في مائويّة الأديب محمّد المرزوقي :(1981 ـ1916) رائـــد الأدب الشّــعبــيّ فــي تــونـــس
إنّما الثّقافة خلاصة شخصيّة الأمّة وعبقريّتها وفكرها ووجدانها، وإذا استقام هذا الفهم فهي صنيعة الشّعوب ونتاج الجماعات وإبداع الأجيال، ولكنّ هذا البعد الجماعيّ لا ينفي دور الأعلام والأفراد في نحت شخصيّة الأمّة وتشكيل وجدانها، أفليست تلك الأجيال نُخَبًا من الأعلام الأفذاذ وصفوة من الرّجال الألمعيّين؟
ولذلك احتفت الأمم بأعلامها فغالت في الاحتفاء وأحيت ذكر رجالاتها ومُفكّريها وأدبائها فأمعنت في الإحياء، ولكنّ النّاس في الاحتفاء فريقان: فريق يجعله بهرجًا أجوف وهالة خاوية وتمجيدا لا يُنتهَى فيه إلى طائل، وفريق يتّخذه سبيلا إلى الدّرس المتأنّي والبحث المعمّق والنّظر الدّقيق.
وإنّ تونس بمثقّفيها وأدبائها وكتّابها تُحيي أواخر هذه السّنة الذّكرى المائويّة لميلاد أحد أبرز أدبائها ومثقّفيها: أعني الأديب محمّد المرزوقي (1916-1981) الذّي ضرب في كلّ فنّ بسهمٍ فكان شاعرا وأديبا وصحفيّا ومؤرّخا ومحقّقا. ولا أراني في حاجة إلى إقامة الدّليل على صيته الأدبيّ أو الاحتجاج لجهوده في إغناء الثّقافة الوطنيّة، وحسبي أن أقول إنّه رائد الأدب الشّعبيّ في تونس دون منازع.
النّشأة والتّكوين
يمكن أن نردّ العوامل التّي ساهمت في تكوين شخصيّة محمّد المرزوقي الأدبيّة والثّقافيّة إلى ثلاثة أركان أساسيّة هي الانتساب إلى التّعليم الزّيتوني، والنّشاط صلب الجمعيّات الثّقافيّة، والاختلاط بأعلام السّاحة الأدبيّة وأساطينها.
فقد ارتاد المرزوقي مؤسّسات التّعليم الزّيتوني بالعاصمة منذ 1930 بعد أن حفظ نصيبا من القرآن في مسقط رأسه دوز، واختلف إلى المدرسة الخلدونيّة فأفاد من الدّروس التّي كانت تُقدّم بها وأحرز سنة 1935 على ديبلومها، ونال من الزّيتونة شهادتي الأهليّة والتّحصيل.
أمّا العامل الثّاني فيعود إلى نشاطه الدّؤوب ضمن كثير من الجمعيّات الثّقافيّة والمسرحيّة والموسيقيّة وهو ما أتاح له أن يكوّن نفسه اجتماعيّا ويصقل ما يحمله من مواهب كامنة واستعدادات فطريّة للتّأليف والإبداع وميول إلى الأدب والشّعر والفنّ عامّة. وأمّا ثالث هذه العوامل فهو احتكاكه بأبرز أعلام الأدب والثّقافة والفكر في ثلاثينات القرن المـــاضي، فقـــد لازم العلّامة حســن حسنــي عبد الوهاب وأخذ عنه الكثير في باب دراسة التّراث وتحقيق المخطوطات، وتتلمذ لشيوخ كبار من أمثال بلحسن بن شعبان والعربي الكبادي، واختلط بجماعة تحت السّور وكان أصغر أعضائها فجالس الدّوعاجي ومصطفى خريّف والهادي العبيدي وكرباكة ومحمود بورقيبة وعبد العزيز العروي.
وعلى هذا فإنّ المرزوقي عصاميّ التّكوين بالأساس، نهل من التّجارب والمجالسة ومزاولة النّشاط أكثر ممّا نهل من مؤسّسات التّعليم فأخذ من كلّ شيء بطرف وتهيّأ له نصيب من الموسوعيّة.
مسيرة صحفيّة حافلة
عُرف محمّد المرزوقي منذ شبابه الباكر وإلى أواخر أيّامه بشغفه الكبير بالعمل الصّحفي، فقد خاض غماره منذ كان طالبا، إذ ساهم في إصدار صحيفة «الهلال» وهي صحيفة طُلّابيّة سريّة كان يُصدرها طلبة الزّيتونة، وحرّر قبل ذلك في جريدة «العمل التّونسيّ» لسان الحزب الحرّ الدّستوريّ الجديد. واستبدّ به حبّ هذه المهنة حتى احترف الصّحافة بين أواسط الأربعينات وأواسط الخمسينات عندما عمل بجريدة «النّهضة» اليوميّة، واشتهر بطرافة الاسم المستعار الذي اختاره لنفسه والمتكوّن من حروف لقبه «زورق اليّم». ومن الصّحافة المكتوبة التحق بالإذاعة فأنتج عديد البرامج الإذاعيّة المعروفة مثل «أحاديث السّمر» و«الأدب الشّعبيّ» و«جولة في الشّعر الشّعبيّ» و«شعراء من الماضي» وغيرها.
ولعلّ ما كان يميّز أسلوب محمّد المرزوقي الصّحفيّ قرب المأخذ وبساطة العبارة والاتّصال بالأفهام مع جرأة واضحة في الإصداع بالرّأي ونقد لاذع حتّى جاز أن نعتبره «ثاني اثنين» هو وعبد العزيز العرويّ فقد كان صنوا له وقرينا.
الارتقاء بمنزلة الأدب الشّعبيّ
لا شكّ في أنّ الأدب كان الاهتمام الأبرز من بين فروع المعرفة المختلفة التّي اشتغل بها محمّد المرزوقي. وهو من القلّة الذّين كتبوا في نوعي الأدب الكبيرين: أدب النّفس وأدب الدّرس، فقد كان أديبا مُنشئا مُبدعا في الشّعر والقصّة، وكان في الآن ذاته دارسا ناقدا وجامعا محقّقا.
أمّا في الشّعر فقد نشر مجموعات كثيرة نذكر منها «دموع وعواطف» و«بقايا شباب» في مواضيع وجدانيّة ذاتيّة، وأمّا في القصّة فكتب قصّة عنوانها «جزاء الخيانة» صدرت سنة 1946 وثلاث مجمـــوعات قصصيّة: «عـــرقوب الخيــر» (1952) و«في سبيـــل الحريّة» (1956) و«بين زوجتين» (1957)، إضافة إلى رائعته «الجازية الهلالية» (1971).
ومن ناحية أخرى زاول المرزوقي أدب الدّرس فأصدر كتابا عنوانه «أبو العلاء المعرّي آراؤه و عقيدته» وكتابا عن علي الحصري القيرواني دراسة وتحقيقا وكتابا عن الطّاهر الحدّاد بالاشتراك مع الجيلاني بن الحاج يحيى.
إلاّ أنّ الجانب الّذي يمتاز به محمّد المرزوقي هو فضله الّذي لا ينكر علي الأدب الشّعبيّ في تونس جمعا وتحقيقا وتدوينا ودراسة. وقد ذكر لنا نجله الأستاذ رياض المرزوقي أنّ صلة الفقيد بالشّعر الشّعبيّ والمأثورات عامّة انطلقت عند تأسيسه لقسم الأدب الشّعبيّ بإدارة الآداب صلب وزارة الثّقافة وترؤّسه لهذا القسم بين 1961 و 1976، فقد جمع طيلة هذه المدّة رصيدا هائلا من الرّوايات الشّفويّة وكان يخرج من أجل ذلك إلى الصّحراء والجبال والقرى بجهد فرديّ أسفر عن نفض الغبار عن كبار الشّعراء الشّعبيّين منهم ثالوث القرن 19 أحمد ملاّك وأحمد بن موسى ومنصور العلاّقي واكتشاف أبرز شعراء القرن 20 مثل أحمد البرغوثي والعربي النّجّار ومحمّد الصّليعي وغيرهم.
وتكمن مزيّته في أنّه نجح في الانتقال بالأدب الشّعبيّ من فنّ قوليّ تلقائيّ يصنّفه البعض بأنّه «دون المستوى الرّفيع» إلى مرتبة الأدب الحقّ الّذي لا يقلّ سموّا وأصالة وجودة عن سائر أجناس الأدب الرّفيع. وقد أثبت أنّ هذا الشّعر الشّعبيّ بتنوّع قوالبه وأوزانه ومواضيعه وأغراضه وبمتانة صلته بالمجتمع الّذي نشأ فيه وبتعبيره الصّادق عن تجارب إنسانيّة عميقة وتصويره شتّى العواطف والأحاسيس البشريّة إنّما هو شعر يضاهي في قيمته الفّنّيّة الشّعر الفصيح ويفوقه أحيانا.
التّاريخ على التّاريخ
يتبيّن دارس أعمال الأديب محمّد المرزوقي أنّه اتّجه على نحو لافت إلى الكتابة التّاريخيّة ولا سيّما تاريخ المقاومة الوطنيّة للاستعمار الفرنسيّ، ومن آثاره في هذا الباب «معركة الزّلاّج» و«ثورة المرازيق» و«دماء على الحدود» و«صراع مع الحماية» و«الدّغباجي حياته وأعماله». ويستوقفنا هذا المنزع التّاريخيّ في بعض تآليفه لأنّه يقوم على طريقة مخصوصة في كتابة التّاريخ، فلئن اعتمد المرزوقي الوثائق الرّسميّة السّياسيّة والإداريّة فإنّه أضاف إلى مصادره شهادات المقاومين أنفسهم وقصائد الشّعراء الّتي خلّدت هذه الوقائع وسير أبطال المقاومة من أمثال علي بن خليفة النّفّاتي ومنصور الهوش وبشير بن سديرة والدّغباجي ومصباح الجربوع وغيرهم.
وبذلك أخرج لنا تاريخا للمقاومة الوطنيّة يختلف عن التّاريخ الرّسميّ لأنّه يعيد لشخصيّات تاريخيّة مهمّشة ومجهولة نسبيّا اعتبارها، كما يعيد بناءها في صلتها بسياقها التّاريخي.
إنّه ضرب من التّاريخ المصغّر يحتفي بالجزئيّ والفرديّ ويعتبره هامّا في بناء العامّ المشترك، فهي كتابة تهدف إلى ملء فراغات حقيقيّة وثغرات لا يستهان بها في فهم تركيبة سياق التّحرّر الوطنيّ المعقّد وإضاءة مختلف الملابسات التّي أسهمت في تكييف واقع النّضال الوطنيّ وتنشيطه.
وقد اعتُبر هذا النّوع من الكتابة التّاريخيّة من قبيل النصّ على النّصّ أو التّاريخ على التّاريخ لأنّه يبني مشروعيّته على تخوم نصوص تاريخيّة قائمة يحاورها ضمنيّا من موقعه باعتباره موقعا تاريخيّا مشروعا ومفيدا.
محمّد المرزوقي المحقّق
أتقن المرزوقي فنّ التّحقيق بعد تتلمذه لثلاث مدارس كبرى في هذا المجال: أوّلها المدرسة التّونسيّة حيث أخذ عن العلّامة حســن حسني عبد الوهاب مبادئ هذا الفنّ وقواعده. وثانيها المدرسة المشرقيّة من خلال اطّلاعه على أهمّ أصول التّحقيق العلميّ للنّصوص عند المشارقة. وثالثها مدرسة الاستشراق حيث نظر في كثير من الأعمال التّي حقّقها المستشرقون.
وعلى هذا النّحو تهيّأ له أن يُحقّق عددا من الكتب القيّمة منها «كتاب مؤنس الأحبّة في أخبار جربة» لمحمّد بوراس، وديوان الحكيم أبي الصّلت أميّة بن عبد العزيز الدّاني (460 هـ- 529 هـ) مبتكر الموسيقى التّونسيّة، وديـوان الأمير تميم بن المعــزّ بن باديس الصّنهاجي ضمن كتاب «المهديّة وشاعرها تميم» وكتاب «خريدة القصر وجريدة العصر» للأصفهاني بالاشتراك مع الجيلاني بن الحاج يحيى، و«الرحلة الصّحراويّة عبر أراضي طرابلس وبلاد التّوارق» لمحمّد بن عثمان الحشائشي.
تراث زاخر وأعمال كاملة في الطّريق
يذكر الأستاذ رياض المرزوقي أنّ والده ترك عشرين كتابا مخطوطا وجاهزا للنّشر وعشرات الملفّات والمشاريع بعضها يمكن استكماله وبعضها الآخر مجرّد خطوط عامّة، وأهمّ هذه الأعمال المخطوطة:
- معجم المدن والقرى التّونسيّة
- المعجم الموسيقي
- ديوان من الشّعر الشّعبي عنوانه «صَحْرَا ... وسْرَابْ» جمع فيه ما نظمه من قصائد وأزجال ومحلّات شاهد
- تحت السّور وهو جملة من المحاضرات تُعرّف بأعلام هذه الحركة
- شعر العربي النّجار
- شعر محمّد بن عون الصّليعي
- الجزء الثّاني من كتاب «عبد الصّمد قال كلمات»
- الجزء الثّاني من كتاب « محلّات شاهد»
وقد تجنّد الأستاذ رياض المرزوقي منذ وفاة الرّاحل سنة 1981 لإنجاز الأعمال الكاملة لمحمّد المرزوقي في عشرة أجزاء، وقد صدر الجزء الأوّل منها سنة 2012 تحت عنوان «معارك وأبطال» ويُنتظرُ أن تصدر قريبا ثلاثة أجزاء أخرى هي «الأدب الشّعبي» و«الدّيوان الفصيح» و«المأثورات الشّعبيّة».
ولعلّ أيسر عمل وأقلّ صنيع يمكن أن يسديه القائمون على شؤون الثّقافة ببلادنا إلى هذا الأديب في مائويّته هو المبادرة الفوريّة بإخراج ما تبقّى من أعماله الكاملة. وما أجدر الباحثين المختصّين بالتّصدّي لتلك الأعمال بالقراءة المعمّقة والدّرس العلميّ المنهجيّ، وما أجدر السّاهرين على شؤون التّربيّة عندنا بأن يجتهدوا في إطلاع ناشئتنا على غرر نصوص محمّد المرزوقي فذاك هو الإحياء الحقّ والاحتفاء الصّدق..
الحبيب الدّريدي
- اكتب تعليق
- تعليق