كتـاب «كنـت في الرقّــة: هارب من الدولة الإسلاميـة» شهــادة حـيّة مـن داخل تنظيـم داعـش
لا تزال ظاهرة داعش تسيل الكثير من الحبر لفهم أسباب ظهورها وتطوّرها وتأثيرها الكبير على عدد لا يستهان به من الشباب المسلم في العالم ولكن ما يثير الاهتمام بالنسبة إلينا في تونس هو ارتفاع عدد التونسيين المنضمّين إلى الدولة الإسلامية والمقاتلين في صفوفها في العراق والشام، حيث قدّر هذا العدد بستّة آلاف مقاتل، هم الأشرس من ضمن كل المقاتلين والأكثر دمويّة.
ولئن تعددت المحاولات لتحليل ظاهرة التحاق الشباب التونسي بصفوف داعش وتتالت الدراسات والإحصائيات، فإنّها بقيت في مجال التحليل العلمي العام للظاهرة مغفلة الجانب الشخصي وراء قرار أي شاب اعتناق مذهب الدولة وأخذ قرار ترك كل شيء خلفه للالتحاق بها.
في كتابه الجديد «كنت في الرقة: هـارب من الدولة الإسلامية» (منشورات دار نقوش عربية 2017)، يسلّـط الكاتب والصحفي الهادي يحمد، المتخصّص في الجماعات الإسلامية، الضوء على التجربة الشخصية لمقاتل تونسي انتمـى إلى الدولــة الإسلامية وقاتل في صفوفها في العـراق وسوريا قبل أن يقرّر تركها والخروج منها. الكتاب يقدّم لنا شهادة حيّة من داخل داعش حول تجربة العيش في ظلّ الدولة الإسلامية وطرق إدارتها وتعاملها مع أفرادها من «المهاجرين» (القادمين إلى الدولة من خارج مناطق نفوذها) و«العوام» (سكان المناطق التي يسيطر عليها داعش). شهــادة كانت ثمرة «لقــاء غريب» كما أسماه الكاتب بينه وبين أحد المقاتلين الشبان في داعش اسمه محمد الفاهم، من مواليد أفريل 1990، أصيل مدينة نابل.
«فـــلاش بـــاك»
بــــدأ كــل شيء بحوار عبر مواقع التواصل الاجتماعي، تكرّر بعد ذلك بشكل متواصل، وتعمّقت من خلاله علاقة الثقة بين الكاتب وبين المقاتل، ثم سافـــر الهـــادي يحمد إلى اسطنبول حيث حصل اللقاء بينهما. وهناك تمّ تحديد برنامج من اللقاءات اليومية يسرد فيها محمد الفاهم تفاصيل مغادرته لتونس والتحاقه بــداعـش وطريقـة العـيش في الرقّة ووضعية المقاتلين هناك وعلاقته بالتونسيين منهم وتفاصيل المعارك مع الجيش السوري ومع الأكراد، ممّا شكّل مادة غزيرة استثمرها الكاتب وصاغها في شكل روائي شيّق، مضيفا لها خلفيات وتدقيقات تضع الشهادة في سياقها التاريخي والجغرافي وتساعد القارئ على إدراك أهميتها. اختار الكاتب أن يكتب القصة بتقنية «الفلاش باك» حيث بدأ من الأخير، من حيث هرب المقاتل من الدولة الإسلامية ليعود بعد ذلك تدريجيا إلى بداية رحلته نحوها. تبدأ إذا القصة بإحساس الخيبة الذي يجتاح محمد الفاهم بعد أن أدرك أنـه كـان يلاحـق سـرابا، وبعد أن خان الواقع الصورة المثالية التي رسمها للدولة الإسلامية «على منهاج النبوّة». ولعلّ الكـاتب اختـار هذه التقنية ليبعد عن نفسه كلّ شبهة بالترويج للإرهاب أو تَلميع صورته، فهاهو بطله نفسه يعــترف بأنّ «الــدولة الإسلامية» هي خـدعة اغترّ بهــا هــو وأصدقاؤه ودفعوا من أجلها حياتهم وتركوا أوطانهم وأهاليهم.
رحلة في اتّجـاهين
بعد أن أبعد الكاتب عن نفسه تهمة تبييض الإرهاب، اعترضته مشكلة ثانية وهي: على لسان من سيروي القصة؟ على لسانه أو على لسان المقاتل؟ اختار أن يرويها على لسان هذا الأخير مستعملا ضمير المتكلّم ليعطي بعدا أقوى للرواية، رغم ما يمثّله ذلك من خطورة، لأنّ القارئ قد تختلط عليه الأمور بسبب عدم وجود مسافة بين راوي القصة والكاتب، مما قد يجعل القارئ أحيانا يتعاطف مع الإرهابي، خاصة عندما يجتاحه الشك فيما يخص حقيقة الدولة الإسلامية. الكتاب هو عبارة عن رحلة في اتجاهين: من تونس إلى الرقّة لدخول الدولة الإسلامية، ومن منبج إلى اسطنبول للخروج منها. وخلال الرحلتين يروي بطل القصة كل مراحل سفره بوصف دقيق للأماكن والأشخاص ويربطها بذكريات شخصية ليرحل بقارئه في الزمان والمكان. كما أنه يدخله في عالمه الداخلي الذي تسوده الصراعات ومحاولة البحث عن الذات وعن الحقيقة. فنحن لسنا أمام شابّ عادي تمّ تجنيده واستقطابه إلى داخل داعش، بل أمام روح حائرة يسكنها الشك، تبحث عن الحقيقة، وهو شيء استثنائي بالنسبة إلى منتم الى مذهب يعتبر أنّه المالك الوحيد للحقيقة وما دُون ذلك فهو كفر. هذه الشخصية الفريدة من نوعها هي التي تعطي طابع الفرادة للكتاب.
الذهاب إلى الرقّة
لا يختلف سيناريو ذهاب محمد الفاهم إلى الرقّة عمّا سمعناه في هذا المجال، فالراغب في الذهاب إلى هناك، يبدأ بالتواصل عبر وسائل التواصل الاجتماعي مع أصدقائه أو معارفه الذين سبقوه الى الرقّة، ثم يُعلم هؤلاء إدارة الحدود في الدولة الإسلامية برغبته، فتقوم هذه الأخيرة بالتنسيق مع عناصرها الموجودة في تركيا وليبيا وتونس للتواصل معه وإيصاله إلى مهرّب يتكفّل بعملية إخراجه من وطنه. هنا يؤكّد بطل القصة أنّ عملية خروجه وأمثاله في 2014 كانت يسيرة عبر الحدود مع ليبيا. لكنه لا يخفي أنه تعرّض لبعض المواقف الصعبة خلال الرحلة، أهمّها اضطراره لقطع كيلومترات طويلة من الصحراء بين ليبيا وتونس بعد أن تخلّى عنه المهرّب وقد اشرف على الموت عطشا. إلا أنّ محمد الفاهم المتشوّق للوصول إلى الشام لم يكن يبالي بهذه المصاعب التي كانت تقرّبه رغم كل شيء من حلمه.
يخبرنا البطل عن تفاصيل إقامته في مضافة تل أبيض التي وصل إليها عبر اسطنبول وأورفة، حيث تقوم العناصر الأمنيــة للــدولة بجمـع المعلومات عن القادمين الجدد وتخيّرهم بين أن يكونوا «مقاتلين أو انغماسيين أو انتحاريين». وتدوم هذه الفترة 10 أيام يرسلونهم بعدها إلى الرقّة حيث يتلقّون دورة شرعية ثم دورة عسكريّة، قبل أن يتمّ توزيعهم على الكتائب والدواوين المختلفة.
قوّة التونسيين
يتعرّض الراوي إلى قوة التونسيين في صفوف الدولة الإسلامية والمهابة التي يتمتعون بها. فهم الأكثر عددا والأكثر حماسة ودموية في القتال الى حدّ جعــل عنـاصر الدولة يعملون على تفريقهـم ويمنعونهـم من الوصــول إلى المناصب العليا.
كثرة تواجد تونسيين أدت الى تسمية أماكن باسمهم مثل «مسجد الفردوس» في الرقّة الذي أصبح يدعى «جامع التوانسة» أو كافيتيريا «الخـــطاب» التي صــــارت تـــدعى «مقهى التوانسة»، هذا عــدى ما أطلقه التونسيون أنفسهم من أسماء على بعض الأماكن مثل «حيّ التضامن» على مقر التسليح التابع للـــدولة و«محطة باب عليوة» على «كراج البولمر» لسيــارات الأجرة في الرقّة. يتحـدّث محمــد الفاهم كذلك عن المقــاتلين التــونسسن الذين التقاهم هناك مثل أبو بكر الحكيـــم ومغنّي الراب «أمينو» وكمال زروق من أنصار الشريعة.
وصف الحياة في الرقّة
يصف بطل القصة شوارع الرقّة ومحلاّتها ولباس سكّانها (النقاب للنساء وإطلاق اللحي للرجال) وطريقة تعامل عناصر الدولة معهم، حيث توجد توصية خاصة بعدم التعرض لهم وايذائهم، وإلاّ كان العقاب صارما لأنّ التنظيم يعتبرهم «الحاضنة الشعبية» التي يجب المحافظة عليها. ومحمد الفاهم دفع هو نفسه ثمـن ضــربه لأحد «العوام» (كما يطلق على سكان الرقة) بأن حُكم عليه بعشرين جلدة! ويروي هذا الأخير أيضا تفاصيل عن تطبيق الحدود، خاصة قرب دوار الساعة في الرقّة وعملياّت قطع اليد ورجم النساء الزّانيات.
بداية الشكّ وقرار الخروح من داعش
سرعان ما يبـدأ بطل الروايــة في اكتشـاف الحقيقة الواهية للدولة الإسلامية، حيث يسمع عن «محرقة كوباني» حيث تفقد الدولة 4 آلاف من مقاتليها، وقد كان من الممكن تفادي ذلك. وتصله أخبار المحاكمات والتصفيات الاعتباطية لمقاتلين انتقدوا الدولة، ومنهم بعض اصدقائه. ويتفطّن في مرحلة موالية إلى الارتباك في إدارة المعارك، خــاصة على إثــر المحاولات الفاشلة للوصول إلى ادلـب. ويكتشـــف أنّ الفســاد ينخر الدولة الإسلامية من الداخل، كما أنّها دولة بوليسية الكل فيها يراقب الكل وتنشط داخلها الأجهزة الأمنية والمخبرون الذي يرفعون التقارير الأمنية للسلطات العليا وعلى إثرها تتمّ الاعتقالات والتصفيات العشوائية.
لكن ما يثير حيرتـه حـقّا ويدفعه إلى الخـروج من داعــش هـــي الخـلافات العقائدية داخل التنظيم والانشقاقات الــداخلية التي تنتهي بتصفية المخالفين لفكر الدولة، لذلك يجد بطل الــرواية نفسه مدفوعا إلى الخروج منها وإلّاّ دفع ثمن أفكاره.
العودة إلى النشأة في تونس
في الجــزء الثــاني مــن الكتــاب، يحاول الكاتب تسليط الضوء على ظروف نشأة محمد الفاهم ليفهم الدوافع وراء انتمائه إلى الدولة الإسلامية. فيرسم لنا بورتريه لشاب عادي ولد في المهجر في دوتموند في المانيا، ثم عاد مع عائلته وهو في الخامسة من عمره ليلتحق بالمدارس التونسية. لم يكن عنده شغف كبير بالدراسة ولكن كان عنده شغف بحفظ القرآن، وهو وليد بيئة محــافظة متـديّنــة، زاد في تديّنها احتكاكها بالمهجر. حفظه للقــرآن واحتكاكه بالمساجد والأئمّة واستماعه إلى خطب الجمعة قوّى عنده الحس الديني دون ان يحوّله الى التطرف. لكن النقلة النوعية في مسيرته حصلت عندما احتكّ ببعض الشباب الإسلامي وتم ّمسكه معهم من قبل البوليس ليكتشف غياب الحرية الدينية في بلده في ظل النظام السابق. بعد ذلك تباغته الثورة، فينخرط في التيار السلفي ويشارك في القافلات الدعوية وفي أعمال العنف في السفارة الأمريكية. لكنه يرفض مبدأ الجهاد في تونس في حيـن أنّ أصدقاءه يؤيدون هذا المبدأ، ويقرر الرحيل الى الشام.
الإرهابي كنتاج لهذا المجتمع
يخــلص الهــادي يحمـد في نهــاية كتـابه، إلى أنّ محمـد الفاهم هو نتاج لهذا المجتمع الذي يحمل نموذجا هجينا للحـداثة، فلا هو يجد نفسه في مثال حَداثوي منقوص لا يقطع مع الفكر الخرافي والماورائي ولا هـو يجد نموذج دولة الإسلام كمـا كانت في عهـد النبي محمد (ص) والتي أوهمتـه داعش بأنها تمثيــل لهــا. فهو «ضحية الدولتين: دولة الاستقـلال والدولة الإسـلامية»، كما يقـول الكاتب.
في الأخير، هنـاك دعـوة غير مبـاشرة مـن خلال الكتـاب للتفكير في تجربة هـذا الشـاب الذي يمثّل جيلا كـاملا من الشباب التونسي الذي وجد بيئة من الفراغ الفكري، افتقرت إلى المعالجة الجدية لمسألة الهوية والنموذج المجتمعي، ليرمي بنفسه في حضــن وهـم.
ولئن اكتشف محمد الفاهم أنّه كان واهما فهو لم يجد البديل، لينتهي الكتاب وهو مجهول المصير.
حـــنــــان زبــــيـــــس
- اكتب تعليق
- تعليق