أخبار - 2017.03.22

‭ ‬رشيد‭ ‬خشانة‭ ‬: موقعُنـا‭ ‬قُوّتُنــا‭...‬وحضـارتنـا‭ ‬بــوْصلتُــــنـا

‭ ‬رشيد‭ ‬خشانة‭ ‬: موقعُنـا‭ ‬قُوّتُنــا‭...‬وحضـارتنـا‭ ‬بــوْصلتُــــنـا

لايمكن أن نُصدّق أن بلدا مثل تونس بموقعه الجيواستراتيجي والثّروات الطبيعية التي يحضنُها، وإن كانت متوسّطة، وحجم سكّانه المحدود، غير قادر على تأمين مستوى عيش متوسّط لسكّانه. تعالوا نجمع الميزات التي تتّصف بها تونس لنرى إمكانات التّنمية المُتاحة لنا.

أوّلا موقعُنا قُوّتُنا. فعلى مرِّ الأحقاب شكّلت الإطلالة على حوضي المتوسّط الشّرقي والغربي هبة من الزمن وضعت تونس في مرتبة الصنو لروما. وهذا الموقع الفريد يُصرَف اقتصاديا بما يجعل بلادنا مركزا إقليميا للخدمات، أسوة بموقع بلجيكا في أوروبا، وهي التي لا تختلف عنّا كثيرا في عدد السّكّان وحجم الثّروات. وإذا كانت السّبعينات قد مكّنتنا من توظيف موقعنا، مع الفجوة في الرّواتب بين جنوب المتوسّط وشماله، لاستقطاب الصناعات المُكمَّلة للنسيج الصناعي الأوروبي. كان توافُرُ الكفاءات التقنية بأجور أقلّ من أوروبا إحدى نقاط القوّة التي منحتها ثلاثة عقود متتالية من النّموّ، إلى أن فُتحت أبواب سور الصّين العظيم ليلتهم التّنّينُ غالبية المحاضن الصناعية الشّبيهة بتونس. واليوم انتهت تلك المرحلة، وعلينا أن نوجد البديل.

من ميزات موقعنا أيضا أنّنا نقع بين بلدين ينعمان بموارد طبيعيّة كبيرة، وهو ما يُعزّز دورنا القائم على إسداء الخدمات المصرفية والسياحية والتجارية. لكنّ ذلك الموقع يمكن أن يتحوّل أحيانا إلى عنصر سلبي، عندما يُصبح الجوار الجغرافي مصدرا للتّهديدات الأمنية والاختراقات الإرهابية. كما أنّ تعرّض الجيران إلى صعوبات اقتصادية ينعكس سريعا على صحة اقتصادنا، ومن أمثلة ذلك تراجع مداخيل الجزائر من المحروقات، ما انعكس سلبا على صادراتنا إليها وفي حجم التدفُّق السياحي منها.

ثانيا بهذا المعنى نحتاج إلى إعادة النّظر في كيفيّة استفادتنا من ميزات الموقع، وبخاصّة في ضوء الاتّجاه نحو التّفاوض مع الاتّحاد الأوروبي، للتوصُّل إلى اتّفاق شراكة جديد يُعرف باسمALECA سيكون، إذا ما تمّ فعلا، مصيريّا للأجيال المقبلة، لأنه سيفتح السوق الوطنية أمام تدفّق المنتجات الزراعيّة والخدمات والاستثمارات من أوروبا (ومن سواها)، المُتفوّقة علينا في كل المجالات. في الماضي كانت ميزتنا المقارنة، قياسا على البلدان المماثلة لنا، متمثّلة أساسا في الكفاءات البشرية ذات التكوين الجيد والكلفة المتواضعة. غير أنّ هذا العنصر تلاشى نتيجة لسببين أوّلهما التّدهور الكبير لمستوى الخرّيجين جرّاء أزمة التعليم، وثانيهما ارتفاع مستوى الأجور عندنا. وهذا ما ينبغي أن يحفّزنا على استنباط ميزات بديلة تضمن لنا موقعا مُتميزا في محيطنا الجغرافي، على غرار ما فعلت بلدان جنوب شرق آسيا وتركيا.

ثالثا ليس الموقع الاستراتيجي مصدر القوّة الوحيد، فعلى الرّغم من حجمنا الصّغير لدينا مصادر طبيعيّة متنوّعة ليس أقلّها الفسفاط والنّفط والغاز. وقد كانت تونس عضوا في منظمة الدول العربية المُصدّرة للنّفط في النّصف الثاني من ثمانينات القرن الماضي، إلا أنّنا استهلكنا على ما يبدو المصادر النفطية التقليدية المؤكّدة، ولم يتبق سوى الغاز الصّخري بما يُثيره من جدل حول انعكاساته البيئية الوخيمة.

لكنّ الوجه الآخر للعملة يشير إلى أنّنا مُقصرون في البحث والاستكشاف، فقد كنا نستكشف في الماضي ما بين 12 و15 بئرا في المتوسّط سنويا، ونُطوّرُ ما بين 10 و12 بئرا. أما في السنة المنقضية فلم نحفر سوى بئر واحدة وحقّقنا اكتشافا واحدا، وهذا الوضع يبعثُ لنا بمؤشّرات حمراء اللّون، مثلما أقرّت بذلك وزيرة المناجم والطاقة والطاقات المتجدِّدة في تصريحات صحفية. وهذا الوضعُ يتطلّب تطوير دور «المؤسسة الوطنية للأنشطة النفطية» ETAP التي لا ينبغي أن تقتصر على مرافقة الشركات الأجنبية الفائزة برُخص التفتيش والاستكشاف ومراقبتها، وإنما أن تكون هي الذّراع الأساسية لأعمال البحث والتنقيب والاستغلال متى ما توفّرت الوسائل لذلك.

ساهم تعثّر الإصلاحات الاقتصادية والاستمرار في تأجيلها في تراجع مداخيل الدولة، بالرغّم من إقرار الجميع بأنّ أعباء الإصلاح تزيد يوما بعد يوم. كما أنّ قلّة التحكّم في الاستيراد والقصور في السيطرة على الاختلالات المالية الكبرى لعبا دورا كبيرا في تزايد العجز الذي بتنا نسُدُّهُ بمزيد من الاقتراض. هل من المنطقي أن تضخّ الدولة 800 مليون دينار في 2015 لإعادة رسملة البنوك العمومية العاجزة، والتي مازالت تواجه العجز إلى اليوم؟ هل من المقبول أن ترضخ المجموعة الوطنية لبعض الأصوات الديماغوجية بدعوى المحافظة على القطاع العام، بما يؤدّي إلى التملُص من إعادة الهيكلة الشاملة، وهي الكفيلة بوضع حد لهذا النزيف؟ أيُعقل أن تستمر الدولة في تسيير البنوك وشركات التأمين ومصانع الإسمنت والوحدات الإنتاجية مع ما ينجرُّ عن ذلك من تضخّم في أعداد الموظّفين وقلّة الجدوى؟

يحتاج التونسي اليوم إلى رؤية جديدة تبدأ من تغيير نظرته إلى نفسه وإلى موقعه في التاريخ والجغرافيا، بما يجعله يؤمن بكونه حامل رسالة مُستوحاة من عمق ثقافته وخصوبة حضارته، مع ضرورة التّطهُّر من التّواكل والعادات السيّئة التي شوّهت بناء الشّخصيّة التّونسيّة.

رشيد خشانة

 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.