تمثال »غانيماد« من صدمة السرقة إلى فرحة إسترجاعه
يوم 9 نوفمبر 2013، نزل خبر سرقة تمثال «غانيماد» من المتحف المسيحي المبكّر بقرطاج درمش نزول الصاعقة على القائمين على شؤون حماية التراث الأثري وعلى عديد التونسيين، فتحوّل اختفاء التمثال إلى قضية رأي عامّ. وقع الصدمة كان عنيفا، خاصّة وأنّ «غانيماد» قطعة فنيّة فريدة من نوعها في العالم، وتقدّر قيمتها، حسب البعض، بعشرة ملايين من الدنانير. وسرعان ما تعهّدت بالقضية مصلحة المحافظة على الآثار والتحف التابعة للإدارة الفرعية للقضايا الإجرامية بالقرجاني.
وأثبتت الأبحاث الأوليّة أنّ الجاني استغلّ تقصيرا في حراسة الموقع وحمايته للاستيلاء على التمثال بعد أن قام بكسر الصندوق البلوري الذي وُضع فيه إثر نقله من متحف قرطاج إلى المتحف الفرعي بقرطاج درمش، أي في المكان الذي اكتشف فيه عند إجراء الحفريات. أوقف خمسة حرّاس، لكنّ القضيّة ظلّت تراوح مكانها إلى أن بلغ إلى علم المصلحة بالقرجاني في نوفمبر 2015 أنّ الجاني عرض على شخص مقيم بالخارج شراء «غانيماد»، فطمع في ذلك نظرا للقيمة الأثرية والمالية العالية لهذه القطعة، فتمّ إيقافهما، لكنّ كلاهما أنكرا حيازتهما للمسروق وألقى كلّ واحد منهما تهمة مسكه على الآخر، ممّا زاد في تشعّب القضية وتعقيدها. في الأثناء، لم يهدأ بال رئيس المصلحة المتعهّد بالقضية ع م ، فأضحى شغله الشاغل إماطة اللثام - بالتعاون مع أعوانه - عن مختلف أطوارها وقطع على نفسه عهدا بالكشف عن مكان إخفاء هذه القطعة النفيسة. الجاني معروف، وقد تورّط في السابق في قضايا إجرامية وليس من بين «اختصاصاته» سرقة الآثــار، فهو لا ينتمي إلى شبكة منظّمة ترتكب جريمة كهذه. عديد المؤشــــرات كانت تدلّ على أنّ التمثال لم يبارح تونس، فبيد من وقع؟ ذلك هو السؤال الذي استبدّ به إلى حدّ الهوس.
الطريق إلى »غانيماد«
أفضت التحريّات المعمّقة التي استعملت فيها وسائل بشريّة وتقنيّة شتّى إلى المسك بخيط سيوجّه البحث نحو تحديد هويّة الشخص الذي استلم «غانيماد»، - وهو يعلم جيّدا مصدره وقيمته - والكشف بالتالي عن مكان إخفائه. حبكت المصالح الأمنية بالقرجاني خطّة جريئة لاستدراجه بعد أن عُرض عليه مبلغ مغر لبيع التمثال. وفي حدود الساعة التاسعة والنصف من ليلة 26 جانفي الماضي، كان الأعوان على الميدان لتنفيذ الخطة التي لا تخلو من عناصر التمويه والإبهار، وفق سيناريو شبيه بسيناريوهات الأفلام البوليسية. اقتضت الخطّة أن يحضر لموعد رُتّب مسبقا شخص تبدو عليه مظاهر الثراء ويمتطي سيارة فخمة لإبرام الصفقة مع الذي أخفى القطعة الأثرية. كان الإثنان في الموعد، وما هي إلاّ لحظات حتّى تمّت مداهمة بيت في إحدى الضواحي الغربية للعاصمة حيث عُثر فيه على تمثال «غانيماد». بعد جهود مضنية في البحث والتقصّي استمرّت أكثر من ثلاث سنوات ، عاد ع. م إلى مكتبه بالقرجاني في حدود منتصف الليل، للقيام بالإجراءات الإدارية اللازمة لاستكمال ملفّ القضية ولوضع «غانيماد» في مكان آمن إلى أن تتسلّمه وزارة الثقافة والمحافظة على التراث.
كان يوم 26 جانفي 2017 يوما سارّا في حياة هذا الإطار الأمني الذي شغف - منذ تقلّده المسؤولية في سنة 1996- بقطاع الآثار وحمله حبّه لمهنته على تنمية ثقافته في مجالي التاريخ والتراث وتوسيع دائرة اطلاعه على ما له صلة بهما، ممّا مكّنه من أن يراكم تجارب ثريّة عزّزتها معرفة دقيقة للمعالم والمواقع الأثرية التي تزخر بها البلاد. سيبقى ذلك اليوم محفورا في ذاكرته وذاكرة كلّ من شارك في العمليّة من إطارات وأعوان. وسيظلّ النجاح في استرجاع إحدى نفائس التراث الأثري التونسي صفحة ناصعة في سجلّ إدارة الشرطة العدلية والهياكل التابعة لها من إدارة فرعية للقضايا الإجــرامية ومصلحـة للمحافظة على الآثار والتحــف.. وما مـــن شـــكّ في أنّ هذا النجاح يقيم الدليل مرّة أخرى على أنّ جهاز الأمن الوطني استرجع عافيته واستعاد فاعليته وأنّ جهوده لا تنصرف فقط إلى الحفاظ على الأمن العمومي والمساهمة في حماية الوطن من مخاطرالإرهاب والجريمة المنظّمة، بل تشمل كذلك السهر على أمن تونس الثقافي وصيانة كنـــوزها الأثـــرية التي لا تُقدّر بثمن.
تمثال غانيماد
هـــذا التمثــال منحوت من المرمر الأبيض ويبلغ طوله 49 سنتمترا. وقع اكتشافه من قبل علماء أمريكيين في الآثار في موقع قرطاج درمش الأثري، سنة 1973، في إطار حملة اليونسكو «يجب إنقاذ قرطاج». رُمّم التمثال بعناية فائقة لجبر كسور طفيفة أصابته. يعود التمثال إلى القرن الخامس الميلادي، وهو نموذج لرفعة الفنّ الروماني في إفريقيا الرّومانيّة من الفترة القديمة المتأخّرة. يجسّم التمثـــال «غانيمــاد»، وإلى جـــانبه الإله «زيوس»، ربّ الآلهـــة الإغريقية في شكل نســـر، وبجـــوارهما كلب وعنـــزة نائمة. وحســـب الميثـــولوجيا الإغــريقية، كـــان «غـــانيماد» ابـــن ملك طروادة، عشيـــق «زيوس»، وكـــان مـــن أجمل الكائــنـات، لكنّ مصيره الزوال وبينمـا كان «غانيمــاد» يصـطاد ذات يـوم حملـه «زيوس» الذي تحوّل إلى نسر إلى أعالي جبل الأوليمب ليجعل منه كائنا خالدا.
- اكتب تعليق
- تعليق