قــــانــون جـــــاستـــا... أو حـكــم بقــراقــــوشا الأمريكي المعاصر؟

قــــانــون جـــــاستـــا

«إن الأشخاص أو الجهات أو الدول التى تساهم أو تشارك فى تقديم دعم أو موارد سواء بشكل مباشر أو غير مباشر لأشخاص أو منظمات تشكل خطرا داهما وارتكاب أعمال إرهابية تهدد سلامة مواطني الولايات الأمريكية أو أمنها القومي أو سياستها الخارجية أو اقتصادها، يُتَوَقّع جلبها للمثول أمام المحاكم الأمريكية للرد على أسئلة حول تلك الأنشطة»

هذا ما جاء في الفقرة الخامسة من المادة الثانية من قانون «جاستا JASTA» الذي اعتمده الكونجرس الأمريكي يــوم الاثنين 12 سبتمبر 2016 بالتزامن مع حلول الذكرى الخامسة عشر لأحداث 11 سبتمبر 2001.

ولفظة «جاستا JASTA» هي اختصار باللغة الانجليزية لاسم «قانون العدالة ضد رعاة الإرهاب: Justice Against Sponsors of Terrorism Act» الذي حفّت بإطلاق مشروعه، ثم بالتحضير لمناقشته، ثم بمناقشته واعتماده ومحاولة الرئيس الأمريكي الفاشلة تجميد تشريعه باستخدام حقّ النقض، ضجة كبيرة، فهو كما يؤكد خبراء القانون الدولي، يهدم أساسا من الأسس الراسخة في القوانين والأعراف الدولية حيث أنه ينزع عن الدول الحصانة السياسية التي كانت، إلى حد إصداره، تتمتع بها وتمنع من محاكمتها وإخضاعها لولاية قضاء دولة أخرى.

وقد أجمع الملاحظون على أن المقصود بهذا القانون أولا وبالذات هو المملكة العربية السعودية... حيث أنه سيسمح لمتضرّري أحداث  هجمات 11 سبتمبر 2001 أو أُسَرِهِمْ برفع دعاوى قضائية عليها والحصول منها على تعويضات عن الأضرار التي لحقت بهم.

وبالفعل فإن القانون أدّى منذ أن كان مجرّد مشروع إلى إحداث حالة من التوتّر في العلاقات بين واشنطن والرياض التي وصل بها الأمر الى حد التهديد ببيـــع ما يقدّر بـ750 مليار دولار من استثماراتها في الولايات المتحدة ومن الأصول التي تملكها في سندات الخزينة الأمريكية للأوراق المالية ...

وبقطع النظر عن أن البعض يقدّر منذ الآن حجم التعويضات التي يُتَوَقَّعُ أن تحكم بها المحاكم الأمريكية لمتضرّري الأحداث بأربعة أضعـــاف هذا المبلـــغ أي ما يعادل ثلاثة آلاف مليار دولار وهو ما سيرهن الاقتصاد السعودي لعشرات السنين، ومهما تكن التطورات التي يُحْتَمَلُ أن تعرفها حالة التوتر بين واشنطن والرياض في الفترة المقبلة، فإنني أعتقد أن التركيز المتعمّد على أن القانون يستهدف المملكة العربية السعودية يحجب عن الأنظار خطورة هذا القانون الذي ينبغي أن نشدّد على أنّه، كما تمّت صياغته، ينطوي على قدر كبير من المكر، فهو لا يتطرق إلى أحداث 11 سبتمبر 2001 ولا إلى أي دولة بعينها، مما يعني أنه يشرّع مستقبلا لمحاكمة أي دولة من دول العالم في أي حادثة من حوادث الإرهاب (أو ما تعتبره واشنطن إرهابا) ارتكبت في أي وقت من الأوقات، بما في ذلك الحوادث السابقة على صدور القانون...

ويخشى الخبراء أن تكون لهذا القانون تداعيات وخيمة على العلاقات الدولية وعلى الاقتصاد العالمي، ذلك أنه من المتوقّع أن تقوم دول العالم أو على الأقل بعضها، عملا بمبدإ المعاملة بالمثل، بإقرار تشريعات مماثلة للقانون الأمريكي من أجل محاكمة الولايات المتحدة على ما اقترفته من «مآس» لا تحصى ولا تعدّ في شتّى أنحاء العالم.

وإذا حدث ذلك، فإنه سيؤسّس لحالة من الفوضى التشريعية والسياسية العارمة التي ستنجم عن مناخ الشك والقلق اللذين سيدفعان مختلف دول العالم إلى اعتماد قوانين وقوانين مضادّة وسياسات وسياسات مضادّة من أجل تحصين نفسها ومعاملة خصومها بمثل ما يعاملونها به...

أما من الناحية الاقتصادية، فإنّه سيؤدي إلى خلخلة النظام الاقتصادي العالمي خاصة وأنه من المُتَوَقَّع أن يفضي إلى حجز أموال دول تجري مقاضاتها وقد تمتد محاكماتها في قضايا قد تكون ثابتة وقد تكون كيدية لفترات طويلة، وهو ما سيؤدّي إلى الإضرار بحقوق ومصالح شعوب كاملة من أجل إرضاء بعض الأفراد...

وفي رأيي، فإن إصدار هذا القانون الذي سيمنح الولايات المتحدة «حقا إضافيا» للتدخل فى الشؤون الداخلية لبقية دول العالم، يعني أن واشنطن ما تزال، بعد مرور خمس عشرة سنة على أحداث 11 سبتمبر 2001 التي ينبغي أن نذكّر بأن الكثير من الغموض لايزال يلفّها، ماضية قدما في سياسة الانتقام والابتزاز التي دشّنها الرئيس جورج بوش الصغير مباشرة بعد هذه الأحداث.

ونحن جميعا نتذكّر كيف وظّفت الولايات المتّحدة هذه الأحداث في خدمة أهدافها الاستراتيجية...

فبحجّة هذه الأحداث، عمدت إلى فرض ترسانة من القوانين التي جعلت كل التحويلات المالية الدولية في العالم تمر عبر بنوكها بدعوى مراقبة الأموال حتى لا تذهب إلى التنظيمات الإرهابية،  ولا يدري أحد كم جنت الولايات المتحدة من الأموال من هذه القوانين المجحفة التي أثبتت الأحداث، خاصة في العراق وسوريا وبعد قيام «الدولة الاسلامية في العراق والشام» أنها لا تجدي نفعا في مكافحة الإرهاب والحيلولة دون تمويله.

ولعله ليس غريبا أن نلاحظ في هذا السياق أن مشروع قانون «جاستا» طُرِحَ أوّلَ مرة في ديسمبر 2009، أي سنة بعد الأزمة الاقتصادية والمالية التي هزّت الولايات المتحدة الأمريكية والعالم سنة 2008.

وبحجّة هذه الأحداث، قامت الولايات المتحدة بشنّ حروبها المدمّرة على أفغانستان ثم على العراق ثم على سوريا، وهو ما أتاح لها التّمركز في المنطقة بصورة غير مسبوقة، ومكّنها من ضمان أمن حليفتها اسرائيل لعدّة عقود قادمة...

أما عن مبيعاتها من الأسلحة لدول المنطقة فحدّث ولا حرج، إذ أنها تعادل سنوات من أيام العمل لمصانع الأسلحة الأمريكية، ومئات المليارات من الدولارات...

وبحجّة هذه الأحداث دوما،  سوّغت  واشنطن سياستها الرامية إلى إقامة ما سمّته «الشرق الأوسط الجديد»، بالاعتماد على نظرية «الفوضى الخلاّقة» التي نجحت في الترويج لها ثمّ في تطبيقها فأشاعت  الفوضى في المنطقة العربية مشرقا ومغربا وخليجا وهي الآن تسعى إلى إعادة تشكيلها بما يخدم مصالحها الآنية والمستقبلية.

على أن أخطر ما ينطوي عليه قانون «جاستا» في نظري هو أنه يأتي ليؤكد أن «المكر الأمريكي» لا حدود له... فلقد منح هذا القانون   المحاكم الأمريكية «حق وقف الدعوى ضد أية دولة أجنبية، إذا ما شهد وزير الخارجية بأن الولايات المتحدة تشارك بنيّة حسنة مع الدولة الأجنبية المدّعى عليها بغية التوصل إلى حلول للدعاوى المرفوعة على الدولة الأجنبية، أو أي جهات أخرى مطلوب إيقاف الدعاوى المرفوعة بشأنها»...

وواضح من هذا الحقّ أن قانون «جاستا» لم يأت لإقامة العدل أو لإحقاق الحق، وإنما جاء لتمكين الولايات المتحدة من آلية جديدة لممارسة ما تريده من ضغوط على الدول حتى ترضخ لما تمليه عليها.

وكل ذلك ينبغي أن يدفع دول العالم إلى الوقوف في وجه هذا القانون الماكر خاصّة وأن واشنطن ما تزال تصرّ على عدم تعريف الارهاب حتى يظل مفهومه مطّاطا يتمدّد ويتقلّص كما تريد له أن يتمدّد وأن يتقلّص على غرار ما نراها تفعله الآن مع التنظيمات الإرهابية في سوريا التي قد تتحول بــ«قدرة أمريكا» إلى تنظيمات معارضة من حقّها بل من واجب «المجتمع الدولي» أن يدعمها بالمال وأن يمدّها بالعتاد وحتى بالمرتزقة  القادمين من أبعد أصقاع الأرض. والتحرّك في مواجهة هذا القانون يمكن أن يستند إلى ما قاله الرئيس الأمريكي وكبار المسؤولين في الإدارة الأمريكية عنه... فلقد أكد الرئيس باراك أوباما أن إصداره «يضع مفهوم الحصانة السيادية في خطر اذ أنه يفسح المجال أمام حكومات أخرى لمقاضاة قرارات وأفعال الإدارة الأمريكية في مختلف بقاع العالم». وفي حوار مع مجموعة من الجنود الأمريكيين السابقين والمباشرين، اعتبر أن إصدار قانون «جاستا» يعنى «أن المسؤولين الأمريكيين حول العالم قد يكونون مهدّدين بالمعاملة بالمثل»... كما حذّر من أنه «يفتح الباب أمام خصومات مع دول عدة، من بينها حلفاء تاريخيون للولايات المتحدة».

ومن جانبه وصف وزير الدفاع آشتون كارتر بـ«الفكرة السيئة».

أما مدير المخابرات المركزية «سى. آى. إيه»، جون برينان، فقد حذّر من أن القانون ستكون له «تداعيات خطيرة» على الأمن القومي الأمريكي، وقال إن «النتيجة الأشد ضررًا ستقع على عاتق مسؤولي الحكومة الأمريكية الذين يؤدون واجبهم فى الخارج نيابة عن بلدنا»... والمقصود بالتحرّك بالاستناد إلى هذه الأقوال، هو أن تعمل الدول العربية والدول الإفريقية وهي المستهدفة والمهدّدة أكثر من غيرها بهذا القانون، على أن تحوّل «المخاوف الافتراضية» التي عبّرت عنها إلى حقائق ميدانية ملموسة.

ومعنى ذلك أن هذه الدول لا ينبغي، كما فعلت حتى الآن، أن تقف عند الشّجب والإدانة والتعبير عن الاعتراض والرفض بل لا بدّ أن تتخذ مواقف  فاعلة واجراءات عملية تبيّن للأمريكيين أن ما حذّر منه رئيسهم وكبار مسؤولي إدارتهم لم يكن مجرد كلام...

وربما كانت المرحلة الانتقالية التي يعيشها العالم الآن من أنسب المراحل للإقدام على فعل ذلك، ففي الوقت الذي بدأت فيه التعددية القطبية تتأكد وتترسّخ من جديد بالتدريج، أضحى هامش المناورة والمداورة أوسع ولا بدّ من استغلاله في التوقّي من مفاجآت الآتي...

وانطلاقا من خيبة الأمل الكبيرة التي أفضى إليها إحداث المحكمة الجنائية الدولية التي بات الاتحاد الإفريقي يهدّد بالانسحاب منها لأنها اختصت في ملاحقة القادة الأفارقة دون غيرهم، سيكون من واجب الدول العربية والدول الإفريقية أن تعمل على استباق الأحداث وأن تتجنّب في تعاطيها مع قانون «جاستا» الأمريكي تكرار نفس الخطإ الذي ارتكبته في التعاطي مع المحكمة الجنائية الدولية التي تحوّلت إلى واقع تصعب زحزحته... وربما كان من الممكن في هذا النطاق عكس الهجوم الأمريكي من خلال التأكيد على حاجة العالم إلى فك ألغاز أحداث 11 سبتمبر 2001، فمثلما يقول الصحافي عادل الحربي في مقال صادر في جريدة «الرياض» السعودية«لماذا لا نتحدّث عن حاجة العالم إلى مزيد من الإيضاح حول الفريق المكلّف بالتحقيقات في أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وكيف تمّ تشكيله؟ ومن هم أعضاء هذا الفريق؟ وكيف تمّت التحقيقات؟ وهل تمت في غوانتانامو أم في سجن أبو غريب أم في ساحة حرة تحت الشمس؟».

إنها أسئلة جديرة بالطّرح، وأعتقد أن وقت طرحها قد حان... وإن لم نفعل فلا نَلُومَنَّ إلا أنفسنا إن كان قانون «جاستا» سيكون بمثابة حكم قراقوش الأمريكي المعاصرالذي سيتولى تنفيذه رئيس جديد اسمه دولاند ترامب تفاجأ العالم صباح الأربعاء 09 نوفمبر 2016 بانتخابه، بعد أن تخلّلت حملته الانتخابية مقولات غوغائية استفزازية متهوّرة لن تلبث أن ترفع من منسوب التوتر بين الولايات المتحدة وبين العالم وخاصة بينها وبين الإسلام والمسلمين إن حاول تطبيقها تجسيما لشعار «إعادة العظمة إلى أمريكا» الذي لا شكّ أنه أغرى الشعب الأمريكي بالتصويت له بكثافة.

محمد ابراهيم الحصايري

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.