2000 سجين تونسي في ايطاليا: من يهتمّ بهم؟
يقبع سمير، وهو شاب تونسي يبلغ من العمر 27 سنة، في إحدى زوايا زنزانة أُغْلِقَ بابها بإحكام في ليلة شتاء قارس، استَبَدَّ به الندم وصار في ضيق لا يُطاق وتُرِك لحاله ولا من رحيم. حُكم عليه بالسجن لمدة طويلة بتهمة السرقة وترويج المخدرات. متى ستنتهي مدة العقوبة؟ متى سيغادر السجن؟ لا يدري. لا أحد يأبه بحاله. تقيم أسرته في تونس، وقد عجزت عن الحصول على تأشيرة وتسديد تكاليف السفر لزيارة ابنها. هَجَرَتْهُ رفيقته. ولا يعرف عنوان القنصلية التونسية. ولم يبق له من اختيار؛ فإما اللجوء إلى الكنيسة حيث كان يحصل على بعض المساعدات، ٲو الإرتماء في أحضان "الإخوان" الذين كانوا يريدون "خلاصه" من خلال تجنيده.
لا يختلف حال سمير عن حال غيره من التونسيين الذين يقبعون في السجون الإيطالية والبالغ عددهم ٲكثر من 2016 نفرا، من بينهم 13 إمرأة. ولا يقلّ عدد المساجين التونسيين في فرنسا عن الألف حسب بعض الإحصائيات الرسمية، وذلك دون اعتبار ذوي الجنسية المزدوجة الذين تصنفهم السلطات الفرنسية في عِداد المواطنين الفرنسيين. قد يفاجأ المرء حينما يعلم أنّ هنالك تونسيين رهْنَ السجون في بلدان نائية على غِرار البرازيل واليابان وأستراليا. لقد أُطْلِقَتْ مؤخرا عملية إحصاء على هذا المستوى من طرف المصالح القنصلية التابعة لوزارة الشؤون الخارجية. أمّا إحصاء الحالات التي تخضع لـ"متابعَةٍ "من شبكة الملحقين الاجتماعيين الموفدين إلى الخارج من قبل ديوان التونسيين بالخارج، وهو مؤسّسة راجعة بالنظر إلى وزارة الشؤون الاجتماعية، فهو إحصاء منقوص. (طالع آخر الإحصائيات الرسمية التي تحصلت عليها مجلة ليدرز).
بين المساعدة القانونية والمساندة الاجتماعية، من يقوم بماذا؟ وبأيّ وسائل مادية وبشرية؟ ما هو الدليل المعتمد في الإجراءات؟ وماذا عن نظام تبليغ المعلومات والمعطيات بشكل دوري؟ في خضم هذا العالم المؤسساتي والإداري المتشابك وشديد التعقيد، يجد سمير وأمثاله انفسهم في حيرة من أمرهم، يشعرون بأنّهم منسيّون تماما، ممّا يُولّد في انفسهم، وبمرور الوقت، استياء عميقا ويمتلكهم إحساس بأنّ لا أحد يعبأ بهم وبحالهم.
لأوّل مرّة: ٲبواب السجن تُفتح لليدرز
تلقّى معز السيناوي الذي عُيِّن سفيرا للجمهورية التونسية بروما تعليمات صارمةً من رئيس الدولة: عليه أن يضع الجالية التونسية في صدارة مشاغله إلى جانب العلاقات الثنائية، وٲن يصرف اهتماما خاصا إلى التونسيين الذين يواجهون أوضاعا صعبة. ولم يتخلَّفْ الرئيس الباجي قائد السبسي بمناسبة الزيارة الرسمية التي أدّاها إلى إيطاليا في بداية شهر فيفري الماضي عن الاستفسار عن حال هؤلاء. وبذلك أتيحت لمجلة ليدرز الفرصة لكي تطلب من السفارة التونسية التدخّل لدى السلطات الإيطالية حتى تسمح لنا بزيارة المعتقلين التونسيين في إيطاليا. تبدو المهمةٍ مستحيلةً تقريبا، خاصّة في ظلّ القيود الأمنية التي تمّ فرضها مؤخرا في هذا البلد. وكان لفريق ليدرز، بما فيه المصوّر الفوتوغرافي، ما أراد: فُتِحَتْ لنا أبواب أكبر سجن في إيطاليا، سجن ربيبيا (Ribibbia) الواقع شمال شرقي روما. وتمّ ذلك بفضل إصرار المجلة ومساندة السفير. (طالع " جولة في سجن ريبيبيا).
أن نلتقي عددا من المساجين وجها لوجه بكلّ حرية، لكن وِفْقَ كرّاس سلوك ينبغي التقيد بأحكامه؛ أن نصغي إليهم وهم يقُصّون علينا عذابهم وما يخالج في صدورهم؛ أن نتلقَّى شكواهم وتظلُّمَهُمْ، فذلك يهُزُّ المشاعر (طالع الحوارات). تُرَى! ما الذي أوصلهم إلى هذا الحال؟ وكيف سيخرجون من هذا الكابوس؟ من سيقيهم شرَّ العوْد وتكْرار الجرم حتى لا يقعوا فريسة لعصابات تصَيُّد الشباب الإرهابية؟
الآلة التي أنتجت أنيس العمري
مرّ ٲنيس العمري تقريبا بنفس الطريق الذي مرّ به عديد المساجين التونسيين بإيطاليا وانتهى مشواره بمقتله في مدينة ميلانو بعد الهجوم الإرهابي الذي نفّذه في سوق ٲيتم بمناسبة عيد ميلاد المسيح في قلب مدينة برلين يوم 15 ديسمبر 2016 متسببا في مقتل 12 شخصا وما نتج عن ذلك من تشويه لصورة تونس والتونسيين. التحق العمري سنة 2011 كغيره بإيطاليا بشكل سرِّيٍّ (هرب بعد تورّطه في قضية استهلاك مخدرات) ومرّ كغيره عبر جزيرة لامبيدوزا، واستقرّ في صقلية. سقط كغيره في دوّامة العنف والإجرام، وسُلطت عليه عقوبة بأربع سنوات سجنا. هام على وجهه كغيره، وأصبح فريسة سهلة للمولعين بتصيّد الشباب واستقطابه إلى شبكات الإرهاب الداعشية. والنتيجة كانت محتومة ومعلومة. ورغم الإحاطة التي تقدّمها السلطات التونسية إلى المعتقلين بالخارج، إلاّ ٲنه يكفي ٲن يغفل عن حالة واحدة حتى تتحوّل إلى قنبلة إرهابية حقيقية وأن تترتب عن ذلك أسوء العواقب التي يتحملها الجميع.
مِنْ هُمْ المعتقلون التونسيون؟
تكتسي الملامح العامّة للمعتقلين التونسيين في الخارج أكثر من معنى. هُمْ في الغالب شباب يتراوح أعمارهم بين 20 و35 سنة. ينحدرون من الأحياء الشعبية من تونس العاصمة، أو من مدن تونسية أخرى، ومن عائلات متواضعة الدخل، وغادروا المدرسة الابتدائية في وقت مبكّر. وصل بعضهم إلى أوروبا عن طريق الهجرة السريّة، وهذا ينطبق بالخصوص على إيطاليا. تحصّلوا على رخصة إقامة؛ بل أن بعضهم تحصّل على الجنسية الإيطالية. وينبغي في هذا الصدد أخذ التونسيين من الجيل الثاني، وحتى من الجيل الثالث، في فرنسا بعين الاعتبار. تتعلّق أغلب الأحكام القضائية الصادرة ضدّ التونسيين المهاجرين أساسا بترويج المخدّرات، بالإضافة إلى قضايا أخرى متعلقة بالعنف والسرقة وعمليات تحيّل. وتُسْتَثْنى من كلّ هذه الأحكام المخالفات المتعلقة بالدخول إلى أراضي هذا البلد أو ذاك بشكل غير شرعي.
يُرَوّج عن البلاد التونسية بأنّها تصدِّر الإرهابيين. والحال أنّ تونس قد اكتوتْ بنارهم ونزلت بها الويلات والمآسي جرّاءهم. ويخشى اليوم أن تصبح في نظر أصحاب هذا الادِّعاء بلدا مُصَدِّرا لا للإرهابيين فقط، بل لمروِّجي المخدرات أيضا. يذهبون في هذا الطرح إلى أكثر من ذلك. فبعض المسؤولين الرسميين لا يخفون امتعاضهم من الأعداد الكبيرة للتونسيين الذين تكتظّ بهم سجون بلدانهم والتي تشكو أصلا من نسب اكتظاظ مرتفعة، إضافة إلى ما يترتّب عن ذلك من زيادة في تكلفة إقامة المساجين وتفاقم المخاطر الأمنية بعد نهاية فترة العقوبة. ترى! من يهتمّ بهذه المسائل في تونس؟ وكيف السبيل إلى درء هذه المصيبة؟
إعادة النظر في الاستراتجية برمتها ووضع آلِيَّةٍ جديدة
ظل النشاط القنصلي منذ سنوات الاستقلال الأولى من صلاحيات وزارة الشؤون الخارجية. أمّا الإحاطة الاجتماعية فتعود بالنظر إلى وزارة الشؤون الاجتماعية عبْرَ ديوان التونسيين بالخارج. وقد ذهب بعض رؤساء الحكومة بعد الثورة إلى حَدِّ تعيين كاتب دولة لدى وزير الشؤون الاجتماعية مكلفا بالهجرة والتونسيين بالخارج، وذلك حرصا منهم على إعلاء شأن النشاط القنصلي والإحاطة الاجتماعية بالتونسيين في الخارج والتأكيد على الأهمية الخاصّة التي يكتسيها هذا الشٲن. كان حسين الجزيري (حركة النهضة) أوّل من تولّى هذه الحقيبة خلال حكم الترويكا في حكومتي حمادي الجبالي وعلي العريض (2011 - 2014)، وقام بعمل جيّد. ولما جاء المهدي جمعة، بادر إلى إلغاء كتابة الدولة هذه! أما خلفه الحبيب الصيد فقد عيّن بلقاسم صابري (مستقل، 2015 - 2016) في منصب كاتب دولة للهجرة والإدماج الاجتماعي، وذهب يوسف الشاهد في نفس الاتجاه، وحاول الإتيان بجديد من خلال إلحاق المنصب بوزارة الشؤون الاجتماعية، وبقي ديوان التونسيين بالخارج تابعا لوزارة الشؤون الخارجية. فلم يحصل أي تقدم على هذا المستوى بسبب هذه الازدواجية، اذ غاب التفاعل والتكامل بين مختلف الاطراف. ومن المتوقع، حسب ما علمت به ليدرز، إصدار أمْرٍ يقضي بضمّ القطاع إلى وزارة الشؤون الخارجية وذلك بطلب من رئاسة الحكومة ! ولكن هل يكفي ذلك؟
سجّلت ميزانية وزارة الشؤون الخارجية ضُمورا في السنوات الخمس الاخيرة (0,63٪ من ميزانية الدولة) وتمّ تجميد الانتدابات الجديدة وتعويض الإحالات على التقاعد بنسبة النصف. بمقر الوزارة كما بالمراكز والقنصلية والبالغ عددها 78، لا يتجاوز عدد العاملين 1200 نفرا بين أعوان ودبلوماسيين. أما ديوان التونسيين بالخارج فهو ليس على أفضل حال. ويتعين في حال إقرار استراتيجية جديدة، المبادرة بتحسين هذا الوضع من خلال دعم الموارد البشرية والزيادة في حجم الميزانية.
من داخل زنزانته المظلمة، وبصوت متقطّع وقلب مثقل بالهموم، لا يريد سمير فقدان الٲمل ولا ينتظر سوى رؤية ضوء النهار حاملا معه ٲخبارا سارّة.
توفيق الحبيب
- اكتب تعليق
- تعليق