ضحى طليق: بغـداد كمـا شـاهدتـهـا
قادمون يا نينوى .... الموصل تتحرر .الحشد يجمعنا ..لبيك يا حسين .... شعارات وعبارات ولافتات وأعلام اعتلت المباني وارتسمت على الجدران في أحجام وألوان مختلفة، وهي أول ما يستقبلك ما أن تطأ قدماك أرض العراق بدءا بالمطار. شعارات وعبارات تقرأ فيها مشاغل العراقيين وتعطي صورة حية عن إيقاع الحياة في بغداد التي وصلها الفريق الصحفي التونسي يوم 20 أكتوبر.
تحتمي العاصمة بغداد وخاصة المنطقة الخضراء في جادرية الكرادة، حيث يسكن القادة السياسيون والأمنيون وعائلاتهم وراء جدران سميكة من الاسمنت المسلح والحواجز الأمنية وكاميرات المراقبة، تحرسهم الفرق الأمنية والعسكرية المدججة بالسلاح. الحواجز في كل مكان والمراقبة الأمنية المتشددة في مختلف الطرقات والمنافذ ومداخل الفنادق والمطاعم والمؤسسات كيف لا وما زال شبح الهجوم الارهابي على المجمع التجاري (مول الكرادة) قلب العاصمة بغداد الذي راح ضحيته مئات الأبرياء ليلة عيد الفطر يخيّم على النفوس ويلقي بظلاله الحزينة على المكان.
تفجير تبنّى التنظيم الإرهابي «داعش» مسؤوليته على غرار بقية الجرائم التي نفّذها، وكان وراء سخط الشعب العراقي وتسريع المسؤولين باتخاذ القرار الحاسم لخوض المعركة ضدّه. فقبل وصول الفريق الصحفي التونسي إلى العراق بـثلاثة أيام وتحديدا يوم 17 أكتوبر 2016، أعطى رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي إشارة انطلاق تحرير مدينة الموصل مركز محافظة نينوى شمال بغداد التي سيطر عليها التنظيم منتصف 2014، بعد انسحاب مريب للقوات العراقية. فباتت هذه المدينة التي تبعد حوالي 480 كلمترا شمال بغداد ترزح هي وسكانها منذ أكثر من تحت سيطرة التنظيم الإرهابي الذي يقتل أبناءها ويسبى نساءها وهجّر الآلاف من سكانها.
قادمون يا نينوى ..شعار معركة تحرير الموصل
ترتفع الأناشيد الحماسية عبر مكبّرات الصوت المنبعثة من المحلاّت والدّكاكين الممجّدة للحشد الشعبي الذي يخوض إلى جانب باقي القوات الأمنية والجيش ومختلف تنظيمات المتطوعين المنتمية للعشائر معركة تحرير الموصل التي يعتبرها العراقيون معركة كرامة ومعركة مصير فرفعوا لها شعارات «قادمون يا نينوى»، «الموصل تتحرّر»، «الحشد يجمعنا».
يقول المهندس أسعد.ص الذي التقيناه ذات مساء في أحد النوادي التي تقصدها العائلات العراقية للترفيه إنّ «الموصل تعتبر تحدّيا لكل العراقيين، فالإرهابيون داسوا على كرامة هذا الشعب ولا بدّ من استرداد الكرامة، لقد أذلّوا الجيش وما حدث ما كان ليقع لولا فساد القيادات بالمحافظة» على حدّ تعبيره.
تزامنت رحلة الفريق الصحفي التونسي إلى العراق أيضا مع إحياء عاشوراء، ذكرى استشهاد سيّدنا الحسين حفيد رسول الله صلّى عليه وسلّم، مناسبة يحييها العراقيون بكثير من الحزن والألم وتنتظم مواكب العزاء وتلتحف عديد المباني وواجهاتها باللون الأسود، وبالصّور المجسّمة لسيدّنا الحسين وأفراد عائلته. والملفت للانتباه في كلّ هذا أنه بالرغم من أجواء الحزن من جهة (عاشوراء) والحرب من جهة أخرى (الموصل)، وما تعيشه العاصمة بغداد من تعزيزات أمنية وحواجز كبيرة تتسبّب في تعطيل حركة المرور لساعات، خاصة في ساعات الذّروة وعلى امتداد اليوم إلا أنّ سكان العاصمة بغداد يتحولون كل يوم إلى وظائفهم وأعمالهم في الصباح الباكر وبنفس الحماس حيث، تفتح المحلات وتتوفّر بها كل المواد والبضائع.
يختلف نسق الحياة خاصة بالليل من حي إلى آخر، فكلما كانت الحماية والتعزيزات الأمنية كثيفة على غرار أحياء الكرادة الجادرية، المنصور، الأعظمية وجد المواطنون فرصة للخروج إلى السّمر في المقاهي وتناول العشاء في المطاعم والمحلات المؤمّنة على ضفاف دجلة، أما باقي الأحياء الشعبية فتخبو فيها الحركة ليلا، مثلها مثل عشرات المقاهي والمطاعم العائلية التي كانت منتشرة على شارع أبو نواس على ضفاف دجلة وتختص في سمك المسقوف المشوي فقد أقفلت جميعها تقريبا لأنها مكشوفة ويصعب تأمين حياة الناس الذين يتوافدون عليها.
شارع المتنبّي ....خزّان الفكر العالمي
أجواء الحرب والدمّار والعدوان التي مّر ويمّر بها العراق منذ عشرات السنين... العراق لم تطفىء لدى العراقيين جذوة حبّ المعرفة وغذاء الفكر والروح المعهودة لديهم، فقد حافظوا على عادتهم في التوافد كل يوم جمعة كبارا وصغارا... نساء شيوخا... كهولا وأطفالا على شارع المتنبي الذي يعد خزّان الفكر العالمي، هذا الشارع الذي تنبعث من ثناياه رائحة التاريخ، ويقع على الضفة الشرقية من نهر دجلة وسط العاصمة العراقية، بغداد، وليس بعيدا عن منطقة الميدان وشارع الرشيد، تنتشر على جانبيه ملايين الكتب، من مختلف الأجناس الفكرية والاختصاصات العلمية، من المعاجم إلى كتب التاريخ والتفاسير إلى الروايات البوليسية، وكتب الهندسة والفيزياء.
هذا الشارع الذي يعود تاريخه إلى العصر العبّاسي عندما كان مكانا للتأليف والترجمة، ورغم تعرّضه في 5 مارس 2007 لتفجير سيّارة ملغمّة ذهب ضحيّتها 30 شخصًا، وكان أولاد صاحب أشهر مقهى به المعروف باسم مقهى «الشاهبندر» الخمسة ضمن ضحاياه، بالإضافة إلى تدمير أقدم مكتبة في الشارع، «المكتبة العصرية»، التي يعود تأريخ تأسيسها إلى العام 1908، ولا تزال تغصّ كل صباح جمعة بالزوار ومريدي المعرفة.
تقول رواء .د المعيدة بالجامعة العراقية، إنّ مكتبة الجامعة لا تخلو من الكتب، لكن لهذا الشارع رونقه الخاص، فهو يعدّ خزّان الفكر البشري والإنسانية جمعاء، وكلما بحثت عن العملة النادرة وجدتها في هذا الشارع وبسعر أرخص من باقي الفضاءات.
هذا الشارع هو أيضا ملتقى الأدباء والشعراء والمثقفين والفنانين والإعلاميين العراقيين من مختلف الأفكار والثقافات والإيديولوجيات، التي تعلو أصواتهم في مقهى «الشهبندر» تعبيرا ودفاعا عنها.
القشلة...فضاء الحـوار والمناظرات الفكريّة
ليس بعيدا عن شارع المتنبي تنتصب ساعة قشلة بغداد المتميزة والتي تعد واحدة من أشهر آثار العاصمة بغداد. والقشلة كلمة تركية الأصل تعني المكان الذي يمكث فيه الجنود أو الحصن أو القلعة أو السراي ومقر والي الحكومة العثماني. في 2013 تولت محافظة (ولاية) بغداد، تطوير منطقة القشلة وساعتها التاريخية وتأهيلها بعد سنوات على إغلاقها لتكون صرحا تقام فيه النشاطات التي يتضمّنها مهرجان بغداد، عاصمة الثقافة العربية للعام 2013. ولعل أجمل ما اشتملت عليه الترميمات نصب بوابة حديديّة مشابهة لنصب قصر باكنغهام في لندن، باعتبار أنّ الساعة أصغر بعشر سنوات من عمر ساعة «بيغ بن» بلندن إلى جانب نصب 12 مدفعا قديما بجوار نهر دجلة. رافقت ساعة القشلة حياة العاصمة بغداد أكثر من قرن ونصف وكانت الشاهدة على كل الأحداث التاريخية والسياسية، يعود تاريخها لزمن نامق باشا الذي حكم في السنوات 1861 – 1863، لكنها لم تكتمل وتم إتمام البناية وإضافة طابق وبرج للساعة في زمن مدحت باشا الذي حكم في السنوات 1868-1871، وقد شهدت ساحة القشلة تتويج أوّل ملك للعراق في العصر الحديث وهو الملك فيصل الأول بن الحسين وذلك في 23 أوت 1921.
كل يوم جمعة وعلى غرار شارع المتنبي تزدحم ساحة القشلة وأروقتها بآلاف الزوار، حيث تتحوّل إلى منتدى ضخم تتجاور فيه المحاضرات الفكرية والسياسية مع القراءات الشعرية فضلا عن ورش الحرف اليدوية ورشات الرسم، والموسيقى والتصوير. في قلب الساحة انتصبت خيمة كبيرة للحشد الشعبي تعرض فيها صور الشهداء ومقتنياتهم الشخصية.
ساحة التحرير ..ساحة التعبير عن المطالب والاحتجاج
من شارع المتنبي يمكن العبور إلى ساحة التحرير مشيا على الأقدام وساحة التحرير هي إحدى الساحات الرئيسية في وسط مركز العاصمة بغداد وتقع في منطقة الباب الشرقي، شهدت منذ بداية السنة مظاهرات لعشرات الآلاف من العراقيين، المطالبين بالإصلاح ومحاربة الفساد ومحاسبة المفسدين..
سميت بساحة التحرير نسبة إلى التحرر من الاحتلال والأستعمار الاجنبي، ويزّينها على الجانب الشرقي منها نصب كبير يُعرف باسم نصب الحرية الذي صمّمه ونفّذه النحات العراقي جواد سليم.
أسبوع قضاه الفريق الصحفي وسط العاصمة بغداد، التقى خلاله بعدد من المسؤولين على رأسهم رئيس الجمهورية فؤاد معصوم، استمع إلى الناس وهمومهم ومشاغلهم كما تحول إلى مدينة الموصل حيث تجري عملية تحرير هذه المدينة ورافق قوات الشرطة الاتحادية إلى عين صفية أقرب نقطة من خط المواجهة مع عناصر التنظيم. المحصلة أنّه ورغم مرور أكثر من 30 سنة من الحروب والدمار... ...يواصل العراقيون تشبثهم ببلدهم ووحدة ترابه فهم مؤمنون بأنه رغم الآلام «لا يزال على هذه الأرض ما يستحق الحياة»..
ضحى طليق
- اكتب تعليق
- تعليق