الانتخابات البلديّة والنّظــام الانتخـابي
أواخر السنة الحالية، ما يزيد عن سبع سنوات ومدن وبلدات تونس صغيرها وكبيرها تدار بنيابات خصوصية حتى صار العمران في تونس أشبه برسوم المدرسة السريالية. على كل حال إن غدا لناظره لقريب...يكتفي شفيق صرصار مثل الخياط على المقاس بأن يطلب من السلطات النظام الانتخابي ولا يجادل إن كان مناسبا أم لا حسبه أن تكون نزيهة وشفّافة أما ما ينتج عنها فليس من العهدة أو أن تدار المجالس البلدية للجمهورية الثانية ودستورها المحدث للحكم المحلي واللامركزية وفقا للقانون الأساسي للبلديات أوائل الاستقلال فلا ضير في ذلك. إلا أنّ الأستاذ الحبيب العيادي الأستاذ المتميز في القانون العام ليس ممن ترضيه الحدود الدنيا للأمور فقد نشر مقال تولت ليدرز بالفرنسية نشره في اللوحة وبالنظر إلى عمق ما ورد به سواء للانتخابات البلدية أو النظام السياسي بصورة عامة ارتأينا إفادة قرّائنا بــه تحريــكا للمواطن ورجاء التفاعل حول أهم ما يشغل الرأي العام بخصوص الشـــأن العــام وفاعلية التنظيمات والحكم في تونس مــا بـعـد الثورة الديمقراطية .
التمثيل النسبي نظام انتخابي خالص التلاؤم مع المجالس الاستشارية
الفكرة تنسب للجنرال دي غول الذي ابتعد طويال عن السياسة بعد 1946 ومن المعلوم أنه بواسطة هذا النظام تمّ انتخاب الجمعية التأسيسية الفرنسية األولى سنة 1945 والثانية سنة 1946 وكــان بصورته الكاملة يحظى بتعلق أحزاب اليسار والجنرال نفسه.
ولغاية ضبط سلطات الجمعية التأسيسية فقد نظم استفتاء للشعب الفرنسي في 21 أكتوبر 1946 بسؤال هل يرغب في جمعية تأسيسية؟ وفي صورة الإجابة بنعم هل من المناسب أن تكون لها سلطات مطلقة ام محددة بالموافقة على نص أوّلي اي دستور وقتي موضعه تنظيم السلطات العمومية؟
هذه الفكرة كان الدافع إليها عامل سياسي وهو الحيلولة دون أن تنساق الجمعية التأسيسية لاهتمام غير صياغة الدستور مع الإشارة إلى أن الإجابة عن الاستفتاء بنسبة 70 في المئة تحدد سلطاتها وتدخل حيز النفاذ التنظيم المؤقت للسلطات العمومية. 1945 كانت سنة ابتداء العمل ألول مرة بالنظام النسبي وجسّم انتصار أحزاب اليسار(الشيوعي والاشتراكي) وحزب مسيحي، حركــة ممثلي الشعب لكنه لم يحقق الأهداف المرجوة من أتباعه وكما بيّن الفقيه دو فارجاي فإن الناخبين كرهوا نظام القوائم المحدّدة التي تعــطي الانطباع بخيار إجباري. باعتباره نظاما غير شعبي ومكروها حسب ما أجمع عليه الملاحظون.
في سنــة 1951 تمت مراجعة النظام الانتخابي بغاية تقليص تمثيل الحزب الشيوعي و بوجه من الأوجه تمثيل الحزب الاشتراكي والحزب الديغولي. وقرن قانون 9 ماي 1951 بين التمثيل النسبي والاقتراع بالأغلبية في دورتين للسماح بالتنازل وبالنسبية بقوائم على مستــوى المحافظات بغاية إبقاء سلطة الأجهزة الحزبية على النواب المنتخبين ولم يشـــكّ اي كان في فرنسا أن ذلك النــظام الانتخابي ساهم في الوهن المؤسساتي والسياسي وفي أزمة هبوط النمو الاقتصــادي.
ولم تتمكن النخبة الحاكمة من التكفل بحاجات الحقبة ولا تصــوّر الإصلاحــات والتشريعات الكفيلة بمعالجة الإشكاليات و الأزمة الاقتصادية والمالية.
مع قيام الجمهورية الخامسة وقع التخلي عن النظام النسبي وعوّضه الانتخاب بالأغلبية في دوائر فردية وأفضى هذا النظام إلى استقرار سياسي أكبر ونجاعة أفضل اقتصاديا وماليـا.
الحــــالة التّونسيّة
إذا مـــا نظرنا إلى النظام الانتخابي لما بعد الثورة في سنتها السادسة فإن ملاحظة أولى تفرض نفسها على الملاحظ، فإذا اقترنت الثورة ببعض أزمات ومصـاعـب أو نقاط ضعف فإن أولاها ولا شك النظام الانتخابي.
لمن ينسب الخطأ بشأن هذا النظام الانتخابي الذي بالفعـل يطيح بالسيـاســة ويقصي من المنافسة كل من لهم القدرة على الرأي المضاد وعلى مباشرة النقاش والدعوة إلى الإصلاحات وإلى تدخل إرادي بشأن البطالة وما تسبّبه من تحلل اجتماعي مما يجعل الأحزاب حديثة التكوين ذات الأسس الشعبيــة والسياسية الضعيفة والقدرة المحدودة في السياسات الاقتصادية والمالية والاجتماعية، تجادل أزليا بخصوص الانتقال الديمقراطي.
تكمن مأساة تونس حــاليا في سـاستها فالبلاد بأكملها تعاني من انعدام وعي النخب المسيّرة والسياسية والنقابية بالعالم الحديث. فالعولمة الاقتصـــادية والتقنيات الجـــديدة للاتصال والمعلومات أحدثت تسارعا رهيبا للمنافسة السياسية والاقتصادية وانقلابا في عالم العمل، ممّا حتّم إجراء، إصلاحات لم تجرأ أيّة حكومة منذ 2011، لا من اليمين ولا من اليسار على المبادرة بها ولم يقدم أي حزب أو نقابة على اقتراحها والحال أن الآلية الذكية تؤذن بنهاية مقدرة الأجراء.
وبصورة أعـــم فإن النخبــة السياسية لم يكن بوسعهــا تحويـل حاجيات اللحظة وانتظارات الجماهير التونسية إلى قرارات متناسقة، بعد معاناتها من سنوات الاستبداد و صدمتها بعالم جديد يفرض عليها أن تواجه بقسوة وسرعة المعاملات السياسية والاقتصادية والاجتماعية المرتبطة بمتطلبات الديمقراطية وعولمة الاقتصاد وواجبات المجتمع التكنولوجي.
النّــظام الانتخـــابي
هو آلية لتعيين الحكام ليس إلاّ، بمعنى أنه عنصر مهمّ في النظام السياسي ولكن ليس بالأساسي فيه ولا يمكن تقييمه دون اعتبار مجمل النظام المؤسساتي والسياسي الذي يندرج ضمنه. ويتولى الحكام، في زمن معيّن وضع قواعد اللعبة التي بواسطتها يبقون في مركز صناعة القرار. وهذا مــا يعني وفقا لخطاب اتباع ماركس أن النظام الانتخابي تضعه الطبقة المسيطرةللإبقاء على هيمنتها الطبقية.
ومن الواضح في تونس أن النظام الانتخابي الحالي صاغته بعض التشكيلات السياسية لغاية البقاء في الحكم وأن الكثير منها لا تفكّر مطلقا في نظام آخر من شأنه أن يقودهم إلى التضحية بالذات على منبر النجاعة السياسية والعدالة الانتخابية.
وتبدو النقاشات عند ما تخصّص باختصار لإصلاح النظام الانتخابي حتى بالنسبة للانتخابات البلدية رديئة سواء ضمن المجلس التأسيسي أو مجلس نواب الشعب حاليا. وتعطي انطباع بأن كل تشكيلة سياسية وفي بعض الأحيان كل نائب همّهما الأساسي التضحية بالكثير من أجل إعادة انتخابهما وفعلا فليس هناك مـن يفكـر عمليـا في إعادة النظر في التمثيل النسبــي مــع أكبر البقايا ،والتعليل المقدم هو نفسه، الإبقاء على المألوف ويحظى برضــاء الأحــزاب الكبيرة ومع تالفي القفز في مجهول نظام اقتراع جديد.
ولا يبدو بخصوص الجماعات المحلية على وجه التحديد أن السلطة الدستورية ترغب في إرساء نظام سياسي محلي، إذ تبقـى تلك المـؤسسات في نفس الوقت إدارية وسلطة مضادة للدولة المركزية. ويكــون مــن الخطأ تسييسها بنظام انتخابي مثـــل التمثيـل الفردي الذي من شأنه إقصــاء النخــب.
بقـاء مـا كان على ما كان
إذا وفي الظروف السائدة كيف لا ينتاب الشعور أن لا شيء سيتغير وان ما هو جوهري سوف لن يرى وأن دروس انتخابات 2014 وتحذيرات الناخبين سوف لن يتم استخالص العبرة منها.
الحكام الحاليون يفتقرون محـددا إلى الخيال والجرأة. فخلال ست سنــوات لم تضع أي من الحكومات المتعاقبة برنامج إصلاحات موثوق فيه وقابل للإنجاز إذ بقوا في نفس المكان جامدين، ومذكــرة النجـــاة والطــــوارئ لديهم في المادة السياسية هو الإمســاك عن الفعل مع الإيحاء بأنهم منشغلون.
لم تكن الانتخــابــات 2011 و2014 أبعــاد ولا معنى فالناخب لم يصوت لا على نموذج دستور ولا على سياسة و لا على برنامج إصلاحات ولا في آخر مطاف على أغلبية حكومية قادرة على اقتراح وتنفيذ برنامج إصلاحات وعلى الأكثر، ومن بين مختلف التشكيلات السياسية حاول أن يختار إحداها باعتبار أنها تضمّ أفضل من يدافع عن مصالحه والقيم والخيارات التي يؤمن بها.
وقد قاد نظام الانتخابات إلى تدعيم الطبيعة الإيديولوجية لأحــــزاب السلطــة والمعارضة على حــد السواء. ويحـاول كل حزب أن يكون له مخزون نــاخبين متفاوت الوفاء من خلال التعبير بقوة عـــن المجالات الأساسية لما يؤمن به. فالجبهة الشعبية تريد أن تكون التشكيلة السياسية للطبقة المحرومة والعمال والمهمشين ونداء تــونس وجـــد ناخبـــين مــن الحداثيين والطبقة المتوسطة والنهضة وجدت ناخبين من المتمسكين بالقيم الإسلامية. وفي الأثناء نلاحظ انحرافات غريبة على مستــوى الأحزاب التي تحولت إلى جماعــات ضغط تخلط في خطابها بين مفهوم المصلحة العامة والدفاع عن مطالب الفئات التي تمثّلها.
حكومة الوحدة الوطنيّة
هي ابتكار لا يتلاءم مع الواقع السياسي للبلد. ويبدو سقوط نظام بن علي بعد ثلاثة وعشرين سنة من الحكم، مؤشرا قويّا عن التباين الحاصل، دكتاتور مستعد للقيام بكل شى للبقاء ومجتمع مدني في أوجه، حاول بما أوتي من جهد خنقه مما تسبب في ضعف مزمن لقوى التناوب خاصة في لحظة وقوع القطيعة وما بقي في واقع الأمر سوى ثقل مجتمعي مطبوع بالقيم الإسلامية.
يوم 15 جانفي لم يكن هناك سوى قوتين قائمتين: الجيش و الاتحاد العام التونسي للشغل تضاف إليهما قوة كامنة، الإسلاميون المستفيدون من ذلك الثقل. وفي هذا الصدد، فإن قرار الدعوة إلى مجلس تأسيـــسي كانت نتائجه ثقيلة، إذ أدى لا فقط لتحويل ثورة ذات طابع اقتصادي واجتماعي إلى ثورة سياسية، ولكن أيضا لحرمان أحزاب رأي في طور التشكل، من التحرك بإسناد الحكم إلى الحزب الوحيد المنظم: النهضة، اي حزب مؤسس على إيديولوجيا. لكن أي حكومة إسلامية قائمة على الفضيلة حســب ما يعتقد ليس لها أن تخضع لرقابة مجلس منتخب ولكن فقط إلى ضمائر زعمائها، كما أن الصالح العام يعتمد في تقييمه الفضيلة التي تعتبر ركيزة كبيرة في النظام الإسلامي. ولكن وقع تناسي أن التغيير المفاجئ في المجتمع السياسي نتج عنه التعبير عن مطالب جديدة خاصة في المجال الاقتصادي والاجتماعي وتذمرات شعبية بقيت لحد الآن غير معبر عنها، أو في أدنى الحالات مغيّبة عن مراكز صنع القرار.
أما نداء تــونــس فإن ظــروف انتصــاره خنق ذلك الانتصار، إذ استفــاد سنة 2014 من مزاج التونسيين الرافض في ذلك التاريخ لما هو موجود، مللا وانزعاجا وحساسية من جمود الترويكا وشغب رئيس الجمهورية المؤقت. ويمثل اليوم أغلبية مفككة متناحرة تتولى شؤون البلاد دون وحدة ولا شرعية حقيقية. اليسار من ناحيته استفاد منذ بداية الثورة من تســاهــل أغلب أجهزة الإعلام وتواطؤ عديد المثقفيـــن. ولأنّ هــذه الشريحة من الطبقة السياسية تتحوّز على رومنسية البلاد وقدر كبير من أملها، فإنه يبدو من الصعب توجيه النقد لها دون التعرض في الأفضل إلى تهمـــة القسوة وفي الأسوأ إلى تهمة الفاشية. و يبدو فعال أنها لم تفهم بأن خطابها يدور في حلقة مفرغة. وهو إلى حدّ الآن عــاجــز عن تقديم سيناريو متناسق، أي تصــــوّر يســاعد التونسيين على التغلب على مخاوف وضعية الأزمة الراهنة. وهو يدرك ذلك جيدا وبالتالي فهو غير مؤهل لتولي الحكــم.
التعايش الصعب في حكومة الوحدة الوطنية لأحزاب ليس لها من ناحية سند جماهيري، للمسك بالبلاد ومباشرة الإصلاحات من ناحية ثانية، فإنها تبقى حبيسة عالمها الإيديولوجي ولا يمكنها أن تمدّ يد العون لتنفيذ الإصلاحات.
وبأكثر دقة فإن التجربة تبيّن أن هذه الأحزاب هي في نفس الوقت شركاء وغرماء وكلما ازدادت الأغلبية اعتقادا في مكانتها كلما مال كل حزب من مكوناتها إلى الدفاع عن مصالحه الخاصة.
هل من الممكن في الوقت الحاضر أن نكون على هذه الدرجة من التشدّد إزاء النظام الانتخابي الحالي؟ والجواب بنعم وحده يفرض نفسه.ولا يشك أحد على مستوى الرأي العام، على الأقل، في ضرورة تبديل هذا النظام الانتخابي.
على خارطة سياسية غير واضحة المعالم يواصل التونسيون أدائهم دون قناعة كبيرة ولم يسبق ملاحظة عزوف عن السياسة بالقدر البين حاليا، ويزداد الأمر تعقيدا حيث أن ما من حزب في الساحة قادرا على الاضطلاع بالحكم و مباشرة الإصلاحات الجدية لا التجميلية والضرورية لإخراج البلاد من أزمتها.
في معرض تناوله لمسؤولية النظام الانتخابي تحت الجمهورية الرابعة فإن ج. جورجال اعتبر أن الأصعدة الثلاثة : الحكومي والبرلماني والانتخابات متماسكة إذ يجمعها اسمنت واحد: غياب الانسجام هو مصدر عدم الاستقرار. وللتغلب على هذا الفساد ينبغي معالجة المرض من أصله ومواجهة المشكل الانتخابي.
والوضع في تونس غير مختلف. إذ من المتأكد تنقيح النظام الانتخــابي وحــل المجلس الحالي وتنظيم انتخابات جديدة. وفعلا فوفقا لدستور سلم مباشرة الحكم للأحزاب السياسية، باعتبارها الأقــدر على الاضطلاع به، لكونها تعبر وحدها عن تطلعات التونسيين، فإن كل الأحزاب ينبغي أن تسعى بصورة طبيعية إلى أمرين جوهريين: إعادة سلطة وهيبـــة الدولة وتخليص البلاد من الأزمة الاقتصادية والاجتماعية. باعتبار أنّ لا شى مــن هذا تحقق فعال. فضعف السند الشعبي لهذه الأحزاب وبالتالي غيـــاب الرضا الجماــعي يعتبران سبـــب كل مصــاعب البلاد.ان الفاعلية الضرورية للديمقراطية تجعل من الضروري لا محالة الرجوع إلى الشعب صاحب السلطة الوحيد.
حبيب العيادي، أستاذ متميز
بكلية العلوم القانونية
والسياسية والإجتماعية
المقدمة والترجمة : أبو عطف
- اكتب تعليق
- تعليق