قــطـاع الألبـان: مشاكل بالجملة... طفرة متوقّعة وأزمة تهدّد القطاع
يمثل الإنتاج في قطاع الألبان نسبة هامة من عموم الإنتاج الفلاحي في تونس. وقد مرّ القطاع منذ سنتين بأزمة خانقة نتجت عن فائض كبير في مخزون الحليب. ولمّا عجز المنتجون عن التصرف في ذلك الفائض انتابهم الخوف من الإفلاس مما أثار احتجاجاتهم وعبّر عدد منهم في الأشهر الأخيرة عن غضبهم بإتلاف كمية هامة من الحليب على قارعة الطريق. وكان التصدير والتجفيف من بين الحلول التي اتخذت آنذاك للتخفيف من الأزمة.
يبلغ عمر التجربة التونسية في قطاع الألبان اليوم أكثر من 20 سنة. وتعتبر تجربة ناجحة حققت لتونس اكتفاءها الذاتي منذ سنة 1999 ولبّت حاجياتها من حيث الكم. وتميزت التجربة التونسية بآلية تصرف في المنظومة فريدة من نوعها مبنية على ثلاثة أسس هي الخزن التعديلي (لدينا مخزون استراتيجي يُقدّر بحوالي 50 مليون لتر في السنة) والتصدير(تم تصدير 12 مليون لتر سنة 2016) والتجفيف (تم تجفيف 26 مليون لتر سنة 2016 أي ما يعادل 2000 طن من الحليب المجفّف). وتشتغل في القطاع اليوم 11 مركزية للحليب ومشتقاته تصنَع حوالي 750 مليون لتر من الحليب نصف الدسم في السنة إضافة إلى تخصيص حوالي 150 مليون لتر لإنتاج الأجبان والياغرط، أما مصانع صناعة الأجبان فعددها 45، ويستخلص من الكمية المصنّعة حوالي 10 آلاف طن من الزبدة سنويا. ويشتغل في القطاع 112 ألف فلاح مربّ منتج للحليب يرعون قطيعا يضــم 450 ألف أنثـــى. وتؤكد الإحصائيات الرسمية أن غالبية المربين هم من صغار الفلاحين وأن 94% منهم يملكون أقل من 10 بقرات من بينهم 80% يملكون 3 بقرات فما دون ذلك. وينتج هؤلاء الفلاحون حوالي مليار و300 مليون لتر حليب في السنة وسيكون في حدود مليار و400 مليون لتـر سنة 2017، وذلك رغم أن البقرة الحلوب تنتج في تونس في حدود 4000 لتر في السنة بينما نفس النوع في بلده الأم ينتج ما بين 6 و 7 آلاف لتر في السنة. ويجمَع هذه الكمية الهائلة 240 مركز تجميع منتشرة في مناطق الإنتاج. ويُشغّل القطاع حوالي 150 ألف شخص ويُقدّر رقم معاملاته ما بين 1500 و2000 مليون دينار.
ورغم هذه الأرقام المهمة فقطاع الألبان «قطاع هشّ» حسب السيد كمــال الـــرجايبي المدير بالتجمع المهني للحوم الحمراء والألبان وذلك نظرا لأن غالبية المنتجين هم من صغار الفلاحين ولأن الإنتاج يومي ولأن طرق إنتاجه مختلفة بين الفلاحين مما يؤدي إلى تباين في كلفته. كما يصف السيد منور الصغيري المدير المكلف بالإنتاج الحيواني في الاتحاد التونسي للفلاحة والصيد البحري الوضع الحالي للقطاع بأنه «في استقرار هــش ومحفــوف بالمخاطر» وذهب السيد الحبيب الجديدي رئيس الغرفة الوطنية لصناعة الحليب ومشتقاته إلى وصفه بأنه قطاع منكوب لو لم تتخذ الدولة الإجراءات المناسبة.
هل تعود الأزمة من جديد؟
شهد إنتاج الحليب منذ 2015 ارتفاعا غير مسبوق مما نتج عنه طفرة في مخزونه, ارتفع بموجبها من 35 مليون لتر سنة 2015 إلى 62 مليون لتر في النصف الأول من سنة 2016 وبلغ المخزون في صيف 2016 حوالي 70 مليون لتر بينما تقدر حاجتنا بـ 50 مليونا فقط، فتدخّلت الدولة لامتصاص ذلك الفائض لفائدة بعض الوزارات. وترجع تلك الطفرة حسب المختصين إلى تراجع الاستهلاك المحلي وإلى أزمة السياحة التي أدت إلى تراجع استهلاك الفنادق التي تستهلك أكثر من 35% من إنتاج الحليب سنويا ثم بسبب إيقاف وزارة التجارة تصدير الحليب في بداية 2015 لتوفير الانتاج المحلي للمستهلك التونسي كما تم إيقاف عملية التجفيف أيضا.. وقد قدرت الخسائر التي تكبّدها المربون آنذاك بحوالي 40 مليون دينار بسبب إتلاف الحليب. ونظرا إلى أن دورة الإنتاج تمرّ بفترتين يرتفع في الأولى و ينخفض في الثانية ليصبح غير متناسق مع الاستهلاك الوطني ممّـــا دفع بالدولة إلى تطبيق سياسة التخزين. والمخزون نوعان: مخزون تقني يحتفظ بالحليــب لمــدة 10 أيام قبل التصنيع للتأكد من جودته. والمخزون الاستراتيجي يمثل استهلاك الشعب التونسي لمدة شهر. والتخزين حسب السيد منوّر الصغيري آلية تهدف إلى دفع المربين للإنتاج كما تشجّع المصنّعين على قبول الحليب وتخزين الزائد منه. وتدعم الدولة المركزيات بـ 50 مليما عن كل لتر تخزنه في الشهر. وبخصوص السنة الحالية يعتبر السيد منوّر الصغيري أن القطاع يبدأ الموسم بمخزون يعتبر مرتفعا في حدود 33 مليون لتر ونظرا للظروف المناخية الطيبة هذه السنة ينتظر أن يكون الإنتاج وفيرا في الفترة ما بين فيفري وماي (ينتظر فائض بـ 70 مليون لتر) وهذا قد يعيدنا لأزمة 2015 . ويدعم هذا الاستشراف اضطراب التصدير نحو ليبيا وبطء نسقه وعدم البحث عن أسواق جديدة. وأكد السيد الحبيب الجديدي أنه تمّ تقديم عديد المقترحات للحكومات المتعاقبة قصد النهوض بالمنظومة لكن لم تتخذ قرارات في هذا الشأن بعد ،لأن هذا القطاع حسب محدّثنا قادر لو يتم الاعتناء به على خلق مليون فرصة عمل لكن لا توجـــد أيّ نظرة استراتيجية جديدة لقيادته والتصرف فيه.
هيمنة الدولة على القطاع
وككـــل القطاعات يمــــرّ قطاع الألبان أيضا بصعوبات ويؤكد السيد منوّر الصغيري أن الإشكال الأساسي يكمن في عجز الاستراتيجية القديمة الموضوعة لمنظومة الألبان على مواكبة التطـــورات الجديدة على مستوى القدرة التنافسية وعلى مستوى الجودة وعلى مستوى ديمومة القطاع وخاصة مسألة هيمنة الدولة على منظومة الألبان والتحكّم فيها من أجل تأمين الاستهلاك المحلي. ولاحظ أن هذه الهيمنة تساهم في عدم تطوّر القطاع وهي سبب من أسباب مصاعب المنظومة. وتظهر الهيمنة حسب محدّثنا في الآليات التعديلية للأسعار على مستوى الإنتاج وعلى مستوى الاستهلاك وفي منح التخزين والتجميع والتجفيف والتصدير. كما أن الإدارة هي التي تأخذ القرار بالتصدير والتوريد والتجفيف. فوزارات الصناعة والتجارة والفلاحة والمالية تتحكم في المنظومة بينما لا تلعب المهنة الدور الأســاسي رغم أن لديها هياكل تمثلها وهي اتحاد الفلاحين واتحاد الصناعة والتجارة والمجمع المهني. والسؤال الذي يطرحه السيد كمال الرجايبي هو: من بإمكانه أن يتصرّف في منظومة الألبان ويقودها ويطبق الحوكمة الرشيدة، الإدارة أم المهنة؟ مجيبا بأنه على الإدارة أن تفهم أن المهنة قادرة على التصرّف في المنظومة.
ومن المــآخذ التي يركّز عليها السيد لطفي الشماخي المدير العام للتجمع المهني للحوم الحمراء والألبان أن الدولة التي تحدّد سعر الحليب عند الإنتاج بـ 736 مليما لا تدعم الحلقة الأهم في المنظومة وهو الفلاح المنتج بينما تدعم مركز التجميع بـ 70 مليما للتر وتدعم التخزين بـ 50 مليما للتر وتدعم الاستغلال بـ 115 مليما عن كل لتر. ويذكر السيد منور الصغيري أنه لم يتم تعديل أسعار الحليب على مستوى الإنتاج منذ موفى سنة 2014 فسعر تكلفة اللتر عند الإنتاج هو في الواقع في حدود 912 مليما لأن الفلاح الصغير عادة ما تعوزه تقنيات حساب تكاليف الإنتاج كاملة وبصورة دقيقة. ومن الصعوبات أيضا ما يتعلق بالجودة إذ يعتبر السيد الحبيب الجديدي أن هناك عوامل تؤثر سلبا في جودة الحليب التونسي مثل المناخ الحار واستهلاك القطيع العلف المركّز المستورد بنسبة 85% من جملة تغذيته بسبب نقص الموارد العلفية الطبيعية وارتفاع أسعارها وهذا يؤثر في تركيبة الحليب الفيزيوكيميائية وكذلك لطول المسافة التي يقطعها الحليب ليصل إلى المصنع ولغياب إمكانيات التبريد لدى الفلاح في الضيعة لأن جودة الحليب تتأثّر لو لم يتم تبريده بعد ساعتين من الحلب على أقصى تقدير، وطول المدة له تبعاته في التصنيع. ومن المشاكل التي يعيشها القطاع أيضا حسب السيد الحبيب الجديدي أن السعر العمومي للحليب لا يغطّي التكلفة خاصة بعد تدهور سعر صرف الدينار لأن مواد التعليب تستورد من الخارج وبعد الزيادة في سعر الكهرباء والماء والغاز في تونس إضافة إلى الزيادة في أجور اليد العاملة، لذلك يؤكد أن مركزيات الحليب تعاني من عجز مالي تراوح سنة 2016 بين 2 و10 ملايين دينار لكل مركزية كما أن للمركزيات مستحقات مالية لدى الدولة تُقدّر بـحوالي 40 مليون دينار لم تستلمها بعد، كما أن لمصنع التجفيف الوحيد في تونس وإفريقيا مستحقات أيضا لدى الدولة تقدر بحوالي 5 ملايين دينار لم يحصل عليها مما قد يؤثر على نشاط هذا المصنع مستقبلا. وتبقى وتيرة الاستهلاك حلقة مهمة في المنظومة إذ يشير السيد لطفي الشماخي إلى أن التونسي ليس من كبار المستهلكين للحليب ومشتقاته فهو يستهلك 110 لترات تقريبا في السنة حوالي 35% منها هي مشتقات الحليب التي لا يستهلكها التونسي كثيرا لغلاء أسعارها فالتونسي يستهلك مثلا كيلو واحد من الأجبان سنويا بينما يفوق استهلاك الفرد في الدول المتقدمة 250 لتر حليب في السنة تمثل نسبة مشتقات الحليب فيها 80%.
مراجعة تسعيرة الحليــب عند الإنتـاج: تسعيــرة لا تتماشى وكلفة الإنتاج
أي استراتيجية للقطاع؟
وللخروج من هذه الصعوبات وحلّ تلك الإشكالات التي يعيشها القطاع وللقيام بقفزة نوعية تشارك فيها جميع الأطراف الفاعلة في المنظومة، يقترح أهل المهنة والمختصون عدة حلول نلخّصها فيما يلي:
- تحرير القطاع من هيمنة الدولة عليه وإعادة التفكير في السياسة التعديلية. واعتماد مقاربة حقيقة الأسعار برفع الدعم عن المنظومة تدريجيا.
- تشجيع المنظمات المهنية وتحميلها مسؤولية القطاع وإرساء علاقة تعاقدية مع جميع المتدخلين في القطاع مع الحرص على المردودية الاقتصادية لنشاط كل الأطراف المشاركة في المنظومة.
- تأهيل حلقة الإنتاج وتوجيه كل منح الدعم للمنتجين مباشرة (يفوق الدعم 15 مليون دينار في السنة) لأن الفلاح هو الحلقة الضعيفة اليوم في المنظومة وتشجيع المربين على التنظَم في هياكل مهنية قاعدية كالجمعيات أو التعاضديات أو الشركات التعاونية الفلاحية... وبالتشجيع على تطبيق تمشّي «التبريد بالضيعة ودفع المعلوم حسب الجودة» بتقديم حوافز مالية للمنتجين تشجّعهم على اقتناء معدّات تبريد مما يمكّنهم من نقل الحليب إلى المصنع في ظروف أفضل. مع ضرورة الاهتمام بالمناطق التي تعتبر أحواض ألبان كالشمال الغربي وسيدي بوزيد..
- وضع استراتيجية جديدة للقطاع تعتمد تمشّي الجودة بالتعاون بين الإدارة وأهل المهنة على أن يترك المجال للمهنة للتصرف في القطاع وتبقى مهمة الإدارة المتابعة.
- دعم التصدير بتقوية القدرة التنافسية لدى المصنّعين ومساندتهم من أجل تكثيف التصدير نحو ليبيا وضمان استمراره (تم تصدير حوالي 12 مليون لتر سنة 2016)، وفتح التصدير نحو الدول الإفريقية جنوب الصحراء وهي سوق مهمّة وحاجياتها كبيرة من الألبان ومشتقاتها، وتكثيف الجهود للتصدير نحو الجزائر التي تعتبر ثاني مورد للحليب المجفّف في العالم بعد الصين لأن التصدير إلى السوق الجزائرية اقتصر على كميات ضعيفة من الحليب المجّفف.
- دعم آلية التّجفيف وتطويرها لأنّ القطاع لم يصل حسب المختصين إلى أوج عطائه في هذا المجال. لذا من المهم وضع صيغة لتشغيل وحدة التّجفيف تكون بموجبها على ذمة المنظومة بطريقة يوافق عليها أهل المهنة والإدارة معا علما أن هذه الوحدة تعمل حاليا حسب طلب الدولة. يذكر أن كلفة الحليب التونسي المجّفف تتجاوز الـ 11 د للكيلو بينما يباع في السوق العالمية ما بين 4 و5د للكيلو ورغم مجهود الدولة في دعم هذا المنتج بتعويض الفارق في السعر إلا أنه لم يصبح بعد مادة مهمة للتصدير.
- مراجعة سعر الحليب عند الإنتاج.
- إنتاج العلف الكامل في تونس والتشجيع على مزيد إحداث الضيعات المدمجة والتي لا تتجاوز نسبتها اليوم 15% من مجموع الضيعات.
- دعم نشـــاط تحـــويل الألبان إلى أجبـــان والتخفيض مـن الأداء على القيمـة المضافة المسلطة عليها إلى 6% أسوة بالمواد الغـــذائية مما يشجع التونسي على استهلاكها ويطـــوّر من معدل استهلاكه للحليب ومشتقاته.
وتؤكد الدراسات أنه عندما يستهلك التونسي في حدود 1.5 كيلوغرامات من الأجبان في السنة فإنه سيساهم في القضاء على الفائض من الحليب نهائيا بل وقد تضطر تونس الى الاستيراد.
هل تشهد خلال هذه السنة أزمة حليب جديدة مشابهة للسابقة بسبب الطفرة في الإنتاج؟ فمن سيكون الضحية هذه المرة ؟ وهل ستكون الحلول ترقيعية كما حصل في الأزمة السابقة؟.
- اكتب تعليق
- تعليق