احميده النيفر: التّعـلـيـم مـَنْبَـتُ السّيادة
1- كان شعار «فوق كل ربوة مدرسة» علامةً مميزة اعتمدها بُناة دولة الاستقلال التونسية تعبيرا عن الوجهة التي ينبغي تركيزها منذ خمسينات القرن الماضي لإقامــة منظومــة تربويـة حديثة. واكبـت ذلك الشعــار وجسّدتـه جهود وسياسـات داعمــــة ما كان يمكن لها أن تشهد تحقيق مكاسب وطنية لولا اعتبار التعليم منطلق المشروع الإصلاحي التحديثي وحجرَ أساسه. لذلك لم تكن «التربية القومية» في تونس المستقلة مؤسسة تقنية تكميلية، بل كانت الرَحِم التي لولاها لما برزت مؤسسات للدولة الجديدة ولما أتيح لبرامج التنمية الاجتماعية خاصة ما تعلّق منها بوضع المرأة والأسرة في العقدين الأولين من الاستقلال أن تتجسد.
مع ذلك فلا بد من التنبيه إلى أمرين: أولهما أن تركيز العمل الإصلاحي على التعليم قديمٌ بدأ قبل إقامة الحماية الفرنسية ليستمر بعدها. لقد اعتبر قادة الإصلاح الأوائل من أمثال خير الدين وبوحاجب وقبادو وحسين، منذ منتصف القرن التاسع عشر، أن السياسة التعليمية هي حصنُ كيانهم وملاذ الساعين للنهوض. تركّز الأمر بعد ذلك إذ عمّقت حركة «الشباب التونسي» مع باش حانبة وخير الله والزاوش نفس المسار معتبرة أن صميم المشروع الإصلاحي هو التعليم العمومي لما له من حمولة فكرية واجتماعية وسياسية بالأساس. مقابل ذلك ومنذ 1883 أقامت السلط الاستعمارية إدارةَ العلوم والمعارف للاستيلاء على الأجهزة التعليمية في تونس حتى الزيتونية منها.
2- يتعلق الأمر الثاني بالانخراط المجتمعي الذي دعّم وراهن هو أيضا، رغم العوائق، على محورية التعليم باعتباره العامل الحيوي لبناء هوية فاعلة. ذلك كان يثير حنق حزب المعمّرين فكان «فيكتور دي كارنيار» Victor de Carnières زعيمهم وصاحب صحيفتهم «تونس الفرنسيــة» (La Tunisie française) يُشَهِّر بـاندفاع التونسيين الشديد للتعليم (...Cette fureur scolaire) معتبرا أن تعليم الأهالي سيصيب النظام الاستعماري في مَقْتلٍ.
بعد الاستقلال انطلق مشروع الإصلاح التربوي الشامل، سنـة 1958 للوزيـر محمـود المسعـدي معتمـدا على الديناميكية الثقافية الاجتماعية التحديثية التي غذّت الحركة الوطنية بوسائل غير متاحة من قبل وبغايات نوعية مستفيدة آنذاك خاصة من الموقف الإيجابي لعموم فئات المجتمع التونسي من التعلّم.
كان شعار «فوق كل ربوة مدرسة» يرمي بصورة أوليّة إلى مجابهة الأميّة، التحدّي الرئيسي، وضرورة الخروج السريع منها إذ لم يتجاوز عندئذ عدد المسجَّلين في التعليم الرسمي سوى 14% من مجمل البالغين سن الدراسة. من ثم جاء حرصُ واضعي السياسة التعليمية على نشر التعليم وهيكلته وتوحيد منواله. ما نص عليه القانون المؤسس لإصلاح «التربية القومية» أكد على أربعة مبادئ دالّة على أهمية ذلك التحدّي، أولها تزكيةُ الشخصية وتنمية المواهب الطبيعية لدى جميع الأطفال ذكورا وإناثا، ثانيها المساهمةُ في ترقية العلوم وتمكين المتعلمين من التمتع بفوائد ذلك الرقيّ، ثالثها المساعدةُ على تنمية الثقافة القومية وتحقيق ازدهارها ورابعها إعدادُ الطفل للقيام بدوره كمواطن وإنسان.
3- من هذه المبادئ تبرز قيمتان مَنارتان: التحرّرُ والمواطنة اللتان رسّختهما حافزية المعلّم المتميّز آنذاك حيث كان وقودَ نجاح تلك المدرسة ومصدرَ فاعليتها وانتشارها.
ما ينبغي الوقوف عنده فيما حقّقه المشروع من نجاح في مستوى الانتشار السريع وفي نوعية المتخرجين من المدرسة الجديدة يتعلق بالدلالة الحضارية لاختيارات التحديث الوطنية والخلفية التي تصدر عنها. في هذا المستوى لا مناص من استحضار مقولة ابن خلدون في أساسيات نظم العمران. تؤكد «المقدمة» على موقع التربية في الظاهرة العمرانية بما يتيح القول إن أحد أبرز وجوه التمدّن في الحضارة الإسلامية مرتبط عضويا بالنظام التربوي.
بذلك صحّ القول إن المؤسسة التربوية ظلّت عنصر مناعة وإبداع في مسيرة التمدن الوطني الحديث نتيجة الوعي بأهمية المؤسسات المجتمعية والثقافية والتقدير لخطورتها في مواجهة المصاعب الكبرى والتصدي بنجاح للتحولات التاريخية.
بالعودة إلى طبيعة النتائج التي أفضى إليها إصلاح التعليم الأول لتونس الحديثة مقارنة بنوع التحديات الجديدة التي واجهت الدولة والمجتمع والفرد في الستينات والسبعينات من القرن الماضي تبرز معضلتان لم تتمكن «التربية القومية» من السيطرة عليهما: الدولنة والنخبوية.
4 - إذا كان مشروع إصلاح 1958، من جهة، قد نصَّ على تأسيس «مجلس أعلى للتربية» يكون هو الإطار التشاركي الذي يناقش شؤون التعليم تقييمًا ومراجعة وتوجيها فإن واقع الأمور ذهب في سياق مغاير. لقد أفرطت الإيديولوجية الوطنية للدولة التي تأخذ على عاتقها كل مهمات الشأن العام وبمركزية شديدة في تدخّلها في مقتضيات العمل التربوي بحيث غدت الدولة الأبوية هي المُربية والمشخِّصة للمجتمع وطاقاته وتطلاعاته. نتج عن «دولنة التربية» هّناتٌ عديدة من أخطرها تغافل عن الخصائص والحاجيات لجهات هامة من البلاد كانت محرومة وغير معتبرة في التصور والبرامج والنصوص المقررة.
من جهة ثانية، وبعد هذا، لا غرابة في بروز النخبوية وتفاقم أمرها مهددة مستقبل المؤسسة التعليمية ومؤثرة في طبيعة النخب الصاعدة. ما تؤكده إحصائيات نهاية الستينات من القرن الماضي يثبت أن تلميذا من الـ 100 المسجلين في الابتدائي يتمكن من الحصول على الباكالوريا. إلى جانب الاعتبار الكمي أصبحت مدرسة الاستقلال مصعدا اجتماعيا ناجعا وفرصة لكل مواطن يسعى للارتقاء المهني والمادي.
الإشكال المسجَّل هو أن النخب الجديدة التي أفرزتها المؤسسة التعليمية منذ السبعينات والتي ستقع على عاتقها مسؤولية اتخاذ القرارات التي تصوغ مستقبل البلاد وجدت نفسها في ظروف استثنائية أمام اختيارات صعبة تنتهي في غالب الأوقات إلى التناقض والاصطدام مع هوية المواطنين ومطامحهم.
5- لقد حقق مشروع الإصلاح التربوي لسنة 1958 صقلا لإنسان تونسي جديد مواكب لعصره بما وفّر له من إمكانيات الارتقاء الاجتماعي لكنه كان في فرديته لا يكاد يتمثّل مقتضيات بناء روح وطنية جامعة بما جعله أقرب إلى الاستغناء عن الخصوصيات الثقافية وعن ترجمتها المجتمعية. لقد عانت تلك النخب، نتيجة إهمال مسألة الهوية الجامعة والفاعلة التي تستوعب الموروثَ وتجاربَ الماضي القريب والبعيد بصورة معاصرة من تمزّق شنيع انتهى بها في الغالب إلى فقدان المصداقية.
ذلك ما حرص على تلافيه مشروع الإصلاح التربوي الشامل الثاني للوزير محمد الشرفي سنة 1991 في عنايته بالروح الوطنية. نجد ذلك جليًّا عند تحديد أهداف التربية بأنها «الوعي بالهوية الوطنية التونسية وترسيخ للشعور بالانتماء الحضاري وطنيا ومغاربيا وعربيا وإسلاميا». يضيف المشروع في خصوص اللغة العربية أن إتقانها «هدفٌ مركزيّ من أهداف التعليم لا في مستوى الاستعمال التعليمي فحسب ولكن في مستوى إنتاج المعارف المختلفة الإنسانية والطبيعية والتكنولوجية».
لم يحقق هذا المشروع كل نتائجه للاستقطاب السياسي والإيديولوجي الحادّ الذي دخلته البلاد في التسعينات والذي ضاعف من تراجع المستوى التربوي رغم محاولات محدودة للتصويب.
6- لا أدل على هذه الأزمة العميقـة والمتواصلـة ما تكشفه اليوم المراتب المتأخرة للجامعات التونسية إفريقيًا وعالميًا فضلا عن تزايد هائل للمؤسسات والمعاهد الخاصة والدولية ذات التوجهات التقنية والعلمية غير المهتمة بتنشئة الإنسان الجماعي المساهم في تركيز أركان المجتمع والدولة.
لهذا جاء نص دستور 2014 مؤكدا، خاصة في فصوله 16 و33 و39 و47، على إيلاء أهمية للقيم المدنية والحقوقية والتاريخية والحضارية الحيوية للشخصية التونسية بما يقتضي اعتبارها في بناء المناهج التربوية الجديدة. هي دعوة لضرورة التلازم بين التربية والتعليم من جهة وإثبات لكونهما جسرّ حوارٍ وتفاعل بين الثقافات من جهة ثانية وأنهما بذلك من عاجل المُهِمّات بما يجعل المؤسسة التربوية مقوِّما للمناعة الوطنية.
خطورة المؤسسة التربوية اليوم، على ذلك، في مدى استحضارها الواعي لما مارسته من مهام ضمانةً للتحرر الوطني فرديا وجماعيا وما ينبغي أن تواجهه من إعاقات وهَنات موروثة إلى جانب مهام إعادة بناء الذات وتجديد مقومات الخصوصية الوطنية والارتقاء بالوعي الفردي حتى يكون منتجا ومتواصلا بين مختلف مكونات المجتمع في سياق تاريخي وإنساني متحرك. عند ذلك وعند توفر المستلزمات البشرية والمادية النوعية ستضحى المؤسسة التربوية مَنْبَتاً للسيادة وموطناً لتوطيد فاعليتها وتركيزِ طابعها المعرفي - التضامني العمراني.
احميده النيفر
- اكتب تعليق
- تعليق