‭ ‬الحبيب‭ ‬الدّريدي: الـعـقل‭ ‬السّياسيّ‭ ‬التّونسـيّ‭ ‬بين‭ ‬التّفكير‭ ‬والسّجال

‭ ‬الحبيب‭ ‬الدّريدي

أتاح السّياق السيّاسيّ الجديد الذّي تلا الرّابع عشر من جانفي 2011 فرصة تاريخيّة للنّخب الوطنيّة والأحزاب السّياسيّة للخوض في الشّأن العامّ وتطارح القضايا المصيريّة للبلاد في مناخ من مطلق الحريّة ومــوفـــور الاستقــلاليّة، إذ لا قيود على الرّأي ولا رقابة ولا حدود إلّا ما نظّمته القوانين والتّشريعات. ولكنّ نوعيّة النّقاش الذّي يدور في البلاد منذ ما يزيد عن ستّ سنوات يجعل الملاحظ يتبيّن أنّ تلك النّخب والأحزاب بصدد إهدار هذه الفرصة بسبب ما يتّصف به الخطاب السيّاسيّ من تشنّج وما يرشح عن حوار مختلف مكوّنـــات السّـــاحة السّياسيّة مــن عراك إيديولـــوجــيّ لا طائل منه. ويمكن للنّاظر في بعض مظاهر النّقاش السيّاسيّ في تونس أن ينتهي إلى استصفاء أهمّ خصائص العقل السّياسيّ التّونسيّ بعد «الثّورة» والوقوف على أبرز سماتهولعلّ أجلى هذه الخصائص أنّه عقل سجاليّ un esprit disputeur، يطغى عليه تبادل الاتّهامات والتّخليّ عن المنطق الموضوعي واتّخاذ مواقف دفاعيّة فيترتّب عن ذلك حجب المسائل الحقيقيّة أو تضييع جوهرها واستبدالها بقضايا جانبيّة تبعد النّقاش عن هدفه الأصليّ وتحرّفه عن مقاصده الأساسيّة.

بين التّوافـق والتّـراشق

رغم ما شاع من أنّ المبدأ المُميّز للعلاقة بين الأطراف السيّاسيّة في تونس هو مبدأ التّوافق باعتباره الوصفة السّحريّة التّي تمّ العثور عليها لتجاوز بعض المراحل الدّقيقة في مسار الانتقال الدّيمقراطيّ والآليّة التّي وقع الاحتكام إليها لتجنّب عديد المآزق والتّشابكات الحادّة فإنّ هذا التّوافق الظّاهر كثيرا ما يتحوّل على الميدان إلى تراشق بالمطاعن والمآخذ فينقلب الوفاق إلى شقاق ويحتلّ السّجال صدارة المشهد السّياسيّ. ولعلّ أبرز مظاهر استناد العقل السّياسيّ التّونسيّ إلى المنهج السّجاليّ قيام خطاب النُّخب والأحزاب في جانب كبير منه على نقد دعاوى الخصوم ونقض مزاعمهم وعلى التّشهير بأخطاء الغير وتبرير ما يُنسب إلى تلك الأحزاب من عيوب. وعلى هذا النّحو يبدو هذا العقل مُنشغلا بكيل الاتّهامات ودحض الاتّهامات المضادّة وبالرّدّ والتّفنيد على نحو ما يُسمّى في الفرنسيّةprise de bec، فلكلّ فريق جملة من المطاعن الجاهزة وجملة من الرّدود المعدّة سلفا، وهي ظاهرة تُعايَن بيُسر في الحوارات الإعلاميّة والمناهج الاتّصاليّة لكثير من قادة الأحزاب ونوّابها ومناضليها.

ويلاحظ المتابع في هذا الصّدد أنّ خصوم «النّهضة» مثلا لا يتوانون عن التّذكير كلّما وجدوا إلى ذلك سبيلا بعدد من المآخذ التّي تُعاب بها هذه الحركة من ذلك الفشل في قيادة البلاد وإدارة المرحلة الانتقاليّة زمن «التّرويكا»، والتّعاطي مع مسؤوليّة الحكم بمنطق الغنيمة، والتّساهل في التّعامل مع الظّاهرة الإرهابّيّة، ومحاولة أسلمة المجتمع وتوظيف الدّين في العمل السّياسيّ، فضلا عن تحميلها مسؤوليّة الاغتيالات السّياسيّة التّي عرفتها البلاد في تلك الفترة. أمّا أنصارها فينبني خطابهم في الغالب الأعمّ على التّذكير بماضيهم في مواجهة الأنظمة السّابقة وبما نالهم جرّاء ذلك من عسف وتهجير وملاحقة، ويردّون على منتقديهم بأنّهم يتبنّون منهج الوفاق وهو ما حملهم على قبول التّنحّي عن السّلطة مراعاة لمصلحة البلاد، وإذا تعلّق النّقاش بالخلط بين الدّين والسّياسة فإنّهم يؤكّدون ما تعكف عليه حركتهم من مراجعات ليس أقلّها إقرارها الفصل بين الدّعويّ والسّياسيّ.

ومن جهة أخرى نرى خصوم «الجبهة الشّعبيّة» يؤاخذون المتبنّين للفكر اليساري عموما بأنّهم «علمانيّون»، أو ينعتونهم تارة بالاستئصاليّين بسبب مواقفهم الرّاديكاليّة إزاء الإسلام السّياسيّ، وقد يوصفون تارة أخرى بالطوباويين بحجّة أنّهم يدعون إلى نظام اجتماعيّ مفرط في المثاليّة وإلى اشتراكيّة أورثودكسيّة متشدّدة. وتُحمَّل الجبهة في كثير من الأحيان مسؤوليّة التّحرّكات الاجتماعيّة والاحتجاجات الشّعبيّة التّي تنجم هنا أو هناك، ومن ثمّ تُتَّهم بتعطيل حركة الانتاج ومسار التّنميّة. غير أنّ أنصار الجبهة يردّون على هذا الموقف بكونهم يُمثّلون القوى التّقدّميّة والدّيمقراطيّة في البلاد ويحملون لواء الفكر الحداثيّ التّنويريّ، وأنّ مواقفهم وتحرّكاتهم تندرج في إطار النّضال من أجل الحريّات والحقوق العامّة، أمّا نظرتهم إلى المسألة الاقتصاديّة والاجتماعيّة فمدارها على الدّعوة إلى منوال تنمويّ مغاير قوامه العدالة الاجتماعيّة والمساواة.

وأمّا خصوم «النّداء» فيعيبون على هذا الحزب استفحال الصّراعات الدّاخليّة وفرط الانقسام والتّفكّك جرّاء معارك الزّعامة والتّموقع، وبالنّظر إلى استمرار الصّعوبات الاقتصاديّة والاجتماعيّة  في البلاد بات النّداء يُنتقد بعدم الإيفاء بوعوده الانتخابيّة وبالفشل في إيجاد الحلول للصّعوبات التّي تعيشها البلاد، فضلا عن مؤاخذته بالتّحالف مع خصوم الأمس وتخييب أمل ناخبيه الذّين صوّتوا له باعتباره ضديدا للنّهضة. ويرُدّ النّدائيّون بأنّ حزبهم إنْ لم يكن له فضل سوى إحداث التّوازن المنشود في المشهد السّياسيّ الوطنيّ فقد كفاه ذلك مزيّة وفائدة. أمّا عن مواجهة مشاكل التّنميّة في البلاد فيدحضون رأي خصومهم بكونهم ورثوا وضعا اقتصاديّا واجتماعيّا حرجا لا يمكن تجاوز صعوباته إلا على مدى متوسّط وطويل. وأمّا ما يعرفه الحزب من تصدّع فيعتبرون ذلك مخاضا طبيعيّا في كيان سياسيّ تشكّل من روافد مختلفة ومشارب متباينة. وهكذا ينهمك العقل السّياسيّ التّونسيّ في السّجال والمشاحنات والتّراشق بالاتّهامات وتَصْرِفه هواجس النّقد والنّقض والتّبرير والدّحض عن مهامّه الجوهريّة وهي التّفكير في بناء المستقبل والاجتهاد في صياغة الرّؤى الاستراتيجيّة والتّوجّهات الكفيلة بمعالجة معضلات التّنميّة والانكباب على تقديم الطّروحات التّي يُساهم بها في وضع البرامج والمناويل النّاجعة في مواجهة ما تفرضه التّحوّلات الجيوسياسيّة إقليميّا ودوليّا من تحدّيات كبرى.

الفكر السّكولائيّ Scolastique

يُستخدم نعت سكولائيّ Scolastique لتسمية كلّ انشداد إلى العقليّة «المدرسيّة» (بالمعنى الفلسفيّ) وكلّ نزوع إلى الانغلاق في أطاريح أو في مسائل تشكّلت في زمن سابق وأضحت مادّة جاهزة بدلا من تجدّدها عبر الالتصاق المباشر بالتّجربة المتغيّرة والمشاهدة والحياة. ويفضي هذا الانغلاق إلى جعل المسلّمات القديمة تتحكّم في رؤية العقل للواقع وتمنعه تبعا لذلك من تجديد نظرته ومناهج تفكيره وآليّات تمثّله للأشياء. والمُحصّل أنّ الفكر السّكولائيّ يمنع من مزاولة القضايا الرّاهنة إلّا من خلال الأفكار التّي صُنعت في وضعيّة سابقة، ويترتّب عن ذلك أن يصير الفكر عاجزا عن الإمساك بالواقع أو التّحكّم فيه. وهنا يلتقي هذا المنهج مع المنهج السّجاليّ لأنّه لا يُعاين الواقع ولا يسعى إلى فهمه وتحليل عناصره وإنّما يلوذ بالإيديولوجيا والمواقف الذّاتيّة ليبرهن على صحّتها.

ويتّضح لدارس العقل السّياسيّ التّونسيّ أنّ المواقف المعبّرة عن مقوّمات ذاك العقل تُبطن بعض خصائص الفكر السكولائي وتجلّياته، ذلك أنّ التّعاطي مع بعض القضايا الإقليميّة مثل المسألة السّوريّة أو الصّراع بين الأطراف المتنازعة في ليبيا أو سقوط حكم الإخوان المسلمين في مصر لم يتمّ من زاوية ما تقتضيه التّقاليد والأعراف الدّيبلوماسيّة والمبادئ الأساسيّة للعلاقات الدّوليّة وما تفرضه المصالح العليا للبلاد وإنّما وقع النّظر إلى هذه القضايا من زاوية مدى التقارب الفكري والإيديولوجيّ لكلّ تيّار سياسيّ وطنيّ مع الأطراف المتنازعة في تلك البلدان، ولم نستمع إلّا نادرا إلى مواقف تراعي عناصر الواقع الجيوسياسيّ المتحكّم في تلك التّغيّرات بقدر ما استمعنا إلى آراء تُغلّب الأهواء الذّاتيّة وتصدر عن منطلقات إيديولوجيّة ومذهبيّة تكرّس الانغلاق داخل دائرة أطروحات تبلورت في حقبة ماضيةأمّا على الصّعيد الدّاخلي فقد ظلّت المسألة الاقتصاديّة والاجتماعيّة عصيّة على الحلّ لأنّ النّظرة إليها بقيت حبيسة طرائق المعالجة التّقليديّة والمألوفة، فدفع التّنمية وتنشيط الدّورة الاقتصاديّة في الجهات أو مجابهة المطالب الاجتماعيّة  المُلحّة مازالت تُباشَر دوما تحت ضغط الأزمات والتّحرّكات الاحتجاجيّة فلا تُواجَه غالبا إلّا بالحلول الظّرفيّة التّلفيقيّة الرّاميّة إلى امتصاص الضّغط آنيّا ولا تُزاول في ضوء رؤية استراتيجيّة شاملة ومتكاملة.

منطق التّبرير والتّــفـصّي

يؤدّي السّجال وما يرتبط به من تهجّم ونقد ودفاع وردّ إلى الوقوع في التّبرير والتّفصّي من المسؤوليّة وإنكارها. ويظهر ذلك في صِيغ مختلفة منها عدم الإقرار بالخطإ أو بالقصور لأنّ الاعتراف بتحمّل تبعات خيار فاشل أو إجراء مجانب للصّواب أو قرار في غير محلّه من شأنه أن يُهدّد مشروعيّة التّيّار كلّه ومصداقيّة النّظريّة وما يتبنّاه من فكر. وعلى هذا الأساس نجد في الخطاب السّياسيّ الرّاهن محاولات كثيرة للتّغطية على قصور المناهج والوسائل التّي اتُّبعت لمواجهة بعض الملفّات الكُبرى والاشكالات العالقة السّياسيّة والتّنمويّة والاجتماعيّة فيُعلَّق الفشل على «الدّولة العميقة» أو «الثّورة المضادّة» أو «قوى الردّة» أو على «ثقل الإرث الذّي خلّفته حكومات سابقة».

وقد يتجلّى التّفصّي من المسؤوليّة في صيغ أخرى من قبيل إلقاء المسؤوليّة على مفاهيم عامّة مثل «العقليّة السّائدة» و«غياب الوعي» و«عدم تهيّئ الذّهنيّات للإصلاح والتّغيير» و«التّقاليد الموروثة» وغيرها. في حين تقتضي القدرة على مواجهة المسؤوليّة جملة من الخصال أهمّها مباشرة الواقع باعتباره معطيات متغيّرة ومتطوّرة تخضع في حركيّتها إلى عوامل موضوعيّة وإلى قوانين علميّة، والكفّ عن ارتهان مشاريع الإصلاح والتّطوير إلى النّظرّيات الجاهزة والعقائد الفكريّة المتكلّسة لأنّ المجتمع لا يمكن أن يُختزَل في مذهب أو في إيديولوجيا، والنّظر إلى المراجعة على أنّها إصلاح للتّجربة الماضية وليست نسفا للمكتسبات القديمة وبدءا من الصّفر لأنّ حركيّة التّاريخ تُبنى على المراكمة والإضافة. ويتبيّن ممّا تقدّم أنّ العقل السّياسيّ في تونس مُنصرف إلى مشاغل آنيّة عابرة تحول دونه وتمحيص القضايا الاستراتيجيّة والمصيريّة الحاسمة، وهو يشتغل بآليّات الرأي والاعتقاد مُعرضا عن قوانين العقلانيّة والعلم، ومن ثمّة فهو لا يبدو جيّد التّمثّل للواقع، مُحكِم المسك بزمامه والسّيطرة عليه. بل إنّه منغلق في دائرة السّجال الأجوف الذّي ليس له من وظيفة سوى تكريس فكر المماحكات وإعادة إنتاج التّصدّع والانقسام داخل المجتمع وتأجيج مشاعر التّباغض والعداء.

ولعلّ الأجدى أن يتحوّل هذا السّجال إلى نظر فاحص في ما تطرحه علينا المتغيّرات الرّاهنة في العالم من تحدّيات، فالأحرى أن نفكّر في كيفيّة تحويل التّوجّس من زحف اللّيبراليّة الجديدة إلى فرص حقيقيّة لإعادة التّموقع في المشهد الجيوسياسيّ المستجدّ، وأن نبحث في سبل الاستفادة من نزعة الحمائيّة والانعزال التّي تجنح إليها كبرى قوى الاقتصاد في العالم لعلّنا نجد موقعا أفضل في خارطة التّجارة العالميّة الجديدة، وأن نتدارس قضايانا الكبرى مثل: منوال التّنمية ومصادر الثّروة، ومناهج تكوين الموارد البشريّة وطرائق تثمينها، وعقيدتنا الدّيبلوماسيّة وسبل تطويرها. كلّ ذلك حتّى تستعيد الأحزاب السّياسيّة دورها الأساسيّ باعتبارها فضاءات للتّفكير والتّباحث والدّرس ومنابر للحوار البنّاء والنّقاش وتكوين الرّأي.

الحبيب الدّريدي

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.