سليم خلبوس: الجامعة كما نراها،،، البحث العلمي في خدمة التنمية (فيديو)
تنــسيـــق ثـــــلاثي
المنظومة التّربويّة، منظومة مترابطة الحلقات والإصلاح الجامعي لن يكون مجديا وفعّالا إلّا إذا كان في تناغم تامّ مع الإصلاح التّربوي من الابتدائي إلى الثانوي. ما هي المقاربة التي اعتُمدت لتحقيق التّواصل بين مختلف مراحل التّعليم؟ وما هي أبرز القرارات المزمع اتّخاذها في هذا الصدد؟
التّنسيق بين الإصلاحات في المجال التربوي مهمّ جدّا. وهذا التّنسيق لا يخصّ فقط التربية والتعليم العالي، بل يهمّ كذلك منظومة التكوين المهني التي نريدها مصدر اقتراحات للتكوين في بلادنا. الوزارات الثلاث المعنية بهذه القطاعات تتعاون في ما بينها، وهذا التعاون لم يكن قائما بالشكل المطلوب في السابق. نعمل بصورة لصيقة مع وزارة التربية على البحث في جملة من الإشكالات، وفي مقدّمتها إشكال له علاقة بمستوى شهائد التعليم العالي ونعني عدم إتقان الطالب للّغات، بما فيها العربية والفرنسية. وفي أغلب الأحيان، عندما يتحدّث الناس عن تدنّي المستوى يقصدون أساسا المستوى اللغوي وليس المستوى التقني.من المفروض أن يكون حامل الباكالوريا عند دخوله الجامعة متمكّنا من اللغات حتّى يقدر على تلقّي المعارف والعلوم ويتوقّف نجاح إصلاح التعليم العالي بدرجة كبيرة على مدى حذق الطالب للّغات.
والإشكال الآخر الذي نعمل معا على معالجته هو منظومة التوجيه الجامعي التي ظلّت معتمدة منذ الاستقلال إلى الآن. هي في ظاهرها عادلة باستنادها إلى معطيات مرقّمة يتصرّف فيها الحاسوب، لكنّها غير جيّدة لأنّها لا تأخذ في الاعتبار المواهب الحقيقية للتلميذ عند التوجيه. لذلك اقترحنا على وزارة التربية التي وجدنا لديها كلّ التجاوب التخفيض في عدد شعب الباكالوريا والاقتصار على أربع أساسية منها وهي: الرياضيات والعلوم والآداب والتكنولوجيا مع الإبقاء على المواد الاختيارية في السنوات الثلاث الأخيرة من التعليم الثانوي. ولتحسين مستوى التلميذ وتمكينه من قواعد تكوين متينة اقترحنا أنّ يتضمّن برنامج التعليم في حدود 60 بالمائة موادّ أساسية، في كلّ شعبة من شعب الباكالوريا، على أن يختار التلميذ جملة من المواد تتناسب ومواهبه والتي ستؤخذ نتائجه فيها بعين الاعتبار في عمليّة التوجيه، ممّا ينمّي حظوظه في الالتحاق بإحدى شعب التعليم العالي التي يرغب فيها. ومن المواضيع التي دُرست مع وزارة التربية إحداث إجازة في علوم التربية لتكوين معلّمي الابتدائي وأساتذة الثانوي عسانا نتدارك النقص في تكوين المكوّنين بعد الخطأ الذي ارتكب في السابق والمتمثّل في غلق مدارس ترشيح المعلمين. أقررت أنا وزميلي وزير التربية هذه التوجّهات والخيارات وتعكف لجنة وطنية قارّة مشكّلة من مديرين عامين من الوزارتين على درس كلّ الجزئيات المتعلّقة بها. ولو ننجح في تجسيم هذه التوجّهات والخيارات نكون قد حقّقنا إنجازا ثوريّا.
الجـودة والتكـامـل بـيـــن القــطاعيـن العــام والخاصّ
أمام تدنّي مستوى التّعليم العمومي أصبح العديد من التونسيين يلجؤون إلى القطاع الخاصّ لتعليم أبنائهم...فكيف يمكن للجامعة العمومية أن تتدارك الوضع وتستعيد دورها كمصعد اجتماعي؟
لا بدّ من تصحيح التشخيص. لئن نما القطاع الخاصّ في السنوات الأخيرة فإنّ عدد الطلبة الذين يؤمّون مؤسساته يبلغ 30 ألف طالب من بين 300 ألف طالب، أي 10 بالمائة من العدد الجملي. وليس مردّ التوجّه إلى القطاع الخاص تدنّي مستوى القطاع العمومي فقط بل كذلك الإشكال المتمثّل في التوجيه والذي يدفع من له قدرة ماليّة إلى تسجيل ابنه أو ابنته في شعبة لم تتحها عملية التوجيه. القطاع الخاصّ لا يمكن أن يتطوّر في تقديرنا إذا ظلّ ينسج على منوال القطاع العمومي ويعمل حسب مواصفاته. ومن البديهي أنّ الإقبال على الجامعة الخاصّة سيقلّ كثيرا إذا ما تحسّنت جودة التعليم العمومي .هناك اليوم توجّه عالمي يقرّ بضرورة وجود القطاع الخاصّ وتونس ليست بمعزل عنه، لذلك أكّدنا أهميّة إرساء استراتيجية وطنية للتعليم العالي - بشقيه العام والخاصّ - تعتمد على مقومين أساسيين، وهما الجودة وفق مواصفات دولية والتكامل بين القطاعين العام والخاصّ. وعلى القطاع الخاصّ أن يقدّم الإضافة التي لا يقدر على تقديمها القطاع العام كتوفير التعليم في اختصاصات دقيقة أومنح فرص الانفتاح على البعد الدولي.
دور حضاري ودور تنموي
في كلمات، كيف تتصوّرون ملامح الجامعة التونسية في المستقبل القريب؟
يجب أن تستعيد الجامعة التونسية دورين أساسيين: أوّلهما حضاري، فعليها ألّا تكتفي بمنح شهادات بل ينبغي أن تكوّن أجيالا ومواطنين صالحين. ما حصل في السنوات الأخيرة هو أنّ الجامعة انغلقت على نفسها وتحوّلت إلى مركز تكوين فنّي.
الجامعة ليست هكذا ...لا بدّ أن نعيد إلى مناهجها المواد التي تحفّز على التفكير وتفتّح الذهن، كما يجب أن نعمل على أن يعود الحراك الجمعياتي إليها. وبهذه الطريقة يمكن أن تسترجع الجامعة وظيفتها كمصعد اجتماعي.
أمّا الدور الثاني للجامعة فهو تنموي، إذ أنّ الجامعة لم تُجعل فقط للتكوين البشري والأكاديمي ولكنّها مطالبة كذلك بالإسهام الفعّال في تنمية البلاد ثقافيا واجتماعيا واقتصاديا. والتنمية الاقتصادية لن تتحقّق إلا إذا كان التكوين الجامعي متلائما مع متطلّبات سوق الشغل. لنا عاطلون عن العمل من حاملي شهادة الدكتوراه، في حين أنّ عديد المؤسسات الاقتصادية والصناعية لا تجد بالقدر الكافي تقنيين وحرفيين في اختصاصات مختلفة مستواهم السنة الثانية أو السنة الثالثة بعد الباكالوريا. وتلك مفارقة ناتجة عن خيارات لم تكن صائبة. فمراجعة مناهج التدريس وخطّة التقارب بين الجامعة والمحيط الاقتصادي والثقافي والاجتماعي هما اللتان ستعيدان الجامعة إلى قلب التطوّر وتجعلان منها مصدر ابتكار وتجديد تستفيد منهما المؤسسة الاقتصادية لتطوير نشاطها وضمان انتشارها دوليّا. فمن الضروري أن تندمج الجامعة في المحيط الاقتصادي وأن يحصل التّفاعل والتّواصل بينها وبين المشغّلين، وعلى هؤلاء أن يبدوا رأيهم في مستوى الشهائد وبرامج التكوين.
ملاءمة البحث العلمي مع الأولويات الوطنية
ما هي خطّة الوزارة لتطوير البحث العلمي والتجديد؟
لا بدّ في نظرنا أن يكون قطاع البحث العلمي والتجديد في علاقة وثيقة ومباشرة بكلّ المشاكل التي تجابهها البلاد لأنّه يساهم في إيجاد الحلول لها. بعد الثورة اكتشفنا ظواهر في مجتمعنا لم نكن ندركها في السابق. والأقدر على تفسيرها وتوفير الأجوبة بشأنها هم علماء النفس وعلماء الاجتماع والمختصّون في الإنسانيات عموما. في السابق لم نعر الاهتمام اللازم للبحث العلمي في هذا المجال. كما نحن في حاجة اليوم إلى بحوث تساعد الفاعلين الاقتصاديين على اقتحام الأسواق الإفريقيّة وغيرها. ضربت هذين المثالين لأبيّن أنّ البحوث الحقيقية والمجدية هي التي تعطي حلولا عمليّة تمكّن البلاد من التطوّر. ونحن نتوجّه نحو هذا النوع من البحوث. وضع الباحثين اليوم في تونس ليس جيّدا، نتيجة ظروف عمل صعبة للغاية وعراقيل عديدة. نفكّر الآن في طرق تحفيزهم وإدماجهم في الوقت ذاته في المحيط الاقتصادي، علاوة على معالجة إشكالات الحوكمة في مجال البحث العلمي. نحن نعرف كيف نجلب الاعتمادات ولكن لا نقدر على التصرّف فيها. نبحث الآن عن موارد ماليّة جديدة في حين أنّ اعتمادات تبلغ خمسين مليون دينار هي تحت تصرّف مخابر بحث لم تستطع استعمالها.
علاوة على ذلك، فإنّ الاعتمادات التي تمنحها الدولة في هذا المجال ليست مرتبطة بالأولويات الوطنية، لذلك نعمل على حصر هذه الأولويات -كمسائل المياه والطاقات المتجدّدة- وترتيبها في وثيقة رسمية على أساسها ستوزّع الاعتمادات مستقبلا، إضافة إلى مقياس أخر يتمثّل في الإنتاج العلمي. ومن جهة أخرى، نسعى إلى تعبئة موارد ذاتية للبحث العلمي، نظرا إلى أنّ الاعتمادات الحالية لا تفي بالحاجة، وذلك باستقطاب اعتمادات على الصعيد الدولي، من بينها تلك التي توفّرها برامج أوروبية مهمّة للبحث العلمي، على غرار برنامج «بريما». وللحصول على هذه الموارد، يتعيّن تقديم برامج والدّفاع عنها. لذلك نحن بصدد تكوين المكوّنين حتّى يتمكّنوا من حذق أساليب تقديم البرامج الذي يتمّ في إطار مناظرات.
وعلى صعيد آخر، علينا أن نجلب اهتمام المؤسسات الاقتصادية لنشاط المخابر ومراكز البحث العلمي في بلادنا. فهناك بحوث قيّمة تبقى على الرّفوف ولا يعلم بها أصحاب المؤسّسات، ممّا يدفعهم إلى التوجّه إلى الخارج وإنفاق الأموال للحصول على ما يبتغونه من بحوث، في حين أنّ ما يطلبونه متوفّر في تونس. لذلك بات من الضروري العمل على مدّ جسور التواصل بين المؤسسات الاقتصادية والمنظومة البحثيّة.
حاوره عبد الحفيظ الهرقام
قراءة المزيد
سليـم خلــبـوس: ما ننوي تغييره في منظومة التعليم العالي (فيديو)
- اكتب تعليق
- تعليق