محمد ابراهيم الحصايري: إطـلالـة على سيـاسـة المـغـرب الإفـريـقيّــة
تقول الباحثة المغربية رجاء غانمي في وصف سنة 2016 إنها كانت «سنة سمراء»، وهي تعني بذلك أنها كانت سنة تكريس التوجه الإفريقي في سياسة المغرب الخارجية.
بالفعل فقد شهدت سنة 2016 العديد من الزيارات الملكية إلى بلدان القارة شرقا وغربا، وقد توّجت هذه الزيارات بتوقيع أكثر من مائة اتفاقية، «وفتحت أوراشا كبرى، كان على رأسها مشروع أنبوب الغاز بين نيجيريا وأوروبا عبر المغرب، و»الفتوحات الخضراء» التي حقّقها المكتب الشريف للفسفاط الذي أصبح موجودا في 14 دولة إفريقية، ويحمل حلم الأمن الغذائي إلى القارّة السمراء في إطار شراكات لصناعة الأسمدة محليّا، وكل هذا كان مصاحبا باستثمارات كبرى في مجال العقّار والبنوك والأدوية والزراعة والتأمينات، وهو ما يجعل المغرب منافسا قويّا لتركيا والهند في القارة السمراء»...
ولأننّي أعتقد أن المقاربة التي اعتمدها المغرب في تعزيز علاقاته مع القارة الإفريقية مقاربة متميّزة، فقد أحببت أن أخصّص لها هذه الإطلالة، لا من أجل إطرائها، رغم أنها، في نظري، جديرة بالإطراء، وإنما من أجل إلقاء الضوء عليها عسى أن يجد أصحاب القرار عندنا فيها أو في بعض جوانبها ما يشحذ هممهم، ويحفّزهم على ترجمة حديثهم عن الاهتمام بالقارة الإفريقية إلى فعل ملموس...
وبداية، ينبغي أن نلاحظ أن أهمّ ميزة تميّز المقاربة المغربية هي استنادها إلى رؤية متكاملة متماسكة العناصر بين الخطاب والتحرك والآليات المسخّرة لتحقيق الأهداف المنشودة.
على مستوى الخطاب
في إطار تمشٍّ يمكن أن نصفه بـ«البيداغوجي» دأب العاهل المغربي الملك محمد السادس على شرح رؤيته لسياسة بلاده الإفريقية للشعب المغربي وللشعوب الإفريقية على حدّ سواء، من خلال ما يلقيه من خطابات ويدلي به من أحاديث لوسائل الإعلام.
وفي هذا الإطار، يمكن أن نتوقّف عند ثلاثة نصوص أعتبرها «مفتاحية»، جاء أوّلها في 20 أوت 2016 في شكل خطاب وجّهه الملك إلى الشعب المغربي بمناسبة الذكرى الـ63 لثورة الملك والشعب، وجاء ثانيها في 6 نوفمبر 2016 بمناسبة الذكرى الحادية والأربعين للمسيرة الخضراء، وهو أيضا عبارة عن خطاب ألقاه الملك، على غير العادة، من العـاصمة السينغالية داكـار...
أما ثالثها فهو عبارة عن حديث مطوّل أدلى به الملك في 26 نوفمبر 2016 لعدد من وسائل الإعلام الملغاشية، بمناسبة زيارته لمدغشقر.
وفي هذه النصوص الثلاثة وغيرها يؤكد الملك أنه يؤمن بأن «مصلحة المغرب من مصلحة إفريقيا، وأن مصيره لا يمكن أن يكون بدونها»... كما يؤكد أن إفريقيا بالنسبة إلى المغرب هي «أكثر من مجرد انتماء جغرافي، وارتباط تاريخي. فهي مشاعر صادقة من المحبة والتقدير، وروابط إنسانية وروحية عميقة، وعلاقات تعاون مثمر، وتضامن ملموس. إنها امتداده الطبيعي، وعمقه الاستراتيجي» ولذلك فإن ارتباطه بها «ارتباط متعدّد الأبعاد، يجعله في قلبها، ويضعها في قلوب المغاربة».
أمّا عن منطلقات السياسة الإفريقية المغربية وأهدافها فيمكن تلخيصها في ثلاثة هي أولا ترسيخ الإيمان بأن إفريقيا رغم الأضرار الكبيرة التي خلّفها الاستعمار «قادرة على النهوض بتنميتها، وعلى تغيير مصيرها بنفسها، بفضل ما لشعوبها من إرادة قوية، وطاقات بشرية وموارد طبيعية»، وثانيا التطلّع إلى «إقامة نموذج للتعاون جنوب-جنوب قوي ومتضامن، بين بلدان القارة الإفريقية» وذلك من منطلق القناعة بأن «إفريقيا مطالبة اليوم بأن تضع ثقتها في إفريقيا»، وثالثا تجسيد التزام المغرب بمواصلة العمل على نصرة قضايا الشعوب الإفريقية وعلى تحقيق نهضة القارة...
وتأسيسا على ذلك فإن الملك يعتبر أنه «وإن كان من الطبيعي أن يستفيد المغرب من التعاون مع أشقائه في إفريقيا، فإنه يحرص دائما أن تكون المنفعة مشتركة»، ومعنى ذلك كما يؤكد باستمرار أن «المغرب يعطي دائما لشعوب قارته، ولا ينتظر أن يأخذ منها. والتزامه من أجل قضاياها وانشغالاتها، لم يكن يوما من أجل استغلال خيراتها، ومواردها الطبيعية، خلافا لما يسمى بالاستعمار الجديد».
وهكذا فإن المغرب لا يعتبر إفريقيا «سوقا لبيع وترويج المنتوجات المغربية، أو مجالا للربح السريع، وإنما هي فضاء للعمل المشترك، من أجل تنمية المنطقة، وخدمة المواطن الإفريقي».
على مستوى التحرّك
- الزيارات الملكية إلى الدول الإفريقية: في الخطاب الذي ألقاه أمام القمة الإفريقية الأخيرة التي تقررت خلالها عودة المغرب إلى الاتحاد الإفريقي قال الملك إنه قام منذ اعتلائه العرش سنة 1999 إلى تاريخ القمة بـستّ وأربعين زيارة شملت خمسة وعشرين بلدا إفريقيا...
وإذا أضفنا الزيارات التي قام بها بعد القمة إلى بعض البلدان الأفريقية فإنّ عدد الزيارات سيرتفع إلى خمسين زيارة أو يتجاوزها... وقد شهدت سنة 2016 وحدها زيارة كل من رواندا وتنزانيا والسينغال وأثيوبيا ومدغشقر ونيجيريا الفيديرالية.
وتجدر الملاحظة أن جميع هذه الزيارات التي تشكّل قاطرة التحركات المغربية على الساحة الإفريقية اقترنت بإبرام العديد من الاتفاقيات وبالاتفاق على جملة من المشاريع وبرامج العمل المشتركة، كما رافق بعضها تدشين أو إطلاق مشاريع تنمية بشرية وخدمات اجتماعية لها تأثير مباشر على حياة سكان الدول التي تمت زيارتها، وذلك بتمويل مغربي في إطار «الرؤية التضامنية المتكاملة التي تحكم علاقات المغرب بأشقائه في إفريقيا» ومن منطلق أن إفريقيا بالنسبة إليه «ليست هدفا وإنما هي التزام، من أجل المواطن الإفريقي، أينما كان».
- اللفتات الانسانية الملكية تجاه الأفارقة: لعل أبرز هذه اللفتات مبادرة الملك سنة 2014 ثم سنة 2016 بالإذن بتسوية أوضاع دفعتين من المهاجرين الأفارقة المقيمين في المغرب بصورة غير قانونية.
وقد شملت كل دفعة حوالي 25 ألف مهاجر.
وقد أكد الملك في خطابه بمناسبة ذكرى ثورة الملك والشعب، أن مبادرته هذه تندرج في إطار سياسة المغرب التضامنية الحقيقية لاستقبال المهاجرين، من جنوب الصحراء وفق مقاربة إنسانية مندمجة تصون حقوقهم وتحفظ كرامتهم، وقال إن هذه السياسة هي التي أهّلت المغرب ليتولّى إلى جانب ألمانيا، الرئاسة المشتركة سنتي 2017 - 2018، للمنتدى العالمي للهجرة والتنمية، وأضاف «أن المغرب، الذي طالما رفض الطرق المعتمدة من طرف البعض، لمعالجة قضايا الهجرة والتي أثبتت فشلها، يعتزّ بما يقوم به في مجال استقبال المهاجرين وإدماجهم ولن يتراجع عن هذا النهج العملي والإنساني».
- العمل على تحويل الصحراء الغربية إلى جسر بين الجنوب والشمال: وذلك من خلال المشاريع التنموية الهامة التي تمّ إطلاقها فيها، والتي من شأنها أن تؤهّلها «للقيام بدورها التاريخي كصلة وصل، ومحور للمبادلات بين المغرب وعمقه الإفريقي، و كذا مع دول الشمال.
- توظيف التظاهرات الدولية التي يحتضنها المغرب في خدمة القارة الإفريقية: وقد تجلى ذلك عند انعقاد مؤتمر «كوب 22» بمراكش، حيث عمل الملك «وعيا منه بأن إفريقيا من بين المناطق الأكثر تضررا من التغيّرات المناخية» على جعل هذا المؤتمر «مؤتمرا من أجل إفريقيا».
وقد حرص بنفس المناسبة على عقد قمة إفريقية، على هامش المؤتمر، بهدف بلورة رؤية موحدة، للدفاع عن مطالب القارة، خاصة فيما يتعلق بالتمويل ونقل التكنولوجيا.
- تحقيق التكامل والاندماج بين اقتصاديات الدول الإفريقية بإطلاق مجموعة من المشاريع المشتركة الكبرى: ومن أهم هذه المشاريع مشروع خط أنابيب الغاز الذي سيربط بين المغرب ونيجيريــا مــرورا بالعديد من بلدان غرب إفريقيا.
ومن شأن هذا المشروع الاقليمي المهيكل الذي يتعلق بمد خط أنابيب غاز، ذي حمولة استراتيجية، والذي يمكن أن يرتبط بالسوق الأوروبية، أن يشجّع على انبثاق منطقة شمال - غرب افريقية مندمجة، فضلا عن تمكين المنطقة من تحقيق الاستقلالية الطاقية وتسريع وتيرة إنجاز مشاريع الكهربة لفائدة السكان وتطوير أنشطة اقتصادية وصناعية هامة.
ومن بين هذه المشاريع المشتركة الكبرى أيضا مشروع تطوير منصّة مندمجة من الطراز العالمي لإنتاج الأسمدة في أثيوبيا.
ووفقا لما جاء على لسان الرئيس المدير العام لـ«مجموعة المكتب الشريف للفسفاط»، فإن هذا المشروع الضخم سيتطلّب استثمارا إجماليا بقيمة 3.7 مليار دولار، وسيتم إنجازه على مرحلتين الأولى باستثمار قدره 2.4 مليار دولار، وذلك بهدف إنتاج 2.5 مليون مليون طن من الأسمدة في السنة في أفق سنة 2020، وهو ما سيمكّن أثيوبيا من تأمين اكتفائها الذاتي من الأسمدة، مع إمكانية التصدير، والثانية باستثمار قدره 1.3 مليار دولار، وذلك في أفق سنة 2025 من أجل بلوغ قدرة إنتاج إجمالية بـ 3.8 مليون طن من الأسمدة سنويا، من أجل دعم نموّ الطلب المحلي.
ويلاحظ الرئيس المدير العام لـ«مجموعة المكتب الشريف للفسفاط» أن هذا المشروع يتوخّى الاستفادة على أكمل وجه من التكامل بين الموارد الطبيعية في البلدين، إذ سيوفر الجانب الأثيوبي حاجياته من البوتاسيوم والغاز، فيما سيوفر الجانب المغربي حاجياته من الحامض الفوسفوري.
أما ثالث هذه المشاريع المشتركة الكبرى فهو يتعلّق بالاتفاق على تسريع إنجاز الطريق السيّار العابر لإفريقيا طنجة-لاغوس.
على مستوى الآليات
يستند العاهل المغربي في تحركاته على صعيد القارة إلى جملة من الآليات التي تضطلع بدور اساسي في إنجاز ما يتقرّر خلال زياراته إلى الدول الإفريقية، ومن هذه اللآليات نذكر خاصة «مؤسسة محمد السادس للتنمية المستدامة» التي قام بتأسيسها سنة 2008، في شكل «منظمة غير ربحية تتمثل مهمتها الرئيسية في التنمية البشرية والاجتماعية في القارة الإفريقية».
وتنشط هذه المؤسسة حاليا في سبع دول إفريقية هي السينغال ومالي وغينيا كوناكري وغينيا بيساو وكوت ديفوار والغابون ومدغشقر، حيث تقوم بدعم عدة مبادرات ترمي إلى النهوض بقطاعات الصحة والتربية والتنمية السوسيو-اقتصادية ومحاربة الفقر.
ومن الآليات التي يستند إليها أيضا صندوق المغرب للاستثمار (إثمار كابيتال) الذي يتولّى الإسهام في تمويل العديد من المشاريع المشتركة بين المغرب والدول الإفريقية، وذلك إلى جانب بعض المجموعات البنكية التجارية على غرار «مجموعة التجاري - وفا بنك» ومجموعة «يونايتد بنك فور أفريكا».
وبالتوازي مع ذلك، يعمل المغرب على الاستفادة من المؤسسات البنكية والمالية الدولية بانشاء آليات تمويل مشتركة معها، وهو ما تمّ مثلا بين صندوق المغرب للاستثمار (إثمار كابيتال) وبين البنك العالمي حيث اتفق الجانبان على إحداث «صندوق البنية التحتية الإيكولوجية لإفريقيا» الذي يهدف إلى ضمان الانتقال نحو اقتصاد أخضر بفضل نموّ مندمج وفعّال، يصدر نسبة قليلة من انبعاثات الغاز الدفيئة، ويمكّن من الولوج إلى طاقة نظيفة واستعمال فعّال للفلاحة والموارد المائية.
ومن جانبه، يعمل العاهل المغربي على توظيف علاقاته الجيّدة ورصيد الثقة الذي يتمتّع به عند دول الخليج في ضمان تمويل بعض المشاريع التي يتم الاتفاق على إنجازها مع بعض الدول الإفريقية.
هذا على الصعيد الاقتصادي والمالي، غير أن المغرب ومن منطلق أن الملك يحمل صفة أمير المؤمنين يولي في مقاربته لعلاقلاته مع الدول الإفريقية أهمية خاصة للبعد الديني، وفي هذا الإطار يندرج تأسيس «معهد محمد السادس لتكوين الأئمة المرشدين والمرشدات» الذي يستقبل العديد من الأفارقة لتكوينهم في المجال الديني، كما يندرج إحداث «المجلس الأعلى لمؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة».وبعــد، فقد أكّـد الملك محمد السادس في الحديث الذي أدلى به إلى عدد من وسائل الإعلام الملغاشية، أن سياسة بلاده في إفريقيا «أثبتت نجاحها، وبدأت تعطي ثمارها، سواء على مستوى المواقف السياسية بشأن قضية وحدة المغرب الترابية، أو من خلال تعزيز حضور المملكة الاقتصادي، وتطوير علاقاتها مع مختلف دول القارة».
ولا شكّ عندي أن سرّ هذا النجاح يرجع، في جانب كبير منه، إلى مثابرة الملك على التواصل المستمر مع إفريقيا، وإلى تواتر خطابه التحريضي على التوجّه إليها، وعمله الدؤوب على إعداد العدّة وتوفير الآليات اللازمة والقادرة على تجسيم الأهداف المرسومة...
ولذلك فإنه ليس عجيبا أن يتطلّع المغرب الى أن أن يكون المستثمر الإفريقي الأول في إفريقيا على غرار ما جاء في هذه الفقرة التي نقتطفها من الرسالة التي وجّهها الملك إلى القمة السابعة والعشرين للاتحاد الإفريقي المنعقدة بالعاصمة الرواندية كيغالي: «إن الانخراط المكثف للفاعلين الاقتصاديين المغاربة، وحضورهم القوي في مجالات الأبناك والتأمين والنقل الجوي والاتصالات والسكن، يجعل من المغــرب، في الوقت الحالي، أوّل مستثمر إفريقي في إفريقيا الغربية. وهو أيضا ثاني مستثمر في إفريقيا كلّها. ولكن ليس لوقت طويل، لأنه عبّر عن إرادته القوية في أن يكون الأول».
محمد ابراهيم الحصايري
- اكتب تعليق
- تعليق