رشيد خشانة: الخطر الدّاهم... مُحــاولات كسر شوكة الدّولة
ما إن انتهت قضية «بتروفاك» حتى استقطبت الاهتمام أحداث جمنة أو ما يُعرف بـ«هنشير ستيل»، وهو خلافٌ وضع عددا كبيرا من سكا المنطقة في مواجهة مع الدولة، بسبب إصرارهم على إدارة الواحة وبيع ثمارها بأنفسهم، على الرغم من أن العقد المُبرم بين المتسوّغيْن السابقيْن والدولة مازال نافذًا حتى مارس المقبل. يتحججُ المُطالبون بالضيعة بأنهم يستعيدون أرض أجدادهم، لكنهم فرضوا أمرا واقعا من دون الرجوع إلى القضاء أو الالتزام بقانون. ويجدر التذكير هُنا بأن هذه العملية هي واحدة من عشرات، بل مئات عمليات الاستيلاء على عقارات وأراض وأملاك تابعة للدولة إبان ثورة 14 جانفي، إذ انتهز القومُ ضعف الدولة لكي يُكرسوا واقعا جديدا، وبعنوان «استعادة حق» في كثير من الحالات. وفي حالة جمنة تحديدا أقبل الجيش على القرية لدى سيطرة الأهالي على الضيعة في 2011، لكنه آثر عدم التدخل، فيما كانت قوات الأمن غائبة عن المنطقة. كما يجدر التذكير أيضا بأن من قاد هذه العملية هم عناصر ما يُسمي برابطة حماية الثورة في المنطقة، ذات التاريخ الحافل بمثل هذه «البطولات»، التي ليس لها من غرض سوى كسر شوكة الدولة والاطمئنان إلى وهنها من أجل تمرير خطط باتت معروفة.
نحن إذا في صلب الجدل حول مكانة الدولة والدور الذي ينبغي ان تلعبه في سياق الانتقال الديمقراطي. فما حصل في أزمة «بتروفاك» لا يختلف في الجوهر عما يحدث في جمنة، إذ كانت تلك الأزمة أبعد من قضية محلية، بل شكلت أمارة على نوع التحديات التي سيتعين على الدولة أن تُجابهها، وتجد لها الحلول المُثلى، وليست الاتفاقات العرجاء أو الحلول الملغومة. فما أن تم تطويق الأزمة في قرقنة، بالصيغة التي طُوِقت بها، حتى وجّهت مجموعة «إيني» النفطية الايطالية رسالة إلى شركة «إيطال فلويد» لإشعارها بإنهاء التعاقد معها واعتزامها غلق حقلها في منطقة وادي زار بالجنوب، بحسب جريدة «الصباح».
وبقدر أهمية التوصل إلى اتفاق جنَبنا مضاعفات مغادرة «بتروفاك» البلاد وموجاته الارتدادية، التي يصعُب التكهن بمداها، شابت التعاطي الحكومي مع الأزمة كثيرٌ من الأخطاء جعلت المفاوضين يقبَلون، مثلا، التنازل عن محاسبة مُستعملي العنف وإسقاط التتبعات القضائية ضدهم، مما يعني تخلي الدولة عن تطبيق القانون. كما أن المشاريع التي تمت الموافقة عليها في إطار الاتفاق ليست مُبرمجة في المخطط العام للتنمية، وهو ما اعتبره خبراء اقتصاديون إرباكا للسير العام للمشاريع التنموية ونيلا من مبدإ العدل بين الجهات.
قبل «بتروفاك» نذكر ما قام به عمال مصنع الإطارات المطاطية من قطع للطريق الرابطة بين سوسة والقيروان، مع أنها شريانٌ حيويٌ للولايتين اقتصاديا وبشريا، بالإضافة لعدة اعتصامات وإضرابات عشوائية هنا وهناك، في معظم الولايات، حتى ضاقت صفحات الجرائد والمواقع الالكترونية، على كثرتها، عن استيعابها. وبلغ الأمر ببعض المتطرفين إلى حد استغلال أزمة «الشركة التونسية للإطارات المطاطية» من أجل الزج بتلاميذ المعاهد في أعمال الفوضى والتلويح بالعصيان المدني، بعدما أغلقوا الشارع الرئيسي وسط المدينة بالإطارات المُحترقة.
ما يستحق التوقف عند دلالاته في أحداث العنف تلك، هو طبيعة العلاقة الجديدة بين المواطن والدولة، إذ لم يعُد العنف حكرا على الأخيرة من أجل حماية المجتمع، وإنما بات وسيلة بأيدي مجموعات صغيرة، تُمثل عادة أقليات متطرفة تركب موجة الاحتجاجات الاجتماعية من أجل الابتزاز. والخوفُ كلُ الخوف أن نتمادى على هذا النسق، وسط احتمالات مؤكدة بأن الحكومة ستلجأ إلى قرارات اجتماعية قاسية، قد تنجرُ عنها احتجاجات غير مُسيطر عليها، على غرار ما حصل في اليونان، مع ما يُصاحبها عادة من أعمال عنف وحرق ودمار شاهدنا نماذج منها سابقا في القصرين وسيدي بوزيد وقفصة وسواها. من هذه الزاوية تنبع أهمية مراقبة ما يشعر به المواطنون داخل المجتمع، وتوقع ردود أفعالهم على الاجراءات الحكومية، من أجل بناء علاقات ثقة معهم، تُمكن من حُسن إدارة التوترات التي تطفو على السطح، تحقيقا للسلم الاجتماعي، بوصفه ضرورة لإنجاح أية عملية انتقالية. ومن أجل بناء الثقة في الدولة ينبغي اعتماد الشفافية وإطلاع المواطنين على المعلومات والخيارات الممكنة بشأن القضايا التي تهمُهم، بما يدلُ على أن آراءهم تُؤخذ في الاعتبار لدى اتخاذ قرارات هامة ومصيرية، وأن تلك القرارات بدورها سليمة وعادلة.
وهذا مفقود اليوم لأن الجميع لا يشعرون بالأمان ولا يثقُون في المستقبل. وهذا الشعور هو التربة التي رُبما يترعرع فيها العنف غدا، فحوالي ثلث البلدان التي شهدت، مثلنا، صراعات أو مرت بمراحل انتقالية، على مدى الثلاثين سنة الماضية، عادت لتشهد أعمال عنف واسعة النطاق في غضون خمس سنوات فقط. ومن المُهم أن نعرف هنا أن الفرق بين البلدان التي تقع مُجددا في دوامة العنف وبين البلدان التي لا تمر بذلك، هو قدرة الدولة على تلبية انتظارات جميع أطياف المجتمع. وباختصار، ينجح المسار الانتقالي عندما تكون لدى المواطنين ثقة كبيرة في دولتهم لتلبية احتياجاتهم وتحقيق مصالحهم، والتفاوض بشكل عادل بشأن الخلافات مع الفئات الأخرى في المجتمع (الشغالون/رجال الأعمال...). أما في حالة غياب أو ضعف ثقة المواطنين في الدولة وقراراتها، فيختار المواطنون عادة اللجوء للعنف للتعبير عن احتياجاتهم ومطالبهم.
بهذا المعنى لابد من بناء السلم الاجتماعي وتعزيز التنمية من أجل السيطرة على التوترات بطرق أفضل، ومنع حدوث اضطرابات وأعمال عنف، خصوصا في ظل تربص الجماعات الارهابية بالتجربة التونسية اليافعة، بوصفها نموذجا ينبغي قصفه لإطفاء جذوته. وقد تكون بعض الفئات والتيارات على استعداد لاستخدام العنف أو التحريض عليه، سرًا أو جهرا، من أجل تحقيق أغراضها الايديولوجية أو السياسية أو الاقتصادية، مثلما لوحظ في أحداث مختلفة خلال السنتين الأخيرتين. وربما تُهدد تلك الجماعات بشكل مباشر القوى السياسية والاجتماعية المؤمنة بمبدأ التوافق، اعتقادا منها بأن تلك القوى تُقوض مصالحها وتُفشل منهجها الغوغائي. لذا من الضروري أن تكون للمواطنين علاقات قوية مع الدولة وأن يثقوا في أن القرارات التي تتخذها صائبة وعادلة، حتى لو لم يستفيدوا منها بشكل مباشر. فالسلم الاجتماعي لا يعني إنهاء الخلافات في المجتمع أو فرض الإجماع، وإنما إدارة أفضل للتناقضات والمصالح المُتضاربة، كي لا يعتقد المواطنون أن عليهم اللجوء إلى العنف من أجل حماية حقوقهم.
رشيد خشانة
- اكتب تعليق
- تعليق