان صعوبات جمة، وذلك رغم أنهما قد فازا بشرف تمثيل عائلتيهما السياسية من خلال انتخابات أولية مفتوحة وهو ما يؤكد أزمة الأحزاب الفرنسية التي عجزت آلياتها الهرميّة عن إفراز مرشحين طبيعيين كما جرت به العادة خلال عقود، فالتجأت إلى دعوة الشعب للحسم وهو ما قرّبها من الشعبوية، كي تجد نفسها في نهاية المطاف مجبرة على دعم مرشحين لا يملكون أحيانا أيّ أمل جدّي في الفوز بمقعد الرئاسة.
وهو ما يعني عمليا أنّ المشهد السياسي في فرنسا كما في غيرها من البلدان الغربية، مقبل على تقلّبات عاصفة ستفسح المزيد من الآفاق للشعبوية. فانفجار المشهد الحزبي قد يؤدّي إلى شلل المؤسسات بما يجعلها فريسة سهلة لأمثال دونالد ترامب و مارين لوبان. ولئن كانت رياح الشعبوية تهبّ اليوم بقوة على الغرب، فإنّ العاصفة مرشّحة أن تصير في قادم السنوات إعصارا يهدّد مبدأ الديمقراطية الليبرالية التي قامت عليه مؤسساته. وفي ذلك ما فيه من مخاطر على الاستقرار الدولي وعلى التوازنات الجيوسياسية الكبرى في العالم.
أيمن بوغانمي
- اكتب تعليق
- تعليق