‭ ‬عبد‭ ‬الحفيظ‭ ‬الهرقام: أزمة‭ ‬تونس وفرص‭ ‬التّجاوز

‬عبد‭ ‬الحفيظ‭ ‬الهرقام

في تجارب الشعوب والأمم ما يدعو إلى النظر والتحقيق في ما يتعيّن استخلاصه منها من دروس وعِبر، في زمن المحن والأزمات. ولعلّنا في تونس اليوم، والبلاد تعيش أوضاعا حرجة على الأصعدة الاقتصادية والمالية والاجتماعية وتكابد من أجل إنجاح مسارها الديمقراطي وحمايته من مخاطر الفوضى والانتكاس، في أمسّ الحاجة إلى الاستهداء بتجارب دول شبيهة بنا، استطاعت، على صغر حجمها الجغرافي وضعف وزنها السكّاني ونُدرة مواردها الطبيعية، أن تغالب العوائق والمكبّلات وأن ترسي، في غضون بضعة عقود، قواعد مجتمع ناهض واقتصاد مزدهر.

ومن الأمثلة العديدة التي يمكن أن نسوقها، في هذا الصدد، مثال فنلندا، هذا البلد الأوروبي الذي أقيمت فيه، غداة الحرب العالمية الثانية، المدارس ومحاضن الأطفال حول المصانع لتمكين النساء من العمل، تعويضا للآلاف من الرجال الذين سقطوا ضحايا في المعارك العسكرية وشُحذت فيه الهمم والعزائم من أجل البناء والتحديث، فكانت بذلك بداية نهضة شاملة، قوامها نظام تربوي رائد، وصناعة عصريّة راهنت منذ نهاية الأربعينات على تكنولوجيات الاتصال والمعلومات، حتّى أضحت فنلندا تتصدّر باستمرار قائمة الدول في مجالات الصحّة ونوعية الحياة والتعليم والدينامية الاقتصادية والبيئة السياسيّة.

وما كان لهذه الإنجازات أن تتحقّق لولا الوعي المواطني بضرورة تقاسم التضحيات بين أفراد المجموعة وأداء الواجبات وخاصّة الواجب الجبائي وصواب الخيارات الكفيلة بتجميع الطاقات وتعبئتها من أجل تجسيمها ولولا كذلك شفافية الإدارة والحوكمة الرشيدة لقادة أكفّاء كانوا يحملون رؤى ومشاريع لنمط تنموي متفرّد.

ولاشكّ أنّ أهمّ ما يمكن استخلاصه من عِبر من المثال الفنلندي هو أنّ الأزمات، مهما تعاظمت مخاطرها، تحمل في طياتها فرصا ينبغي استثمارها لاجتناب عوامل السقوط والانحدار وتغيير الواقع نحو الأفضل، بكلّ ما يتطلّبه ذلك من ثقة في النفس وتفاؤل بالمستقبل. وقد علّمنا التاريخ أنّ الأمم الراقية غالبا ما تولد من رحم التحدّي في زمن الصعاب.

يحملنا هذا على التساؤل عمّا إذا كانت الطبقة السياسيّة ومختلف الأطراف المشاركة في تصريف الشأن العامّ في تونس قادرة اليوم على تبديد ما استبدّ لدى شعب محبط من شعور بالخوف من المستقبل وإشاعة الأمل في صفوف شرائح واسعة من التونسيين ملّوا من وعود لم تحقّق، أطلقتها الحكومات المتعاقبة منذ 14 جانفي 2011، وذلك بتفكيك مغالق أزمة مستفحلة، لعلّها الأكثر خطورة منذ الاستقلال، وباعتماد منهجية ناجعة لتجاوزها، وفق خطط وبرامج تأخذ في الاعتبار العاجل والآجل.

باستطاعة تونس أن تواجه التحدّيات الماثلة أمامها، شريطة إقرار الخيارات الصائبة وزرع الثقة في النفوس ومكافحة الفساد والتهرّب الجبائي والتقاسم العادل للتضحيات بين التونسيين وتجذّر ثقافة المواطنة لديهم، علاوة على الإسراع بوضع إصلاح منظومتي التربية والتكوين المهني موضع التنفيذ، واعتماد اقتصاد المعرفة والقطاعات ذات القيمة المضافة رافعاتٍ للنموّ، في إطار منوال جديد للتنمية، يكرّس العدالة الاجتماعية ويتيح فرص الشغل لطالبيه.

فهل تكون الأزمة دافعا للوعي الجماعي حتّى تصيغ تونس، بما تمتلكه من طاقات بشريّة ونخب كفأة،  مشروعا حضاريّا شاملا يكون أنموذجا في محيطها العربي والإسلامي؟ ذلك هو المؤمّل.

عبد الحفيظ الهرقام

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.