رشيد خشانة: ثـــروتُنـــا شبـابُــنــا وشــــبابُنـــا يضيــــع منّـــا
الشّباب هو ثروة المجتمع، ومجتمعنا مُهدَدٌ في مستقبله القريب والبعيد بسبب إصابته بإعاقات وتشّوهات ما فتئت تتوسّع وتنتشر، كما السّرطان، في الجسم الشّبابي.
الفراغ والضياع والملل هي ألواح السقف الذي يجلس تحته ملايين من شبابنا في انتظار شغل لا يأتي ومستقبل لا يُفصح عن لونه. بعد 17 ديسمبر 2010 كثّف الشباب من حركات الاحتجـــاج، المرفوقة أحيانا بأعمال عنف، ليقرع نواقيس الخطر، مُنبّها إلى نزولنا التدريجي نحو الهاوية.
غير أنّ أحدث الدراسات في هذا المضمار أظهرت تحوّل الاحتجاجات من فردية إلى جماعية. ومعظم تلك الاحتجاجات يعود إلى قلّة استماع السلطات لمطالب الشباب. كما أظهرت الإحصاءات أيضا أنّ مستوى الاحتجاج الأكثر كثافة قد سُجّل في الولايات المُهمّشة مثل القيروان وسيدي بوزيد والقصرين. والأخطر من ذلك أنّ بعض تلك الاحتجاجات الجماعية أصبح يتّسم بالعنف والتهوين من شأن الدولة وتحقير رموزها.
من الآفات الاجتماعية التي تدُكّ كيان شبابنا اليوم المخدّرات والمنشّطات العقلية، التي بات من الصعب ألا يُستدرج لها شابٌ أو شابَة في المدرسة أو المعهد أو الشارع. ويكفي ان يُغامر ذاك الشاب باستهلاكها ليجد نفسه مدفوعا على سكّة لا يستطيع أن يضع لها حدا، هي سكّة الطيش والانحراف وربما الإجرام.
تجاوزت مضاعفات اليأس مجرّد الإدمان على المخدّرات، على خطورته، إلى الإقدام على الانتحار. والإحصاءات التي وزّعها المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية مؤخّرا تقطع النفس وتبعث قشعريرة في الجسم. تنوّعت طرق الانتحار فإمّا شنقا أو حرقا، أو بإلقاء النفس من ارتفاع شاهق أو من جسر، أو ببندقية صيد أو سلاح أبيض، أو بتناول كمية من الأدوية...
إذا بحثنا عن الدوافع نجد أنّ أغلب حالات الانتحار تتّصل بملفّات تنموية واجتماعية طال انتظار حلّها، مثل البطالة وسوء الخدمات وتجبّر الإدارة وتدهور البنية الأساسية... وهذا أحد الأسباب التي جعلت الانتحار يتدرّج من فعل فردي إلى رحلة جماعية إلى الموت. وعندما نلاحظ أنّ عدد عمليات الانتحار وصل إلى 365 انتحارا في السنة الماضية، أي أنّ تونسيا ينتحر كلّ يوم، وأنّ 27 شخصا من كلّ مئة ألف تونسي يختارون الانتحار، نُدرك أنّنا بإزاء غول مفترس إن لم نقض عليه قصف زهراتنا من الجنسين قصفا.
هذه الظاهرة ما انفكّت تتفاقم من سنة إلى أخرى، فما تمّ تسجيله من عمليّات انتحار أو محاولات انتحار في شهري سبتمبر وأكتوبر الماضيين يُقارب مُجمل ما تمّ رصده خلال كامل سنة 2014، وهو أمرٌ مُفزع. أكثر من ذلك أثبتت الإحصاءات أنّ 75 في المئة من المنتحرين في شهر أكتوبر الماضي هم في سنّ تتراوح بين 26 و35 سنة وأنّ 19 في المئة تتراوح سنّهم بين 36 و45 سنة. بتعبير آخر 94 في المئة من المنتحرين هم دون الخامسة والأربعين، أفليست هذه حالة حرب نخسر فيها يوميا فردا من أفراد الشعب، فضلا عن الذين يفشلون في الانتحار أو يتمّ إنقاذهم في الوقت المناسب، والذين يُمكن اعتبارهم جرحى هذه الحرب؟ هناك عنصران أساسيان فاقما من هذا التسابق إلى الموت، أولهما تزايد أعداد العاطلين عن العمل مع استمرار ركود الاقتصاد، إذ يعيش أولئك الشبان والشابات ظروفا سيّئة تُشعرهم بالهوان والإذلال. والنتيجة أنّ كثيرا من المُنتحرين هم من خريجي الجامعات العاطلين عن العمل والمُطالبــين بالتوظيف.
وثانيهما إخفاق الإعلام في التعامل مع الظاهرة، إذ استلذّ بعض الإعلاميين تحويلها إلى مصدر للإثارة حتى غدا الانتحار علامة شجاعة عند البعض وسيفا لمعاقبة المجتمع عند البعض الآخر. ماذا نفعل لوقف انهيار الجدار الذي يتساقط على رؤوسنا قطعة بعد أخرى؟ وكيف نُعيد بناء شخصية الشاب والشابة؟ قطعا ليس بالأسلوب الحالي الذي يستسهل استخدام العنف ضدّ الاحتجاجات الشبابية الجماعية، ويكاد لا يأبهُ للحالات الفردية، مع أنها مؤشر يستحقّ الرصد والمتابعة والتحليل.
ومع استمرار فكّ الارتبـــــاط بين الشباب ومجتمعهم سنجدُ أنفسنا أمام فترة بيضاء لا نعرف كيف سيتعامل خلالها الشبان والشابات مع وطنهم ومجتمعهم وقيمهم بينما هم أصلا في قطيعة ثقافية معها. المجتمع لم يُعطهم شيئا والمستقبل يلفّه المجهول، ولذا فالاحتجاج هو سبيلهم الوحيد للتذكير بأنّهم موجودون وأنّ لديهم حقوقا. وهذا ما جعل احتجاجاتهم غير مُؤطرة، لأنّ الأمراض الاجتماعية والنفسية التي تضرب كيان الشباب لا تحظى بعناية الأحزاب والنقابات وغالبية الجمعيات. أمّا في المستوى الرسمي فلـــــم نفعل شيئا لحماية الشباب من مشاعر التوحّش والرغبـــــة الجامحــة في القطيعــــة مع محيطه والحلـــم الدائم بخلع هويته والانطلاق في الفلاة لا يلوي على أرض أو موطن أو أسرة. على سبيل المثـــــال تشكّلت لجنة لمكافحـــــة الانتحار أحدثتها وزارة الصحة سنــــة 2015 لكن لم نر حتــــى الآن ثمار عملها. الشباب لا تُحرّكه إلا المشاريع الكبرى ولا تُوقد حماسته سوى الأفكار العظيمة، بينما نحـــــن غارقون اليوم في سؤال وجــــودي: من أين نأتي بالمال لصرف الزيادات؟
قبل هذا وذاك هناك رقمٌ لا بدّ أن يظل ماثلا أمام ناظرينا مفادُه أنّ أكثر من مئة ألف تلميذ ينقطعون عن التعليم سنويا، بحسب وزير التربية، وأنّ نسبة الأمية في بلادنا تُقدّر حاليا بـ 18 في المئة بعدما نجحنا في القرن الماضي في محوها تماما. المُنقطع عن التعليم اليوم هو مشروع لصّ أو داعشي أو مُهرّب، أو في أحسن الحالات مهاجرٌ غير شرعي غدا. فهل سنتمعّن في هذه الحقائق ونستيقظ من السُبات قبل فوات الأوان؟.
رشيد خشانة
- اكتب تعليق
- تعليق