الفصل السادس من قانون الانتخابات غير دستوري !أين هي أصوات أساتذة القانون الدستوري ومكونات المجتمع المدني؟
بعد أكثر من سبعة أشهر من تعطيلات قيل إنّها لأسباب مبدئيّة ولمصلحة البلاد، مرّر مجلس نوّاب الشعب يوم الثلاثاء 31 جانفي بأغلبيّة مريحة، قانون الانتخابات والاستفتاء متضمّنا الفصل السادس الذي يخوّل للأمنيين والعسكرييّن الترسيم بسجلّ الناخبين وبالتالي المشاركة في الانتخابات البلديّة والجهويّة لكن دون سواهما. إنّ كيفيّة تمرير ذلك الفصل هي أقرب ما تكون مهزلة ومسرحيّة إتّفقت حولها أحزاب، في غفلة ممّن انتخبوهم. نعم ذات ليلة وبقدرة قادر انقلبت المواقف من الضدّ إلى الضدّ، فالطرف الذي كان معارضا شرسا لممارسة الأسلاك المسلّحة لحقّ الانتخاب وذلك حرصا منه على مصلحة البلاد (!)، غيّر موقفه بين عشيّة وضحاها والأدهى و لأمرّ حصل ذلك بدون تقديم لأولائك الناخبين "الغلابى" أيّ تفسير لهذا الانقلاب في الرأي. يبدو أنّ تلك التطوّرات في المواقف حصلت نتيجة "لتنافقات" حزبيّة لا يفقه سرّها إلاّ الراسخون في التلاعب السياسي من أجل المصلحة السياسيّة الحينيّة. مع ذلك، يبقى تمرير قانون الانتخاب من أهمّ إنجازات هذه المرحلة حيث سيسمح بإجراء الانتخابات البلديّة و الجهويّة و بذلك تركيز أسس الحكم المحلّي التشاركي الديمقراطي و هذا في حدّ ذاته إيجابي جدّا.
إلا أ ن الفصل السادس الذي بموجبه يخول للعسكريين و الأمنيين، الترسيم في سجل الناخبين للإنتخابات البلدية والجهوية، جاء كما سأبينه لاحقا، مخالفا للدستور بصفة واضحة لا لبس فيها.
فمن خلال التحاليل والمواقف المعلنة و السابقة للتصويت على القانون، يمكن تلخيص الموقفين الرئيسيين حول هذا الموضوع بإيجاز كما يلي:
أ. الموقف الأول: يدعو لتعليق ممارسة حقّ الانتخاب، و لا نكران الحقّ ذاته كما يروّج له البعض، باعتبار خصوصيّات تلك الأسلاك و متطلّبات نجاحها في أداء مهامها أي "لمقتضيات الأمن العام و الدّفاع الوطني" كما يسمح به الفصل 49 من الدّستور،
ب. الموقف الثاني: بالعكس يؤكد على اعتبار أفراد تلك الأسلاك مواطنين عاديين كسائر بقيّة التونسيّين، لا خصوصيّات لهم تميّزهم عن سائر المواطنين. وعملا بالفصل 21 من الدستور لهم ما لغيرهم من حقوق وحرّيات دستوريّة ومنها الانتخاب. فجوهر المسألة إذن يتعلّق بصفة أفراد الأسلاك المسلّحة، هل هم مواطنون ذوي خصوصيّات تبرّر تعليق ممارستهم حقّ الانتخاب ما داموا يحملون السلاح، أم هم مواطنون بالمفهوم العام لا فرق مطلقا بينهم و بين غيرهم من المواطنين التونسيين؟ و من الواضح أنّ الذين صادقوا على الفصل السادس، يتبنّون الرأي الثاني، القائل بالتساوي المطلق بين حامل السلاح و المواطن العادي.
فلنسلّم بهذا التمشّي الثاني وننظر في مدى دستوريّة الفصل السادس من قانون الانتخابات والاستفتاء المنقّح من ذلك المنظار بالذات، أي الموقف الثاني.
جاء بالفصل السادس من قانون الانتخاب موضوع هذه الورقة: " ير سم بسجل الناخبين العسكريون وأعوان قوات الأمن الداخلي في الانتخابات البلدية والجهوية دون سواهما". و بذلك يتضمّن هذا الفصل تناقضات جليّة عديدة مع ما جاء بالدستور، نورد منها الآتي:
1. إقصاء هذا الصنف من المواطنين من بقيّة الانتخابات، التشريعيّة والرئاسيّة و كذلك من الاستفتاءات، و هذا يعدّ تمييزا لهم عن غيرهم من المواطنين، وهو مخالف لمبدإ المساواة، الوارد بالفصل 21
2. إقصائهم من حقّ الترشّح للمناصب النيابيّة و ذلك في كلّ المستويات، البلديّة والجهويّة والتشريعيّة والرئاسيّة، و في هذا إقصاء لهم من مجموع المواطنين، هو أيضا إجراء، مخالف للفصل 21
3. ذلك علاوة على منعهم من المشاركة في الحملات الانتخابيّة و تسليط أشدّ العقوبات كالعزل من الوظيفة، على من يقوم بذلك. فعن أيّ مساواة بين المواطنين يتحدّثون؟
4. يقضي الدستور في فصليه 18 و 19 بأن تؤدّي كلّ من المؤسّستين العسكريّة والأمنيّةمهامها في «حياد تام».
إلا آنّ ممارسة عمليّة الإنتخاب تفترض من الناخب، العسكري والأمني في هذه الحالة، أن يولي اهتماما بالشأن السياسي من أحزاب ومترشّحين وبرامج و خيارات سياسيّة حتّى تتبلور لديه مواقف و قناعات شخصيّة يصوّت للجهات السياسيّة التي تتبنّاها. و بالتصويت فهو يعبّر عن قناعات سياسيّة يمكن أن تتطوّر إلى ميولات ولا شيء يمنعها من أن تصبح ولاءات، من المستحيل ضمان عدم تأثيرها على كيفيّة أداء أصحابها لمهامهم و على التزامهم بالحياد التام المطالبين به بالدستور. والحياد السياسي لا يقف طبعا عند عدم الانتماء الحزبي فحسب، بل يقتضي من حاملي السلاح ومؤسّساتهم المحافظة على صبغتهم اللاسياسيّة و هو ما يعني البقاء بعيدا كلّ البعد عن الشأن السياسي، طبعا عدم الاشتغال بالسّياسة وعدم لعب أيّ دور سياسي بل بالعكس الخضوع لسلطة سياسيّة مدنيّة. ولا يكمن الخطر في تسيّس المؤسّستين وأفرادها فقط، بل يشمل خاصّة مناورات وسعي الأحزاب السياسيّة ذاتها لاستمالتهم و ضمان اصطفافهم لجانبها. ألم يصرّح مؤخّرا السيد وزير الداخليّة أنّ كلّ الأحزاب تسعى لوضع يدها على الأجهزة الأمنيّة؟ كما أنّه ليس من الصعب تصوّر ما يمكن آن يحصل داخل الوحدات من انقسامات وانخرام الانضباط صلبها بسبب اختلاف توجّهات أفرادها السّياسيّة ونتيجة لمحاولات الفاعلين السّياسيين لاستمالتهم والكلّ يعلم والدستور يؤكّد على أنّ "الجيش الوطني جيش جمهوري وهو قوّة عسكريّة مسلّحة قائمة على الانضباط "(الفصل 18). لتقدير خطورة الموضوع، يكفي تصوّر ما كان يحصل بتونس أثناء أحداث 2010-2011 أو بمناسبة ما عرف "باعتصام الرحيل" في صائفة 2013 ، لو لم يكن الجيش الوطني والمؤسّسة الأمنيّة بعيدين عن كلّ ما له علاقة بالسياسة والسياسيّين.
أمّا القول بأنّ دراية الأعوان بالشأن السياسي والمشاركة في الانتخابات لا تمنعهم من الإلتزام بالحياد التام عند أداء مهامهم، فهذا في المرحلة الحاليّة الهشّة التي تمرّ بها البلاد حيث لا زالت السياسة تطغى على كلّ كبيرة وصغيرة، يبقى ذلك القول في مستوى النوايا الحسنة، غير واقعي و في كلّ الحالات لا شيء يضمن تجسيده في الواقع.
إنّ مخاطر تسيّس الأسلاك المسلّحة، عبر ممارسة حق الانتخاب، هي أكثر من واردة و بذلك يكون الفصل السادس من قانون الانتخاب مخالفا أيضا لروح الفصلين 18 و19 من الدستور.
5. بموجب قوانينهم الأساسيّة الخاصّة و التراتيب الداخليّة لكلّ مؤسّسة، كان العسكر يّون والأمنيّون ولا يزالون حتّى بعد تمرير هذا القانون، محرومين من العديد من الحقوق الدستوريّة و هذا أيضا غير دستوري إذ يتعارض مع جلّ فصول الباب الثاني من الدستور، باب "الحقوق و الحرّيات" و خاصّة منها:
- "حرّية الرأي و الفكر والتعبير والإعلام والنشر" (الفصل 31)
- "حرّية تكوين الأحزاب والنقابات والجمعيّات” (الفصل 35)
- "حريّة الاجتماع والتظاهر السلميين" (الفصل 37)
- حرّية التنقّل "لكل مواطن الحرية في اختيار مقر إقامته وفي التنقل داخل. الوطن و له الحقّ في مغادرته" (الفصل 24) فبأيّ موجب يحرم أفراد الأسلاك المسلّحة دون غيرهم من المواطنين من تلك الحقوق الدستوريّة؟
6. ثمّ ماذا عن القيود الواردة بالأنظمة الخاصّة والتراتيب الداخليّة من تراخيص للزواج وللسّفر خارج البلاد وحتّى التنقّل داخلها والحال أنّ الدستور يضمنها؟
إنّ المدافعين على مضمون الفصل السادس من القانون الجديد للانتخابات ورغم اعتمادهم على مبدإ المساواة المطلقة في الحقوق بين المواطنين (الفصل21) من الدستور لتبرير موقفهم، فهم يخرقون مضمون هذا الفصل بالذات بمخالفة جلّ فصول الباب الثاني من الدستور، باب الحقوق والحرّيات.
قطعا تلك الخرقات المتعددة، تكفي لاعتبار هذا الفصل السادس الجديد من قانون الانتخاب والاستفتاء مخالفا للدستور أي لا دستوري او ذلك لما جاء به من خروقات متعددة وواضحة للدستور وخاصة إقصاء هاته الفئة من المواطنين، أبناء الأسلاك المساحة، من حقوق و حريات دستورية لا جدال فيها وتمييزهم سلبيا عن بقية المواطنين في تناقض تام مع الفصل 21 ويبقى الأمر المحير حقا في هذه الفترة، وفي انتظار اكتمال تركيبة المحكمة الدستورية و انتصابها، غياب أي جهة مخول لها النظر في دستورية القوانين. وبذلك تبقى حتى القوانين الغير دستورية سارية المفعول! وهنا يأتي دور السادة أساتذة القانون الدستوري ومكونات المجتمع المدني للجوء لكل الأساليب، القانونية طبعا، للتصدي لهذا القانون اللادستوري.
ملاحظة: للأسف وإضافة لما سبق، لا يمكن لا للمواطنين ولا لجمعيّات المجتمع المدني الطّعن في دستوريّة القوانين. أمّا النواب الذين لهم حقّ الطعن، فهم منشغلون في الحسابات السياسيّة ويبقى الأمل فيهم ضعيف.
- حفظ الله تونس -
أمير لواء متقاعد محمد المؤدب
- اكتب تعليق
- تعليق