أخبار - 2016.12.27

هـل‭ ‬كـــانت‭ ‬تـونـــس‭ ‬فـــــي‭ ‬حــاجــة‭ ‬إلى‭ ‬ثـــورة؟

هـل‭ ‬كـــانت‭ ‬تـونـــس‭ ‬فـــــي‭ ‬حــاجــة‭ ‬إلى‭ ‬ثـــورة؟

يعرّف أحمد نجيب الشّابي نفسه بأنّه ناشط سياسي مستقلّ قبل أن يقدّم وجهة نظره في الأزمة الاقتصاديّة، فيحمّل كل الأطياف السياسية المسؤوليّة ويقارن الوضع الراهن بما كانت عليه البلاد نهاية 2010 مؤكّدا بكثير من الحسرة أنّ مشاريع عديدة كانت مبرمجة لفائدة الجهات حلّ أوانها لكنّها لن ترى النّور (1)، وتعيدُ مقاربتُه هذه إلى الأذْهان سؤالا ظلّ يتردّد بصيغ متنوّعة لم تغادر منطقة الاستقطاب الثنائي بين النّظام القديم ومعارضيه: هل كانت تونس أصلا في حاجة إلى ثورة؟

إصلاح النّظام أم تفكيكه؟

يمثّل أحمد نجيب الشابي حالة سياسيّة متفرّدة في تونس، فقد كان أحد المُوقّعين على الميثاق الوطني في 1988، لكن علاقته بالرئيس ساءت بعد أن اعتمد الحلّ الأمني في مواجهة النّهضة بداية التّسعينات، فأصبح يقود جناحا من المعارضة لم يتمكّن النّظام من ترويضه، ويفسّر هذا الأمر وجود عدد من الإسلاميين في الحزب الديمقراطي التقدّمي وصحيفته «الموقف» بهُويّات مختلفة ومشاركتهم معا في إضراب الجوع الشهير الذي ضمّ كافّة مكوّنات المعارضة «الراديكالية» سنة 2005، كما أدّى إعلان أحمد نجيب الشّابي الترشّح للانتخابات الرّئاسية عام 2009 إلى تنقيح القانون الانتخابي وزعزعة نوايا النظام المعلنة حول الدّيمقراطية. لكن مناصرة الحزب الديمقراطي التقدمي احتجاجات 17 ديسمبر 2010 في سيدي بوزيد، لم تمنع الشابي من أن يكون أوّل المرحّبين بخطاب الرئيس ليلة 13 جانفي 2011، وكان حضوره ليلتها في وسائل الإعلام ثمّ انضمامه لاحقا إلى حكومَتَيْ محمّد الغنّوشي وزيرا للتّنمية الجهوية والمحلّية المنعرج الذي افترقت فيه سبيله عن رفاقه القدامى في اليمين واليسار، ففي مقــابل ما اتّسم به موقفه من اعتدال نسبي كان ثمّة خطاب آخر راديكالي وافد من الخارج يمثّله المنصف المرزوقي ويقوم على فكرة أن النّظام «لا يَصلُح ولا يُصلَح»، وهو خطاب بدا أكثر تشدّدا من خطاب الإسلاميين ذاتهم، ويقترب من خطّ حزب العمّال الشّيوعي الذي دخل في مواجهة صريحة مع نظام بن علي منذ البداية عندما رفض التّوقيع على الميثاق الوطني.

وبينما كانت النهضة تخلع جلباب التّنظيم المحظور لتدخل بداية من مارس 2011 حقل العمل السّياسي القانوني أسقطت اعتصامات القصبة المدعومة بشدّة من قوى اليسار والنّقابات دستور1959 وأصبح أحمد نجيب الشّابي يغنّي خارج السّرب بعد أن تشبّث طويلا بفكرة إصلاح النّظام دون تفكيكه بينما اتّجه الآخرون إلى تقويض أسسه العميقة لإعادة بنائه من جديد.

الرّئيس الذي لم يجد الطريق إلى قرطاج

نهاية شهر ماي 2011، نظّم الحزب الديمقراطي التّقدمي اجتماعا شعبيا في المنستير، فاكتسحت الأعلام الصّفراء المدينة منذ وقت مبكّر، وتمّ استقدام أعداد كبيرة من المواطنين بوسائل مختلفة من المدن المُتاخمة لمركز الولاية، قبل ذلك بيوم وصل أحمد نجيب الشّابي الرّئيس الشّرفي للحزب مصحوبا بمستشاريه وعدد من أفراد عائلته، فأدّى زيارة إلى روضة آل بورقيبة، وقابل المعتصمين أمام المطار، ثمّ أدلى بحديث للإذاعة قبل أن يستقبل أثناء حفل العشاء في أحد النّزل الفخمة عددا من رجال الأعمال ويستمع إلى مقترحاتهم بخصوص قضايا التّنمية والاستثمار في الجهة. كان المشهد بأكمله يدلّ على أنّ الشّابي الذي غادر الحكومة يوم 28 فيفري بعد استقالة محمد الغنوشي بيوم واحد، قد قطع شوطا كبيرا في حملة انتخابية مبكّرة، لكن المعلّقات الإشهاريّة التي تحمل صورته مع ميّة الجريبي والتي انتشرت في كامل أنحاء الجمهورية أعادت إلى الأذهان صورة الزّعيم التي يريد كثير من التونسيين أن تختفي إلى غير رجعة، ناهيك عن الخلفيّة التّجمعية التي احتفظت بها اجتماعات حزبه من حيث الحشد والتعبئة والتمركز حول القيادة، وهو ما أعطى الانطباع بأن التّقدمي الديمقراطي يتأهّب للحلول محلّ التّجمّع بينما كان الشّابي يحثّ الخطى نحو قصر قرطاج.

في خضمّ هذا النّشاط الحزبي الحثيث كان الشّابي يصرّح بأنّ جبهة 18 أكتوبر قد دخلت التّاريخ وأنّ النّهضة هي الآن الخصم السّياسي الأول لحزبه، أنهى الرجل تحالفاته القديمة مع أطراف سياسيّة لا يلتقي معها إيديولوجيا، وأخذ يعزف على وتر «فوبيا» النّهضة التي بدأت تستفحل لدى النّخب، لا سيّما بعد تسريب تصريحات لفرحات الراجحي وزير الدّاخلية السّابق ورئيس الهيئة العليا لحقوق الانسان والحرّيات الأساسية يوحي فيها بأنّ انقلابا عسكريا على الطريقة الجزائرية قد يحدث في حال فوز الإسلاميين في الانتخاباتوفقَدَ أحمد نجيب الشّابي أسبقيّته المعنويّة عندما تمّ تأجيل الانتخابات إلى شهر أكتوبر لأسباب لوجستية، فلم يتمكّن الاّ من المركز الرّابع بستة عشر مقعدا فقط أمام النّهضة والتّكتل والمؤتمر، وأخفق في الوصول إلى سدّة الحكم بفارق عشرة مقاعد كاملة عن حزب العريضة الشعبية الذي حلّ في المركز الثالث متقدّما حتى على حزب التّكتل. وقد فسّر البعض هذه النتائج برغبة قطاع عريض من الناخبين في «التكفير عن الذنب» بعد أن أغرقت النهضة والأحزاب الدائرة في فلكها وسائل الإعلام في خطاب المظلوميّة الذي يختصر العهدين السّابقين في اضطهاد الاتّجاه الإسْلامي ورموزه، لكنّ صعود الإسلام السياسي كان جزءا من مخطّط إقليمي تدفع إليه قوى دولية، ولم يكن ممكنا اعتبار النهضة مجرّد خصم سياسي كما فعل الشّابي، ما جعله ينفق كلّ رصيده النّضالي في حملة انتخابية لم يهتد إلى فكّ شفرتها الحقيقية، ويكتفي بمقعد في المجلس حصل عليه بكلّ سهولة ابراهيم القصّاص سائق سيارة الأجرة المجهول، ثم يختار مواصلة نفس الطريق الذي بدأه دون التحالف مع النهضة حتى بعدها إمساكها بزمام الأمور.

من الإصلاح إلى المصالحة

يحاول أنصار حكومة الوحدة الوطنية ومن ضمنهم أحمد نجيب الشابي إقناع الجماهير اليوم بأنّ مشاكل الاقتصاد الوطني كانت أكبر من أن تحلّ بمجرّد اختفاء بن علي وأصهاره، وأنّها كانت تستوجب إصلاحات عميقة لم تقع بسبب الانكباب على تقويض الجمهورية وإعادة بنائها في ما يشبه إعادة اختراع العجلة، لقد استنفد خطاب الشيطنة الذي تأسّست عليه مشروعيّة الهدم كل طاقات الإقناع وحلّ محلّه خطاب مناقض تماما، فبعد أن كانت النّهضة تعتبر كلّ حديث إيجابي عن الماضي مدحا للاستبداد يستوجب التّجريم، أصبحت تتحدث عن التّصالح مع الدّولة بعد مراجعات نقديّة اقتضتها تجربة الحكم الفاشلة، ويعترف قادتها بالخطإ (2)، هذا التّصالح هو ما تسميه المصالحة الشّاملة وهو تصوّر براغماتي انتهت إليه تحت مظلّة الوفاق الوطني التي أجبرتها على قراءة التاريخ بهدوء وعقلانية، والغريب أنّ الهاشمي الحامدي كان قد دعاها إلى هذا الموقف منذ 1999 حين حصر مجال الصّراع مع نظام بن علي في مربّع الحرّيات العامّة والدّيمقراطية محرّضا راشد الغنوشي على الاعتراف بما تحقّق في تونس من استقرار اجتماعي ونموّ اقتصادي وتطور تشريعي ومؤسّساتي في غيابه(3).

هذا الاعتراف بالخطإ في تشويه النّظام السّابق وشيطنته يستمدّ مشروعيته من أنّ الجمهوريّة الجديدة لم تنهض على مشروع اقتصادي بديل وواصلت في نفس النّسق فلم تتمكّن من وقف التّراجع الحاصل في مجالي الأمن والرّفاه الاجتماعي، لذلك تتشبّث القوى اليسارية بمواقفها الرّاديكالية التي تنتصر لفكرة الثورة حتى وإن كان ذلك على حساب مؤسسات الدّولة ذاتها، بما يفسّر وجود حمّة الهمامي في طليعة مناصري الحراك الشّعبي في «جمنة»، ويواصل المنصف المرزوقي الدّعوة إلى إعادة هيكلة مؤسّسات الدّولة بعد أن اعتبر أنّ هزيمته في الانتخابات تعني عودة النّظام القديم وانتكاس الديمقراطية (!)، بينما يواصل أحمد نجيب الشابي الدعوة إلى الحوار الوطني مع الإبقاء على نفس المسافة الفاصلة بينه وبين النهضة، ولم يتمكّن الباجي قايد السّبسي من تحويل خطاب المصالحة إلى إجراء تشريعي خارج إطار هيئة الحقيقة والكرامة.

وفي خضم هذا المشهد السّياسي المتحرّك ستختلف الإجابات حتما لو طرح السؤال: ألم يكن من الأفضل إصلاح نظام السّابع من نوفمبر دون الثورة عليه؟ فقد أعادت صناديق الانتخاب في كثير من المحطّات أشخاصا محسوبين على النظام السابق ولم يُفضِ مناخ الحرّيات والتّعددية إلى منع الفساد أو الانتصار على التّواكل وظلّ المشكل الاقتصادي يراوح مكانه بعد أن تراجعت جميع المؤشرات بفعل تغيّر الأولويات وعجز الدولة عن إيجاد حلول استراتيجية، ورغم ما ينطوي عليه من مخاطر في مستوى التأويل السياسي فإنّ المؤتمر الدولي للاستثمار قد رفع أمام وسائل الإعلام العالمية شعار «تونس تعود»، لكنّ الطبقة السياسية ستظلّ تعمل جاهدة على استبعاد هذا السؤال رغم أنّه يمكن أن يكون مدخلا مهمّا للنظر فيما حدث تحت مجهر التاريخ مجرّدا من أي توظيف.

(1)برنامج ميدي شو، إذاعة موزاييك بتاريخ 2016-10-27

(2)حسين الجزيري، برنامج التاسعة 2016-10-27

(3)برنامج الاتجاه المعاكس، قناة الجزيرة 1999-10-24

عامر بوعزّة

 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.