رشيد خشانة: تونس‭ ‬بحاجـة‭ ‬إلى‭ ‬نخـبة‭ ‬غيـرمُلــوّثـة

رشيد خشانة

من يريدون أن يتعاطوا مع السياسة والأخلاق بوصفهما منفصلين لن يفهموا شيئا من الأولى ولا من الثانية. "(جان جاك روسو (EmileVI)"

مع التّدهور الذي جرف كثيرا من المُكتسبات المجتمعية في السنوات الأخيرة، نُلاحظ تدهورا مضطردا في الأخلاق العامة. هذا التّدهور لم يقتصر على فئات واسعة نسبيا من المواطنين، مثلما نلاحظه في الأسواق والشوارع والملاعب، بل أخذ يكتسح أيضا المجالين السياسي والإعلامي وسط لامبالاة عامة. واللامبالاة تؤدي بدورها إلى التعوُد والتكيُف، فيصبح الخارق مألوفا والمرفوض مقبولا.

من الشائع اليوم أن الذين يغضبون أو ينهرون أو حتى ينتقدون، لم يعودوا يزنون تصرفاتهم وعباراتهم بمثقال يجعلها متناسبة مع حجم الأفعال التي يُؤاخذون الآخرين عليها. ففي الشارع انهارت الأخلاق بشكل غير مسبوق، وصار السُواق يُرغدون ويُزبدون لأبسط مضايقة من سائق آخر أو مـن مُترجّل، أو حتى لمجرّد أن الشخص الآخر توقّف احتراما للضّوء الأحمر. ومن الشائع أيضا أن ترى شخصين يتراشقان بعبارات نابية في الطريق العام، وبأعلى صوتيهما، لموضوع تافه. هذا إذا لم ينزلا من سيارتيهما ويشتبكا على نحو يشلُّ حركة المرور.

معدن نادرٌ

الأخطر من ذلك أن هذا الانزياح غزا القنوات التلفزية، فاختُرقت خطوطٌ كانت تُعتبر حمراء، لكنها اصفرَّت خجلا من تدنّي مستوى «النقاش» (نقاش؟!). وللجمعيات الرياضية، التي تخلّت تماما عن دورها التربوي، ضلعٌ كبيرٌ في هذا التّدهور العام. مع ذلك سمعتُ قبل أيام وأنا واقف في الطابور سيدة تعتذر لرجل إلى جانبها بكلمة «سامحني»، بعدما لامستهُ الحقيبة التي كانت تتأبطُها، فرد عليها بغاية الأدب «سامحيني أنت». شعرتُ في داخلي براحة افتقدتُها منذ زمن، فالقُماش الأصيل لم ينقطع، والمعدن الذي بات نادرا لا محالة لم ينقرض.

كثيرا ما يُعتبر التحلّل من القيم الاجتماعية والاستخفاف بالأخلاق عنوانا للحرية، لكنه في الحقيقة نقيض لها، فالحرية الحقيقية مثلما يقول الفيلسوف روسو، هي أن تختار ألاّ تذعن لغرائزك فلا تسكر حتى يُغمى عليك مثلا. هذا في العموم، أما رجل السياسة فهو يجتاز الخط الفاصل بين مجاله الخاص والمجال العمومي الذي يزدحم بالناس، فيُصبح تحت المجهر في حركاته وأقواله، هندامه وسلوكه، كما في أخلاقياته وقناعاته. بهذا المعنى لا ينفصل دور السياسي، وخاصة إذا حمل مواصفات الزعامة، عن دور المُربي. وقد أدرك الزّعماء الكبار هذا الأمر فكانوا مُربّين كبارا، مما حوّلهم إلى قُدوة، بل إلى مدرسة. هناك طبعا كثيرٌ من المُنظّرين الذين ينزعون عن السياسة أية صبغة أخلاقية، مؤيدين مكيافيل في نهجه المُخاتل المُتلوّن. غير أن حبل التّزييف والبهتان بات قصيرا في عصرنا الراهن، مع تطوّر التقنيات وتراكم الخبرات، التي مكّنت من غزو الحياة الخاصة للسياسيين، والتّوصّل إلى معرفة غالبية الحقائق التي كانت تُحفظ في لفائف الكتمان.

لا أسرار بعد اليوم

ما عاد ممكنا اليوم لأيّ رجـــل دولة في أي بلـــد من بلاد العـــالم تقريبا، أن يطمئن إلى أن أسراره محفوظة تماما ولا تطالها أيـــدي الإعلام أو الشـــرطة أو القضـــاء. ولنا في رؤســـاء مشـــاهـــير في العالم أمثال لـــويس اينـــاسيو لولا دا سيلفا (البرازيل) وجاكـوب زوما (أفريقيا الجنوبية) وكريستينا فرنــانديـــز دي كيرشنـــر (الأرجنتين) وباك جون هاي (كوريا الجنوبية)، فـضـــلا عـــن الفرنسي فرانسوا فيـــون وكثير سواهم، نماذج على أن التـــذاكي والمــُراوغـــة لا يُجديان نفعا، وذلك بفضل قــــوّة القضـــاء. ومـــن هنا فإن السهر على نظافة المؤسسات الثـــــلاث القضاء والشرطة والإعلام، هو الكفيل بحمـــاية المجتمع من المُخادعين المُتحللين من القيــم. وكم نحن بحـاجة في تـونـــس إلى مـــؤسّسات الرقـــابة وأجهــــزة الإنــــذار المبكر، لقطع الطريق أمام من قـــوضوا منظومة الأخلاق السياسية والمجتمعيــة بتهـــريجهم وصفــاقتهم ومعـاركهم الدونكيشوتية على أرائك الفضائيات اللاهثة وراء الإشهار.

إن سيطرة هؤلاء المهرّجين على الإعلام سببٌ أساسيّ من أسباب نزولنا إلى الحضيض الذي أدركنا قاعهُ حتى صحَ فينا المثل الشائع «صُبعين وتلحق الطين». تصاعد منطق القاع المجتمعي ومفرداته ومرجعياته وأسلوبه إلى مستوى السطح الإعلامي، فحلّ منطق جديد ودخلت مفردات كانت مخفية وراء الستار، بل ومُحرّمة، فيما اجتاحنا أسلوب العراك وحفلات الشتائم التي صارت تخدش آذاننا وتقتحمُ بيوتنا بلا إذن. هكذا تحوّلت الساحة السياسية (واستطرادا الإعلامية) إلى ميركاتو بحسب الوصف الرشيق الذي اختارته لنا مجلة «لوبوان» الفرنسية.

لذا يمكن تلخيص المشهد الراهن كالآتي: سياسيون واهمون ومُتسلّقون صغارٌ يتقاتلون على جلد الثّور قبل انتخابات المجالس البلدية. لكنهم يتناسون أن عراكهم السخيف يُنفِّرُ المواطن فيزدري المشاركة في أيّ اقتراع، بل ويكره السياسة ويحتقر المشتغلين بها. هذا الشعور قد يُؤدي إلى تفاقم ظاهرة الامتناع عن التصويت، التي بلغت في الانتخابات الأخيرة ثلث المُسجلين على القائمات الانتخابية، على الرغم من التعبئة الاستثنائية التي سبقتها، الأمر الذي يُهدّد مصداقية النتائج في نهاية المطاف.

أعمدة الجمهورية

السبيل الوحيد لتفادي هذا المنزلق هو التزام السياسيين بالشفافية وترك الألاعيب والتُّرّهات التي لم تعد تنطلي على أحد، والتجرُّدُ فعلا لا قولا لخدمة الصالح العام. وهذا (أي خدمة الصالح العام) عمود أساسي من أعمدة الجمهورية. أمـا العمود الثاني فهو الفصل بين السلطات وضمان حياد المؤسسة القضائية والعسكرية والأمنية. ويقتضي هذا الحيادُ الإبقاء على الجيش والشرطة في منـأى عـــن الصراعات السيـــاسيــة، وذلك بعــدم التصويــت في العمليات الانتخابية، لأن هاتين المؤسستين هما الضامنتان (مع القضاء) لسلامة الانتخـابات ونـــزاهتها وشفـــافيتها. وعسـى أن يكـون تصـويت مجلس نــواب الشعب على السماح لأفراد الأمن والشرطة بالاقتراع في الانتخابات البلديـــة المقبلة، المرة الأولى والأخيـــرة كي لا تعرف بلادنا المُنزلقات التي مازال غيرُنا يُعــاني من ويلاتها إلى اليوم، بسبب اختراق السياسة للجسمين الأمني والعسكري.

وقبل هذا وذاك تحتاج تونس إلى نخبة جديدة غير مُلّوَثة تضـــع فيها ثقتها وتطمئنّ إلى صـدقها وعزيمتهـا، فمثل تلك النخبة هي التي ستجعل من السياسة رسالة بدل اتخاذها مهنة للارتزاق والإثراء..

رشيد خشانة

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.