ترامـب رئيـسـا: هل هو زحف اليمين المتشدّد في العالم؟
إنّ لسان حال العالم يقول : ماذا حدث للناخب الأمريكي ؟ وللإجابة على هذا السؤال علينا أنّ نذكّر بأنّ الولايات المتحدة الأمريكية قد عاشت خلال الأشهر الماضية واحدة من أسوأ الحملات الانتخابية على مدى تاريخها. لقد هيمنت الفضائح بشتّى أشكالها على الحملة والأسئلة التي طرحتها. فغاب الحوار الجدّي، وفرضت الشعبوية نفسها محرّكا رئيسا للمشاعر دون العقول.
حاول الديمقراطيـون وحــــاولت مرشّحتهم الانتقال بالمعركة إلى الميدان الذي لا يتقنه ترامب، أي الحوار الجدّي والنقاش العقلاني. ولكنّ الفشل كان حليفهم، لأنّهم اصطدموا بعوائق موضوعية وأخرى ذاتيّة تطرح بإلحاح إشكالية العقلانية في زمن ثورة المعلومات. ويجمع المختصّون على أنّ الانفجار الكمّي للمعطيات يعيق التفكير الموضوعي، ويفسح المجال أمام شكل جديد من أشكال التيه النفسي. فتراكم المعلومات يرهق المواطن العادي ، ويدفع بالكثيرين إلى ردّة فعل سلبيّة من خلال الانكفاء على الذات والاكتفاء بالحلول التبسيطيّة التي توهم بمنح معانٍ كليّة يمكن من خلالها الاطمئنان إلى الفهم. وقد نجح ترامب في تسويق فكرة بسيطة مفادها أنّ مشاكل الولايات المتحدة تعود كلّها إلى هيمنة هوليغرشية المال والسياسة على القرار الفيديرالي، وأنّ من واجب الشعب التصدّي لهذه القوّة الخفيّة التي قطعت مع المصلحة العامّة خدمة لغاياتها الضيّقة.
فشلت حملة هيلاري كلينتون في إقناع الناخبين بضعف هذه النظريّة، فهي لم تأت بتصوّر مضادّ يمكن أن تبني على أساسه تعبئة لمشاعر إيجابية تمنح الأمل. فقد اطمأنّت كلينتون إلى أسبقيتها باعتبارها مرشّحة النخب الـكلاسيكية. ودعّم تلك الطمأنينة سراب استطلاعات الرأي وإغراء التحاليل السياسية التي لم يحمل أصحابها دونالد ترامب محمل الجدّ. وتلك ردّة فعل سلبية ظهرت معالمها من خلال شيطنة مرشّحة الديمقراطيين لمنافسها مع الاكتفاء بالتأكيد على عجزه عن إدارة شؤون البلاد. وهو موقف دفاعي سعى إلى الحفاظ على أسبقيّة تآكلت بمرور الأيّام. وكان البيت الديمقراطي يحترق، وأصحابه فرحين لأنّ المفتاح في جيوبهم. ويبقى السؤال : من صوّت لترامب ؟ وللجواب عليه ينبغي أن نعترف بأنّ مرشّح الحزب الجمهوري ضرب مثلا ساطعا عن الثورة التي يشهدها عالمنا في ما يخصّ مقبولية الخطاب السياسي لدى المواطن العادي .وهي الإشكالية الأهمّ على المدى المتوسّط والبعيد لأنّها ترتبط بطبيعة الحدود التي ينبغي أن ينضبط لها الخطاب السياسي في إطار المنافسة الديمقراطية. وفي هذا السياق، يكون فوز ترامب أبرز تجسيد للتغيير الذي تشهده أركان هذا الخطاب في كلّ الديمقراطيات تقريبا.
فعدم انضباط خطابه لأدنى معايير الاحترام والكفاءة والجديّة لم يقابل بردّة الفعل المتوقّعة في بلد ذي تقاليد ديمقراطية عريقة، إذ لم يعاقبه الرأي العامّ بالتعامل معه على أنّه ظاهرة هامشيّة وشاذّة. بل إنّه تبنّى حلولا التبسيطيّة لأكثر المشاكل تعقيدا، كالعلاقات الدوليّة ومسألة الهجرة ومستقبل الهيمنة الأمريكية. وليست باقي الدول الديمقراطية بمعزل عن سيناريو مشابه. ومن ذلك توقّع العديد من الملاحظين حضورا قويّا لأقصى اليمين في الانتخابات الفرنسية للعام المقبل، ممثّلا في مارين لوبان وحزب الجبهة الوطنيّة. وهذا الانحراف عاديّ في السياسة، إذ أنّ الشعبوية أسّ فيها قديم قدمها. ولكنّه يمتدّ اليوم بشكل إمبريالي بحيث لم يعد مجرّد أداة تأثير في إطار ترسانة من تقنيات الخطاب. فالشعبوية ، كما ظهرت في خطاب ترامب، قد تحوّلت إلى غاية جوهريّة لا منافس لها، من دون أن يكون لمثل هذا الانحراف أيّ أثر سلبيّ على شعبيّة السياسي المذكور، بل على العكس ، فقد ظلّ ترامب ينتقل بالملاحظين من مفاجأة إلى أخرى في نطاق نسق تصاعدي انتهى به إلى البيت الأبيض.
ويعتبر انتصاره هذا تجسيدا لهيمنة مخاوف عميقة على قطاعات واسعة من الشعب الأمريكي ترى في نفسها ضحيّة العولمة والانفتاح الاقتصادي. ويمكن اختصار هذه المخاوف في ثلاثة عوامل أساسيّة، أوّلها أنّ البلد يواجــــه خطر فقدان امتيازاته كقوّة مهيمنة بحكم بروز منافسين إقليميين ودوليين. وثانيها أنّ طبقته الوسطى تخشى من خطر تراجع وزنها بسبب مخلّفات الأزمة الاقتصادية وتفاقم الفوارق الاجتماعية. وثالثها أنّ المواطن الأمريكي الأبيض، خاصّة إذا كان بعيدا عن الواجهات الساحليّة في الشرق والغرب، يشعر بتهديد إثنيّ ولغويّ ناجم عن الضغط الديمقراطي الذي تفرضه الأقليّات المختلفة والهجرة الوافدة. وهي عناصر أضرّت كثيرا بعلاقة الحزب الديمقراطي بقواعده الشعبية.
فقد نجح الجمهوريون في تصويره على أنّه أداة النخب المعولمة. وقد احتدّت الأزمة بين نخب الديمقراطيين وبعض هذه القواعد إثر تسريبات الويكيليكس التي أثبتت انحياز إدارة الحزب لهيلاري كلينتون على حساب بارني ساندرس Bernie Sanders الذي مثّل الجناح الشعبي للديمقراطيين إبّان الانتخابات التمهيدية من أجل مرشّح الحزب. وهو ما دعّم رواية ترامب التي صوّرت كلينتون على أنّها مرشّحة النخب بامتياز. ولم يستوعب أبرز المحلّلين خطورة هذا الشرخ الذي فصل بين المكوّنين الأساسيين للحزب الديمقراطي، ألا وهم النخب التقدّمية التي تعتبر المستفيد الأكبر من العولمة، وممثّلو الطبقات الشعبية الذين كانوا يفضّلون الطابع التقدّمي للديمقراطيين على العقلية المحافظة للجمهوريين. وهي الصورة النمطية التي نجح ترامب في كسرها. لقد وقع الزلزال إذا. وهو حدث لا يمكن بأيّ حال من الأحوال فصله عن زلزال آخر كان قد هزّ أركان البيت الأوروبي بعد تصويت الشعب البريطاني لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي.
وهما مفاجأتان تطرحان أسئلة عن مستقبل الديمقراطيات الليبرالية ومدى قدرتها على التأقلم مع متغيّرات العالم. ذلك أنّ الولايات المتحدة وبريطانيا تمثّلان معقل العولمة الليبرالية المنتشية منذ التسعينات بتفوّقها الإيديولوجي والجيو سياسي. وبالتالي فإنّ سنة 2016 قد تتحوّل لدى المؤرخين إلى لحظة مفصليّة تنتهي معها مرحلة يمكن التعبير عنها بعهد العولمة السعيدة. ولا ينبغي أن يفهم من هذا الكلام على أنّه تفسير لنهاية العولمة، لأنّها ظاهرة اقتصادية وثقافية واتصالية تتجاوز الفعل السياسي باعتبارها أكثر عمقا وأشدّ رسوخا. ولكنّ عولمة انتهت بنزوع أكثر الشعوب استفادة منها إلى انعزالية تتناقض ومبادئها الليبرالية. ولعلّ عولمة أخرى تنشأ على أنقاضها، ولكنّنا لا نملك بعد تحليل ماهيتها.
أيمن البوغانمي
- اكتب تعليق
- تعليق