المشهد السمعي البصري في تونس: تجهيزات مهرّبة وخروقات بالجملة
من الالتزامات الواردة في كراسات الشروط المتعلّقة بالحصول على إحداث واستغلال قنوات إذاعية وتلفزية سواء كانت خاصّة أوجمعياتية الالتزامات التقنية، ومنها ضرورة تطابق استغلال الطيف الترددي مع الشروط التقنية الضرورية المحددة.
وتُسلّم في ذلك شهادة تطابق تخصّ المواصفات الفنية لإشارات البثّ وتجهيزات الإرسال التي تضبطها الهيئات الدولية وفق معايير عالمية ومكان البثّ والحدّ الأقصى لقوّة البثّ ومواصفات وارتفاع أعمدة اللاقطات الهوائية والشروط الفنية الضرورية لضمان السلامة العامّة، وذلك إلى جانب التزامات أخرى ينبغي التقيّد بها لضمان جودة الرسالة الإعلامية.
ومركز البحوث والدراسات الاتصالية هو الجهة الرسمية التي تصدر شهادة في تطابق التجهيزات والمعدّات للشروط المذكورة وتسهر على مراقبتها. فهل احترمت كلّ القنوات هذه الالتزامات ؟ الجواب عن هذا السؤال هو قطعا «لا»، إذ لا تخفي مصادر عليمة وجود العديد من الإخلالات العديدة، خاصّة وأنّ معدّات وتجهيزات تقنية دخلت تونس زمن الفوضى والانفلات الأمني عن طريق التهريب دون أن توظّف عليها معاليم ديوانية ودون أن تخضع للمراقبة عند تركيزها في المحطات الإذاعية والتلفزية، ويتعلّق الأمر بالخصوص باللاقطات الهوائية التي استعملت في البثّ العشوائي.
وتشير ذات المصادر أنّ المراقبة الدقيقة للمعدّات والتجهيزات ستفضي حتما إلى رفع خروقات جسيمة تستدعي سحب الإجازات، إلى جانب تجاوزات أخرى في مجالات الملكية الفكرية والأدبية والمضامين الإعلامية والبرمجة والشفافية الماليّة.
هكذا يتراءى لنا الوجه والقفا في المشهد السمعي والبصري في تونس اليوم، مشهد يطغى عليه تضخمّ في عدد القنوات تجاوز ما هو موجود في بلدان عربية كالمغرب الذي يعدّ 10 قنوات تلفزية و20 محطّة إذاعية والأردن الذي يضمّ القطاع الإذاعي والتلفزي فيه 9 منشأة مرئية و38 منشأة مسموعة. ولم يولّد هذا التضخّم، كما سبق أن بينّا، تنوّعا في المضامين بقدر ما أدّى إلى رواج أنماط برامجية، لا سيّما في المجال التلفزي الخاصّ، تقوم على منطق الربح، حتّى ولو كان ذلك على حساب أهداف الرسالة الإعلامية، من خلال البحث بكلّ الطرق عن استقطاب المشاهد، مع كلّ ما في ذلك من سقوط في الابتذال والاسفاف والسطحية، في العديد من الأحيان، دون اعتبار لمتطلبات الموضوعية واحترام لقواعد المهنة ومراعاة للذوق السليم والأعراف الاجتماعية .. عيوب عدّة تتزيّن بمساحيق الإبهار، في غياب مضامين هادفة تفتقر إلى الجودة والتجديد في أساليب العرض والتناول.
ويظلّ النقص الفادح في تخصّص القنوات أحد مواطن الضعف الأساسية في المشهد السمعي البصري التونسي، وقد سعى المرفق العمومي إلى تداركه من خلال إنشاء إذاعة ثقافية وإذاعة إخبارية لم ينطلق بثّها بعد. وفي هذا الصدد، أعلن النوري اللجمي أنّ الهايكا ستتّجه في المستقبل نحو إطلاق طلب عروض لإحداث إذاعات أو تلفزات متخصّصة بمواصفات محدّدة وفي جهات معيّنة لم تشملها التغطية. فلعلّ من المفارقات التي تطبع المشهد السمعي والبصري الوطني انعدام التوازن في تغطية الجهات إذاعيّا من خلال محطّات خاصّة وجمعياتية، إذ أنّ مناطق الشمال الغربي والعديد من مناطق الجنوب الغربي تفتقر إلى مثل هذه المحطّات، على الرغم من توفّر ذبذبات في الطيف التردّدي. في الظاهر إذا يبدو المشهد السمعي والبصري مصطبغا بالتعددية في مناخ تنافسي، ولكنّ هذه التعدديّة لم تفض، في تقديرنا، إلى التنوّع المنشود، بل قد تكون أدّت إلى نوع من تسطيح للذوق العام وإلى بروز تجاوزات وإخلالات، في ظلّ ضعف التنسيق بين المتدخّلين في القطاع والتردّد في تطبيق القانون على المخالفين تحت وطأة ضغوط جهات متنفّذة، فضلا عن هشاشة الأوضاع المهنيّة وتأزّمها في عدد من القنوات التي يجد العاملون فيها أنفسهم مهددين بـالطرد، كما هو الشأن خاصّة بالنسبة إلى راديو كلمة، وانعدام قدرة جزء من المنشآت على الاستمرار في النشاط في مشهد لا بقاء فيه إلّا لمن كان أكثر شطارة ودهاء وملاءة ماليّة.
تكمن الإشكاليات الحقيقية والأكثر خطورة في الزوايا المعتّمة لعالم يكتنفه كثير من الضبابية والغموض. فغياب الشفافية بشأن الموارد الماليّة لعديد القنوات والدور الخفي الذي تلعبه لوبيات المال والسياسة في توجيهها هما من المخاطر التى لا تغيب تأثيراتها عن العقول البصيرة ، في سياق مرحلة الانتقال الديمقراطي التي تعيشها تونس اليوم. فما هي الآليات الإضافية التي يتعيّن وضعها، في مستوى التشريع والمراقبة، لمزيد تنظيم القطاع السمعي والبصري وحمايته من كلّ أشكال الفوضى وللحيلولة دون استعمال مقنّع للإعلام في المعارك السياسيّة والانتخابية، خدمة لأجندات حزبية ومصالح اقتصادية؟ ذلك هو السؤال الذي لا مناص من طرحه اليوم بغية إيجاد الحلول الناجعة للمشاكل التي يعاني منها هذا القطاع.
عبد الحفيظ الهرقام
لقراءة المزيد:
المشهد السمعي البصري في تونس: الفوضى والشفافيّة المفــقودة
المشهد السمعي البصري في تونس: التوازن المفقود بين الكمّ والكيف
- اكتب تعليق
- تعليق