عبد اللطيف الفراتي: بورقيبة وبن يوسف
منذ مدة ليست بالقصيرة وأنا أمني النفس بالكتابة حول الخلاف اليوسفي البورقيبي، وكنت أفضل التناول في راحة من العقل بعيدا عن أي تشنج أو تصفية حسابات على أساس من أن كلا الرجلين الزعيمين طواهما الزمن ولم يبق من ذكرهما إلا أحداث تاريخية هناك اختلاف كبير في تقييمها.
غير أن التطورات الآنية فرضت على الجميع استعادة الماضي بكل جراحه ، وفرضت السيدة سهام بن سدرين من موقعها كرئيسة هيئة الحقيقة والكرامة ، نكأ جراح قديمة باستقدام أشخاص من أعماق الماضي للإدلاء بشهادات تشتم منها رائحة الاعداد المسبق، في سيناريو محبوك تنقصه التلقائية ويبدو من جوانبه الاخراج المسرحي، يدين بورقيبة علما وأن موقف المرأة من الرجل يتسم بالعدائية، وقد تصدى الكثيرون لهذا الأمر وبرز بالذات رجلان لا يرقى الشك إلى موضوعيتهما، ومعرفتهما بأعماق التاريخ القريب، إضافة إلى اختصاصهما : هما رجاء فرحات الذي مات والده في سجون بورقيبة، وخالد عبيد ابن المهدية الذي سبق أن كشف في محاضرة في عقر داره ، أي في مدينته أن الطاهر صفر الزعيم الخالد والذي اختلف هو الآخر مع بورقيبة، لم يسر في جنازته ببلده سواء أنفار قليلين، وهو يرى أن التاريخ يبقى فوق التوظيف السياسي.
وبورقيبة وبن يوسف دخلا كل من باب عالم التاريخ.
***
ماذا يمكن للمرء أن يقول، وأنا من عايشت صغيرا كما عاش من جيلي ، من كان يلاحق أحداث وطنه في تلك السنوات الحبلى بالأحداث (1952/1956)، كان الكثيرون منا وقتها يعتقدون أن الخلاف البورقيبي / اليوسفي، هو مسرحية محبوكة لابتزاز فرنسا، ونيل الأقصى على درب التحرر وفرض الاستقلال، كانت حركة المقاومة المسلحة قد تراجعت تحت ضربات عشرات آلاف الجنود الفرنسيين والسينغاليين (الوافدين في صفوف الجيش الفرنسي من إفريقيا السوداء).
كان رأي سائد أن بورقيبة وبن يوسف متعاضدان ، متفقان وأن كل ما في المسألة هو توزيع أدوار، ولكن سقوط القتلى الأوائل من هذا الجانب وذاك، فند وقتها هذا الرأي، وكان من أشق ما حاق بالنفس، أن يختلف "المجاهد الأكبر" أو "الرئيس الجليل" الحبيب بورقيبة ، مع عضده المقرب "الزعيم الكبير" صالح بن يوسف، فقد كان كلاهما من كبار الوطنيين الذين واجهوا الاستعمار، وإذا كان بورقيبة قد عرف شظف حياة المنافي منذ 1934، فإن صالح بن يوسف قد شاطره تلك المحنة في في برج لوبوف سنة 1935، كذلك في أعقاب أحداث 9 أفريل 1938 التي انتهت بهما للسجن ثم للمنفى في حصن سان نيكولا القاسي رفقة مجموعة من الوطنيين من بينهم الهادي نويرة والهادي شاكر وغيرهما، وكان بارزا منذ ذلك الحين أن صالح بن يوسف بذكائه المفرط الذي لا يقل عن ذكاء بورقيبة قد اختط لنفسه طريقا موازيا " للمجاهد الأكبر" كـ" الزعيم الكبير"، فيما تبرز شهادات كثيرة أوردها الطاهر بلخوجة في مذكراته، أن بورقيبة اختار منذ ذلك الوقت في بداية الأربعينات الهادي نويرة ابن بلده المنستير، والمتمتع بهدوء وراءه عزم حديدي، على أن يكون مساعده الأول وخليفته، هاجر بورقيبة للشرق. وكان في توديعه في محطة القطار إلى صفاقس صالح بن يوسف، وكانا متنكرين.
***
في هذه الأجواء من التنكر للمبادئ المعلنة, أخذت الحركة الوطنية في إعادة ترتيب أوراقها, وبلورة أهدافها, إزاء وضع سياسي داخلي متدهور وفي ضوء تداعيات المحنة الأولى لسنة 1934, والمواجهة الثانية لسنة 1938, وتبين للحبيب بورقيبة,أن لا خير يرجى من السلطات الفرنسية, وأن كل محاولة للحوار المباشر في ضوء موازين القوى القائمة مآله الفشل.
ولأجل ذلك قرر, أن ينطلق الجهادـ هذه المرة من الخارج , وذلك بغرض فك أسر الطوق الذي ضربه الإستعمار حول تونس, والتعريف بالقضية التونسية, وكسب التأييد والدعم لها.
ولكن كيف يتمكن من السفر وقد ضربت عليه السلطات الإستعمارية مراقبة متشددة وحصارا قويا على كل حركاته وسكناته؟
واتخذ قراره بمغادرة تونس خلسة في اتجاه مصر, وذلك بعد أيام معدودة من نشأة الجامعة العربية , على أساس أن تلك الجامعة ستشد إزر الشعوب العربية المكافحة وتساعدها على التحرر والإنعتاق.
وقد تداول القياديون الدستوريون الأمر على نطاق ضيق جدا لكي لا يتسرب شيء منه إلى خارج الحلقة الضيقة, وأبدى الهادي شاكر اعتراضا مبدئيا على مشروع الحبيب بورقيبة , على أساس أن خوض غمار البحر في قارب صغير ليس عملا مأمون العواقب, كما أن اجتياز الصحراء بين ليبيا ومصر ليس أمرا هينا ولا سهلا, وثالثا لأن دخول مصر بدون جواز سفر يشكل مغامرة لا يعرف أحد عواقبها".
ومن شهادات عديدة فإن الهادي شاكر طرح سؤالا:" في حالة إذا ما حصل مكروه أو ما لا تحمد عقباه فمن سيكون مسؤولا؟".
وتابع الهادي شاكر كلامه :"إن مكان الحبيب بورقيبة الطبيعي في تونس وليس في القاهرة".
ثم في لهجة التساؤل: " في غياب الحبيب بورقيبة من سيجوب البلاد التونسية طولا وعرضا, ومن سيحرك السواكن , ومن سيوقظ الضمائر , ومن سيواصل تحدي السلطات الإستعمارية ؟
.بينما ." والكلام دائما للهادي شاكر:" الحزب يزخر بالشخصيات التي تجمع بين الثقافة والنضال , والقادرة على القيام بأعباء هذه المهمة على أحسن وجه".
غير أن إصرار بورقيبة كان أكبر من كل التحفظات .. ومن طبعه أنه إذا عزم على أمر كان يرى فيه فائدة لتونس فإنه لا يتأخر عن تنفيذه معتزا برأيه دون غيره.
وكلف "الحبيب عاشور" أصيل جزيرة "قرقنة" بالإعداد المادي لهذه الرحلة, واختيار مركب و"رايس" من أهل الثقة والكفاءة ممن يمكن الاطمئنان إليه ليتولى السفر ببورقيبة من "صفاقس" إلى شواطئ "ليبيا" عبر جزيرة " قرقنة".(1)
***
أودع بورقيبة الحزب في يد النجم الصاعد صالح بن يوسف الذي ارتقى إلى الموقع الثاني أمينا عاما أو كاتبا عاما، أخذ بورقيبة من الخارج ينظم دعوة نشيطة لضمان حق تونس في الاستقلال، وأخذ بن يوسف بيده تسيير حزب ، كان قد تحلل بعد الحرب العالمية الثانية، أخذ أمر الحزب الحر الدستوري من الداخل ، وارتأى بنظرة الرجل العملي ثاقب النظر، أن الحزب لا بد أن يكون له مداخل في المجتمع عبر التنظيمات الاجتماعية التي تؤطر مختلف الفئات، من صفاقس دفع لنشوء النقابات المستقلة على يد فرحات حشاد، التي تحولت للعاصمة وتم انطلاقا منها إنشاء الاتحاد العام التونسي للشغل، ثم اتحاد الصناعة والتجارة على يدي محمد شمام ومحمد بن عبد القادر والفرجاني بالحاج عمار، واتحاد الفلاحين على يدي إبراهيم عبدالله والحبيب المولهي ومحسن الفراتي.
وفيما كان صالح بن يوسف يحكم قبضته على حزب الدستور الجديد وكواكبه المتمثلة في المنظمات النقابية الجماهيرية، كان بورقيبة يسعى لتأليب العوالم الخارجية لفائدة استقلال تونس، وكانت معاضدته تقوى شيئا فشيئا وبعكس ما كان يقول، فإن عدة دول عربية وغير عربية مستقلة، وقفت لجانب القضية التونسية وساندتها، ومنها مصر والعراق وباكستان خاصة، وكان كل من مصطفى النحاس باشا و محمد صلاح الدين وزير خارجية مصر والدكتور فاضل الجمالي وزير خارجية العراق وظفر الله خان وزير خارجية باكستان وعبد الرحمان عزام باشا أمين عام الجامعة العربية دون مدد من السلاح الذي لم يكن مطلوبا في تلك المرحلة كانوا يقفون إلى جانب القضية التونسية ويدفعونها تحت الضوء في المحافل الدولية.
أشعر أنصار بورقيبة " المجاهد الاكبر " بالخطر الذي يتهدد مكانته وموقعه في تونس ، وأن هناك من أخذ يسيطر على الساحة متمثلا في صالح بن يوسف ،وربما المنجي سليم والهادي شاكر وغيرهم ، وتأكدت مخاوفه بعد انعقاد مؤتمر دار سليم الذي كف يده (أي بورقيبة) عن تصريف الشؤون المالية في المهجر، وأحالها إلى الحبيب ثامر وهو قريب من أقرباء المنجي سليم، بعد أن ضج الهادي شاكر من كثرة نفقات بورقيبة من أموال كان يأخذها باسم الحزب في القاهرة والاسكندرية على حسابه من أقرباء شاكر، وتحمل على حساب الأخير، ورغم المظاهر فإنه أي بورقيبة سيصب جام غضبه على المنجي سليم الذي كان منزل والديه موقعا لعقد المؤتمر والهادي شاكر الذي كان الداعية لسحب حق الانفاق من بورقيبة، وهو مؤتمر وصفه بورقيبة بمؤتمر الغدر والخيانة، قرر بورقيبة استعجال العودة للمسك بمقاليد الأمور من جديد في "حزبه " قبل أن تفلت منه.
من هنا يمكن القول أن السباق لزعامة الحزب الحر الدستوري ، ليس وليد أحداث 1954/1955، بل لعلها تعود إلى فترة تشجيع بن يوسف لبورقيبة للسفر للخارج و للدعوة للقضية التونسية، منذ مرافقته لركوب القطار نحو صفاقس التي انطلق منها نحو المشرق على قارب صغير بتخطيط من الحبيب عاشور.
هل تكون نية صالح بن يوسف الجلوس في مقعد بورقيبة منذ ذلك الحين؟ هل تفطن بورقيبة لطموح بن يوسف في وقت مبكر.؟
***
عاد بورقيبة إلى تونس على عجل، رغم ما تقوله الرواية الرسمية من أن بن يوسف نصح بورقيبة بالتريث ، هنا يطرح سؤال: لماذا لم تقبض السلطات الاستعمارية على بورقيبة وكان غادر البلاد خلسة ، وليس عن طريق المنافذ الرسمية؟ هناك من يقول إن هذه العودة مرتبة من سفارة فرنسا بالقاهرة.
شرع بورقيبة في القيام باجتماعات عامة في مختلف مدن وقرى البلاد، لاسترجاع مواقعه الأصلية وافتك زمام المبادرة، وبدا له أنه ما زال يتمتع بالشعبية الكبيرة التي دأبت الجماهير على خصها به، فانعقدت اجتماعات كبيرة في تونس العاصمة وسوسة والمنستير وصفاقس، وفي هذه المدينة، كان لنا المرحوم مصطفى المصمودي كاتب الدولة الأسبق للإعلام و شقيقي المرحوم الصحفي ومدير إذاعة صفاقس محمد الفراتي وأنا، وعلى صغر سننا أن نلاحق الركب، حتى جمعية الثقافة والتعاون المدرسي التي كان يرتادها الكبار والصغار لاستعارة الكتب، أو المشاركة في أنشطتها الثقافية من مسرح وموسيقى ورياضة حيث كان في استقبال " المجاهد الأكبر رئيس الهيئة الماتر ( كما كان يقال آنذاك) امحمد مقني الذي سيكون عضو في المجلس التأسيسي بعد الاستقلال.
***
في تلك الفترة وعلى قدراته الخطابية الكبيرة، وقدراته على الاستقطاب وشد الانتباه، لم يكن صالح بن يوسف وفقا لما أذكر، كثير الانتقال، ولعله بسبب نشأته في الأوساط البورجوازية التي ينحدر منها، كان يأنف من الاختلاط بالأوساط الشعبية، وستظهر قدراته الخطابية الكبيرة بعد استفحال الخلاف مع بورقيبة، وخاصة ذلك الخطاب الحماسي الذي ألقاه على المدرج الخارجي لجامع الزيتونة في خريف سنة 1955، والذي شكل في حينه قطعة رائعة، لعل أحدا احتفظ بتسجيل منها، وإن كان نشر بالكامل في جريدة الصباح، ربما عن طريق الصحفي القدير الصادق بسباس أطال الله عمره.
***
لما تشكلت حكومة محمد شنيق (كبير وزراء محمد المنصف باي ثم بعد سبع سنوات مع محمد الأمين باي) التفاوضية ضمنت صالح بن يوسف في صفوفها كوزير للعدل ، وكان المعروض على تونس ما هو أقل بكثير مما تحقق لاحقا بعد خطاب منديس فرانس في 31 جويلية قبل أن تفشل مفاوضات الفرصة الأخير وتأتي مذكرة وزارة الخارجية الفرنسية في 15 ديسمبر 1951 التي أغلقت الأبواب أمام حل الاستقلال، ما دفع بورقيبة للتصريح: إنهم يريدون المواجهة نحن لها".
افترقت الطرق مجددا بين بورقيبة، فقد ذهب رئيس الحزب للمنفى في طبرقة وما تلاها بعد اندلاع ثورة 18 جانفي 1952، فيما كان طريق صالح بن يوسف مختلفا حيث بمناسبة انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة في قصر شايو في باريس وكان موفدا من حكومة الباي محمد الأمين للدفاع عن القضية التونسية، فالتجأ إلى بلجيكا ومنها للقاهرة.
ابتعد الرجلان عن تونس ولكن بورقيبة كان أنشط مع الداخل، فيما اختص بن يوسف بالعمل الخارجي من القاهرة.
لا يبدو أن الخلاف القديم على الموقع الأول قد طفا على السطح في تلك الفترة التي استمرت سنتين، ولكن الأعماق كانت متشبثة بالمواقع .
قال بورقيبة صراحة بعد عودة بن يوسف من القاهرة في 13 سبتمبر 1955 ما معناه هناك موقع أول من الطبيعي أن يكون لي، وأنت ستكون في الموقع الثاني، وقال بن يوسف قبل عودته تلك لأحد المبعوثين الكثيرين الذين استحثوا عودته لأحضان البلاد، لا مكان لاثنين على كرسي واحد، وكان يقصد أنه هو أحد الاثنين وأن الكرسي له هو دون غيره.
"وكان لذلك معنى خاص آخر حيث ظهر أن الحبيب بورقيبة وإن لم يكن معروضا عليه لا منصب رئيس الوزراء ولا منصب الوزارة فإنه سيكون المفاوض الرئيسي من وراء ستار, وسيكون المخاطب الكفء الأوحد أمام السلطات الفرنسية, وهو ما أثار حفيظة البعض وخاصة صالح بن يوسف الذي كان يطمح للزعامة التي إن لم تكن منفردة فعلى الأقل بمعية الرجل الأول الذي اختارت فرنسا أن تتفاوض معه استعدادا لأن تسلم له مقاليد البلاد والسلطة فيها.
في كل ذلك لم تكن فرنسا وقد اختارت الرجل الذي تعتمد عليه قد جانبت المنطق على اعتبار أن بورقيبة هو رئيس الحزب الذي قاد الحركة التحريرية.
ولكن ومن وجهة نظر بن يوسف والذين سيؤيدونه لاحقا فإن الزعيم الحقيقي في السنوات الطويلة التي قضاها بورقيبة في المنافي لا صلة له لا بالكفاح ولا بالمكافحين، كان بن يوسف من القاهرة ومن أوروبا يقود الحركة التحريرية, ولذلك فإنه كان يعتقد بأنه يتمتع بشرعية أقوى وأكبر من تلك التي حازها بورقيبة بفعل رئاسته لحزب الدستور الجديد.
غير أن لا هذا الإتجاه ولا ذاك بريء , فاختيار التعامل مع بورقيبة جاء من قناعة لدى القادة والمسؤولين الفرنسيين بأن رئيس الحزب الدستوري زيادة على صفته تلك هو أقرب فكريا لفرنسا والفكر الفرنسي من بن يوسف الذي وإن نال دراسته الجامعية في باريس فإنه بحكم عدة عناصر أكثر شعبية من جهة وأقرب إلى الفكر المشرقي بحكم إقامته الحديثة في مصر بعد ثورة عبد الناصر ر وما دفعت به إلى قلوب العرب من آمال في التحرر.
ويعتقد مراقبون آخرون عايشوا تلك الحقبة أن جانبا من الجهات الفرنسية كانت على قناعة بأن بن يوسف أكثر قابلية للتفاهم من بورقيبة وأكثر اعتدالا تشهد على ذلك فترة مروره من الحكم في وزارة محمد شنيق وما أبداه من اعتدال قطع مع تشدد بورقيبة في تلك الفترة" (1)
***
من هنا يبدو واضحا أن الخلاف البورقيبي اليوسفي من وجهة نظرنا يبقى خلافا تقليديا على السلطة، فلا مكان لأكثر من واحد على كرسي واحد، ولذلك اتسم الخلاف بحدة وصلت حد الدموية، وبقدر ما حاول صالح بن يوسف اغتيال بورقيبة ولم ينجح، بقدر ما حاول بورقيبة قتل بن يوسف ونجح في ذلك، معتقدا أنه بذلك يتقي شره للأبد، ولكن ها هو شبح بن يوسف يلاحقه حتى بعد 17 سنة من وفاته ، ولكن دون أن يقلل من شأن بورقيبة.
وقد علمتنا التجارب، أن من ينتصر هو الذي يفرض لونه، وبورقيبة انتصر في خلافه مع بن يوسف وتربع على عرش السلطة في تونس، وبالتالي لم يكتف بالحكم فقط، بل صنع وصاغ التاريخ كما فعل الكبار دوما، وهو ما لا يمكن أن يعيد كتابته أحد أو يقلل من أثره، ( ربما في التفاصيل أما الجوهر فلا) ، حكم البلاد وأدخل عليها إصلاحات، وبدا أنه حقق الاستقلال وأسس الدولة، ونشر التعليم على أوسع نطاق، وأنجز صحة للتونسيين (مؤمل الحياة 76 عاما مقابل 46 أو 47 سنة عاما عند الاستقلال) و فوق هذا فرض نمطا مجتمعيا ينعم به اليوم حتى الذين ينكرون عليه كل شيء، والسيدة سهام بن سدرين نفسها تعيش في بلد لا يستطيع لها زوجا أن يطلقها فيه بجرة قلم أو يتخذ عليها زوجة أخرى، بعكس حال المرأة في غالب البلدان العربية والإسلامية ولا ينافسها في إرث أبويها عاصب.
ومن السفسطة القول: من يدري إن كان صالح بن يوسف يمكنه أن يحقق ذلك، ولعل تحالفاته، مع الشاذلي باي ومع المشائخ الزيتونيين الأكثر تعصبا رغم ثقافته المدرسية الجامعية الفرنسية المستنيرة كانت تضعه رهينة بين أيديهم، ما كانت تمكنه من ذلك المسار.
ذلك تاريخنا كتبه بورقيبة بنا ومعنا، لا يستطيع أحد له تبديلا، بحلوه ومره، وبنواحيه الناصعة والأخرى القاتمة، ولعله لم تعد من فائدة لمحاولة إحياء بن يوسف، فقد لعب لعبة سياسية خسرها، والتاريخ في النهاية لا يعترف إلا بالمنتصرين.
***
إذا كان لصالح بن يوسف سقطات ومنها إرساله من يحاولون اغتيال بورقيبة، والرسائل التي بخط يده، وفيها تحريض على من كان يسميه، ومن بادر هو نفسه لتسميته بالمجاهد الأكبر، فهو لم يمارس قط الحكم إلا إذا اعتبرنا مروره من وزارة العدل 1950/1951/1952، وكان حضوره باهتا، فإن سقطة بورقيبة كانت أكبر ، عندما أوحى إن لم يكن وراء اغتيال رفيقه في فرانكفورت في سبتمبر 1961، ثم خاصة لما أشاد بالذين اغتالوه بالوكالة بصورة علنية وفي محاضرة مشهودة، وكأن ذلك لم يكن كافيا فقد وشح صدورهم بنياشين ما كان لهم أن يحملوها لأنها ترمز لشرف البلاد، ولا يبرر شيئا أن رؤساء آخرين قد أقدموا على القتل، فالرئيس ديغول دفع برئيس حكومة سابق ـ صحيح في رئاسة الماريشال بيتان ـ هو لافال إلى المقصلة بعد محاكمة لم تتوفر فيها شروط المحاكمة العادلة، فيما إن الإعدام في الجرائم السياسية منبوذ ومكروه، أما ميتران، فكان في سنة 1956 وهو وزير للداخلية في حكومة غي موللي قد ترك الحبل على الغارب (وبمعرفة منه إن لم يكن أكثر من المعرفة) لجنرالات الجزائر بقتل العربي المهيدي بطل المقاومة في القصبة بدم بارد، هذا لا يبرر ذاك، ولكن لعل رجال السياسة وخاصة الحكام منهم يتجردون من إنسانيتهم في سبيل تحقيق مآربهم في الحكم، أو الوصول إليه أوالبقاء فيه.
(1) من كتاب عبد المجيد شاكر" الهادي شاكر .. جهاد واستشهاد"
عبد اللطيف الفراتي
- اكتب تعليق
- تعليق