تضمّن الفصل 3 من مشروع القانون الأساسي، يتعلق بتنقيح وإتمام القانون الأساسي عدد 16 لسنة 2014 مؤرخ في 26 ماي 2014 يتعلق بالإنتخابات والإستفتاء، تعديلا للفصل 6 من القانون الأساسي المذكور. تجسّد هذا التعديل في إضافة فصل 6 مكرر تضمّن منع تسجيل العسكريين وأعوان قوات الأمن الداخلي من الترسيم بسجل الناخبين.
علما وأنه سبق لبعض نواب المجلس الوطني التأسيسي الذين يمثلون الرؤية الحداثية والحقوقية للمجتمع، أن قاموا بالطّعن في دستورية الفصل السادس من مشروع القانون المتعلق بالإنتخابات والإستفتاء الذي منع العسكريين وأعوان قوات الأمن الداخلي من الترسيم بسجل الناخبين. وقد كان المحافظون بزعامة حركة النهضة وراء هذا المنع.
وقد تعهدت الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية مشاريع القوانين خلال شهر ماي 2014 بملف الطعن الذي كان يحمل رقم 1 وعجزت بتركيبتها آنذاك من اتخاذ قرار في الآجال القانونية مما اضطرّها إلى "إحالة ملف الطعن الموجه من قبل عدد من أعضاء المجلس الوطني التأسيسي ضد الفصل 6 من مشروع القانون المتعلق بالإنتخابات والإستفتاء وذلك طبقا لأحكام الفصل 23 فقرة أخيرة من القانون عدد 14 لسنة 2014 المؤرخ في 18 أفريل 2014 والمتعلق بالهيئة الوقتية لمراقبة دستورية مشاريع القوانين." 1.
ويكون بذلك انتقل الجدل بين الحداثيين والمحافظين من قبّة المجلس الوطني التأسيسي إلى قبّة القاضي الدستوري الممثل في الهيئة الوقتية. وإذا كانت الغلبة داخل قبّة المجلس الوطني التأسيسي للمحافظين، فإن التعادل حسم موقف أعضاء الهيئة الوقتية حيث عجز الأعضاء عن فصل هذه المسألة وحسمها. وقرّرت الهيئة الوقتية بذلك إحالة الموضوع على السلطة السياسية ممثلة في رئيس الجمهورية لختم نص القانون.
ولم يكن رئيس الجمهورية، آنذاك السيد المنصف المرزوقي، طلائعيا، من حيث المبدأ، إذ رفض استعمال حقّ الفيتو. علما وأنه كان بالإمكان تجاوز حق الفيتو بسهولة. فقد تضمّن الفصل 11-2 من القانون التأسيسي عدد 6 لسنة 2011 المؤرخ في 16 ديسمبر 2011 والمتعلق بالتنظيم المؤقت للسلط العمومية أنه إذا لم يختم رئيس الجمهورية القانون في أجل أقصاه خمسة عشر يوما من تاريخ الإيداع لدى مصالح رئيس الجمهورية "يعاد المشروع إلى المجلس الذي يصادق عليه من جديد وفقا لصيغة المصادقة الأولى وفي هذه الحالة يختمه رئيس المجلس الوطني التأسيسي".
فقد كان آنذاك من السّهل، طبق طبيعة تركيبة المجلس، الحصول على موافقة 109 نائبا باعتبار أن المصادقة على القانون الأساسي تحتاج في كل الحالات إلى الأغلبية المطلقة لأعضاء المجلس. علما وأن رئيس الجمهورية آنذاك كان حليفا للمحافظين ومن شأن استعماله لحق الفيتو أن يدخل في جدل، حتى لا نقل أزمة، مع حركة النهضة. والحال وأنه، من جهة، كان يريد الترشح إلى الإنتخابات الرئاسية لسنة 2014 وهو بذلك في حاجة ملحة إلى مساندة المحافظين. وقد يفوّت على نفسه، من جهة أخرى، الفرصة التاريخية لختم القانون المذكور.
في نهاية المطاف انتصر المحافظون وأصبح منع العسكريين وقوات الأمن الداخلي موضوع الفصل 6 من القانون الأساسي عدد 16 لسنة 2014 مؤرخ في 26 ماي 2014 يتعلق بالإنتخابات والإستفتاء 2.
ويطفو، اليوم، من جديد الخلاف بين الحداثيين والمحافظين حول هذه المسألة وذلك بمناسبة التداول في شأن مشروع قانون الحكومة المتعلق بالإنتخابات المحلية.
يختلف الظرف السياسي في هذه المرّة عن الظرف السياسي لسنة 2014. ذلك أن الفائز في الإنتخابات الرئاسية والبرلمانية لسنة 2014 هو الحزب الذي بنى حملته الإنتخابية على نقد المحافظين وعلى رأسهم حركة النهضة. ولم يكن فوز حزب "نداء تونس" بفضل إيمان عموم الناخبين بالمبادئ والقيم التي دافع عنها هذا الحزب بل كان بسبب تخوّف الحداثيين من المحافظين الذين قد يعودون بالبلاد، في صورة فوزهم، إلى قواعد سلوكية وقانونية اعتقد الجميع أن عهدها ولّى وانتهى. وقد كان الفوز بفضل ما اصطلح على تسميته آنذاك بـ"التصويت المفيد".
اتضح فيما بعد أن الوعود الإنتخابية لهذا الحزب لم تكن لخدمة المشروع الحداثي بقدر ما كانت الغاية منها البحث عن مخزون انتخابي يسمح لمسؤولي هذا الحزب بتقلّد المسؤوليات الحكومية في الدولة. كما كانت غاية اللّوبيات التي ساندته تعزيز نفوذها الإقتصادي والمالي على المستويين الوطني والمحلّي. وهو ما أحدث أزمة ثقة حقيقية مسّت مصداقية السّياسيين لدى عموم الناخبين.
وقد تضمّن المشروع الحكومي لقانون الإنتخابات الحالي هذا المنع. علما وأن السيد يوسف الشاهد، رئيس الحكومة الحالي، كان المسؤول الأوّل عن مشروع هذا القانون الأساسي المتعلق بتعديل القانون الأساسي للإنتخابات والإستفتاء باعتباره قد حمل، في حكومة السيد الحبيب الصيد، حقيبة وزير الشؤون المحلية.
ويبقى الأمل في تمكين العسكريين وقوات الأمن من حقهم في الإنتخاب قائما خاصة وأن مشروع القانون سوف يمرّ بمحطات متعدّدة منها الإجبارية: مجلس نواب الشعب ورئيس الجمهورية. ومنها محطة إختيارية: الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية مشاريع القوانين.
مجلس نواب الشعب
إن التركيبة الحالية لمجلس نواب الشعب تختلف تماما عن تركيبة المجلس الوطني التأسيسي. فبالرغم من الأزمة اللاّمنتهية لحزب نداء تونس إلا أن طبيعة التركيبة الحالية للمجلس تعطي، مبدئيا، الغلبة الرّقمية للحداثيين (نداء تونس، كتلة الحرة، الجبهة الشعبية، آفاق تونس، الإتحاد الوطني الحر، وآخرون). علما أنه سبق لجميعهم الإتّحاد في وقت من الأوقات ضدّ المحافظين بمناسبة ما سمّي "اعتصام الرّحيل". يضاف إلى ذلك أن عددا من نواب حركة النهضة يعتبر نفسه اليوم حداثيا. بل ويطالب بتصنيف الحركة ضمن الحركات الحداثية.
غير أن فرصة حذف هذا المنع لم تنجح داخل لجنة النظام الداخلي والحصانة والقوانين البرلمانية والقوانين الإنتخابية 3 التي ترأسها، نائبة عن حركة النهضة، السيدة كلثوم بدرالدين. وقد حاول بعض نواب حركة النهضة الدّفع نحو إيجاد حلّ وسط من خلال المصادقة على حكم انتقالي يمنع تسجيل العسكريين وقوات الأمن بالنسبة للإنتخابات المحلية المقبلة فقط. لا يفوت التذكير تسجيل التاريخ من تحلّى من السّياسيين بالشجاعة الكافية التي سمحت منذ القرن العشرين، للعسكريين والأمنيين، في العديد من الدول المتقدمة 4 بأن يمارسوا حقّهم الكامل كمواطنين في الإنتخاب.5
يجب أن نذكّر أن شجاعة السّياسيين وإيمانهم الحقيقي بالمساواة هو الذي دفعهم في مرحلة أولى إلى تعميم الإقتراع على الرّجال وفي مرحلة ثانية على النساء وفي مرحلة ثالثة على العسكريين والأمنيين. وفي والوقت الذي تسمح بعض القوانين المقارنة للأجانب الحق في الإنتخاب6 ، وهو ما من شأنه أن يسمح للإسلاميين الأجانب والقاطنين في هذه الدول الحق في اختيار الحاكمين المحلّيين، لازال التشريع التونسي يحرم العسكريين والأمنيين، وهم مواطنون تونسيون، من ممارسة حقّهم في الإنتخاب. وبالمقابل فكّرت السلطات في تونس بناء مساجد داخل الثكنات العسكرية 7.
إنّ الفكر المحافظ الذي برّر إقصاء بعض الرّجال والمرأة من ممارسة حقّهم في الإنتخاب هو نفس الفكر الذي يحرم اليوم الأمنيين والعسكريين من ممارسة حقّهم في الإنتخاب. ويصبح بذلك التّبرير المقدّم مجرّد حجّة واهية.
علما وأن حجّة عدم إدخال العسكريين في الخلافات السياسية وقع استعماله ضدّ القضاة. ونرى اليوم أن تنصيص الدستور على ضرورة تحلّي القضاة بالحياد لم يمنع المشرّع من تمكينهم من ممارسة حقّهم في الإنتخاب. بل أكثر من ذلك، إذ وصل الأمر بالمشرّع إلى السّماح لهم بالترشح للإنتخابات الرئاسية ثم العودة في صورة الفشل إلى القضاء. وكأن المشرّع أجاز للقاضي ممارسة السّياسة في تونس ولكن بطريقة موسمية. على أنه وفي صورة فوز المحافظين، يمكن للحداثيين الطعن من جديد في هذا النّص أمام الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية مشاريع القوانين. ويحتمل بذلك أن يمرّ مشروع القانون بمحطّة ثانية.
الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية مشاريع القوانين
في صورة تعهدّها بمشروع القانون المذكور، سوف تتاح أمام الهيئة فرصة ذهبية وتاريخية لتضع بصماتها في اتجاه تجسيد المساوة الكاملة بين المواطنين. ويمكن لها بذلك أن تتدارك ما عجزت عن تحقيقه في شهر ماي 2014. ولكن هل هذا ممكن بعد أن أصدرت الهيئة قرارا 8 يتبنّى القراءة المحافظة للفصل 1 من الدستور ؟
صدر هذا القرار في قطيعة تامّة مع القراءة الحداثية والديمقراطية 9 للفصل المذكور من طرف كل من القضاء العدلي والقضاء الإداري 10 إبّان عهد دستور 1959. علما وأنه في تلك الفترة لم يكن هناك مثيلا للفصل الثاني من دستور 27/01/2014.
فبالرغم من التطور الدّستوري الحاصل في خصوص طبيعة الدولة التونسية بتوضيح الفصل الثاني من الدستور الجديد لمعنى الفصل الأول، المأخوذ عن دستور 1959، إذ أكّد "تونس دولة مدنية، تقوم على المواطنة وإرادة الشعب وعلوية القانون" إلا أن الهيئة دخلت في جدل ديني خارج تماما عن مدلول الفصلين الأول والثاني من الدستور11.
فقد استخلصت انسجاما بين الفصلين الأول والثاني ، وهو تمشي سليم في بدايته، ولكن ليس في اتجاه تأكيد الهيئة على الطبيعة المدنية للدولة أساس دولة القانون والمؤسسات. وإنما في اتجاه مناقض تماما لدولة القانون وذلك من خلال قبول الهيئة استبطان القانون الوضعي لمفاهيم وتعابير دينية كـ"المنظور الشرعي" و"الشريعة الإسلامية" و"مبادئ الشريعة الإسلامية" 12. ويكفي طبق الهيئة إدماج هذه المفاهيم في النظام الوضعي لتصبح جزءا لا يتجزّأ من القانون الوضعي .
ويصعب بذلك التوصل إلى أغلبية أربعة أعضاء باعتبار طغيان الطبيعة المحافظة على تركيبة الهيئة. ويبقى بذلك الأمل في رئيس الجمهورية، المحطة الثالثة التي يمرّ بها مشروع القانون الأساسي المتعلق بإتمام وتعديل القانون الأساسي للإنتخابات والإستفتاء.13
رئيس الجمهورية
كان حزب الرّئيس الحالي، السيد الباجي قائد السبسي، ناشطا داخل "جبهة الإنقاذ" (2013-2014) بل وأحد مؤسّسيها. وكان طرفا رئيسيا في مجادلة المحافظين. وبذلك يمكن له القيام بدور هام في اتجاه السّماح للعسكريين والأمنيين لممارسة حقّهم في الإنتخاب. علما وأن مكانة الرئيس الحالي السياسية والدستورية أفضل بكثير من مكانة الرئيس المؤقت، السيد المنصف المرزوقي.
فهو يبقى، من جهة، الزعيم التاريخي للحزب الفائز في الإنتخابات الرئاسية والبرلمانية لسنة 2014. كما أنه لم يبدي، مبدئيا، أي نية للترشح للإنتخابات الرئاسية لسنة 2019 بما يجعله متحرّرا من العديد من الضغوطات. ويمكن له في هذا السياق أن يستعمل سلطة التأثير الأدبي على نواب حزب نداء تونس، الحزب الذي قام بتأسيسه. ولكن يمكن له، من جهة أخرى طبق الفصل 81 من الدستور، استعمال حق رد المشروع مع التعليل إلى المجلس للتداول ثانية. وعلى عكس حالة الرئيس المؤقت الذي كان بالإمكان تجاوز ردّه بسهولة، فإنه لا يمكن تجاوز الرّد، بالنسبة للرّئيس الحالي، إلا بمصادقة ثلاثة أخماس أعضاء مجلس نواب الشعب.
يريد العسكريون والأمنيون ممارسة حقّهم في الإنتخاب. فمن من بين هذه المؤسسات الدستورية قادر على الإستجابة لهذا الطلب المشروع ليدخل بذلك التاريخ من بابه الكبير ؟
سوسة في 29 سبتمبر 2016.
أمين محفوظ
1- الرائد الرسمي للجمهورية التونسية، مؤرخ في 23 ماي 2014، عدد 41 ص.1351.
2- الفصل 6 " لا يرسّم بسجل الناخبين: (...) العسكريون كما حدّدهم القانون الأساسي العام للعسكريين وأعوان قوات الأمن الداخلي. (...)".
3- "أما بالنسبة للفصـل 6 (مكـرّر): عرضـت مسـألة تمكـین الأمنیـین والعسـكریین مـن الاقتـراع علـى التصـویت داخـل اللجنـة وقـد تباینـت المواقـف حولهـا، حیـث تـم تسـجیل تسـاوي فـي عـدد الأصـوات بـین الأعضاء عند التصویت أي تـوزع الآراء بالتسـاوي بـین الموافقـة علـى تمكـین الأمنیـین والعسـكریین مـن الاقتـراع وبـین رفـض هـذه المسـالة لیـتم تـرجیح التصـویت فـي اتجـاه الإبقـاء علـى الفصـل 6 مكـرر فـي صـیغته المعروضـة (عمـلا بقاعـدة صـوت الـرئیس مـرجح عنـد تسـاوي الأصـوات الفصـل82 مـن النظـام الداخلي لمجلس نواب الشعب)"، تقرير اللجنة، ماي 2016، ص45.
4- الولايات المتحدة الأمريكية، فرنسا...
5- « In some countries, the voting rights of persons serving military service as well as persons in the police forces are subject to restrictions - are not allowed to vote or to be elected. This practice is against the more common approach that avoids the restriction of the voting right of those persons while applying certain additional
regulations directed at enabling them to participate in elections without any restrictions. », EUROPEAN COMMISSION FOR DEMOCRACY THROUGH LAW (VENICE COMMISSION), REPORT ON THE ABOLITION OF RESTRICTIONS ON THE RIGHT TO VOTE IN GENERAL ELECTIONS, 2005, p.11
6- من ذلك تسمح تشريعات بعض الدول لأصناف من الأجانب الحق في ممارسة الإنتخابات على المستوى المحلّي (فرنسا، بريطانيا، البرتغال، أسبانيا) في حين تسمح بعض التشريعات الأخرى لكل الأجانب، بشرط الإقامة بها، الحق في ممارسة الإنتخابات المحلية ( السويد، لوكسمبورغ، بلجيكا الدنمارك هولندة) وأحيانا دون شرط الإقامة (إيرلندة).
7- "أكد لناطق الرسمي لوزارة الدفاع بلحسن الوسلاتي لجريدة '' آخر خبر '' أن الوزارة اتخذت قرارا بإحداث مساجد و تعميمها صلب الثكنات العسكرية و هو ما يعتبر إجراء خطيرا و غير مسبوق ". الجريدة، 29/09/2016.
8- قرار الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية مشاريع القوانين عدد 05/2016 بتاريخ 2 جويلية 2016 المتعلق بمشروع قانون البنوك والمؤسسات المالية.
9- الصادق بلعبد، الفصل الأول : تونس دولة حرة مستقلة، ذات سيادة، الإسلام دينها..."، خمسينية دستور 1959، نشر هانس سايدل، 2010، ص.33-ص.36.
10- أمين محفوظ، الدستور التونسي بين وحدانية اللغة وحرية اللغة، الأحكام العامة للدستور، خمسينية دستور 1959، نشر هانس سايدل، 2010، ص.9-ص.32.
11- وحيث أنّ أحكام الدستور لمّا كانت قائمة على مبدأ الانسجام فإنّ ذلك ينفي أيّ تعارض بين الفصلين الأول والثاني من الدستور ذلك أنّ التنصيص على أنّ تونس دولة دينها الإسلام لا يعني بالضرورة أنّ تونس ليست دولة مدنية.
12- وحيث أنّ ما تضمّنته توطئة الدستور بخصوص تمسّك تونس بتعاليم الإسلام ومقاصده إنّما يعزّز هذا الاتجاه من ناحية أن إدماج الصيرفة الإسلامية في القانون الوضعي التونسي ينصهر في نطاق ضمان الدولة للمواطنين والمواطنات للحقوق والحريات الفردية والعامّة وتهيئة أسباب العيش الكريم لهم وفق ما يضبطه الدستور بما في ذلك الحقّ في عمليات بنكية قائمة على غير أساس الفائدة،
وحيث أنّ الصيرفة الإسلامية عمليات بنكية لا تختلف عن غيرها من العمليات الأخرى إلاّ في كونها غير قائمة على أساس الفائدة أخذا وإعطاء ووفق آجال مختلفة في مجال قبول الودائع والتوظيف والتمويل والاستثمار في المجالات الاقتصادية،
وحيث أنّ الصيرفة الإسلامية بهذا المعنى هي منتوج بنكي ليس حكرا على بنوك بذاتها طالما أنّها متاحة أمام كافة البنوك والمؤسسات المالية التي تعتزم ممارسة هذا النّوع من العمليات شريطة احترامها للتشريع الجاري به العمل،
وحيث خلافا لما تمسّك به الطاعنون فإنّ معاملات الصيرفة الإسلامية خاضعة للمعايير الدولية المعمول بها في هذا المجال والتي هي خاضعة بدورها للقانون المتعلّق بالبنوك والمؤسسات المالية حيث يتولّى البنك المركزي التونسي مراقبة مطابقة عمليات الصيرفة الإسلامية للمعايير الدولية وأنّ هذه الرّقابة تشمل أعمال هيئة مراقبة مطابقة معايير الصيرفة الإسلامية، (...).".
13- وحيث أنّ النّظر إلى عمليات الصيرفة الإسلامية من منظور شرعي بحت يحجب حقيقة أن هذه العمليات ما هي إلا منتوج بنكي صرف يخضع للمعايير الدولية المعمول بها في هذا المجال وقد أخذت به كثير من الدّول الإسلامية دون أن يعني ذلك إهدارها لمفهوم مدنيّة الدّولة وبصرف النظر عن أيّة خلفية دينية،
وحيث أن إخضاع عمليات الصيرفة الإسلامية للمعايير الدولية في هذا المجال لا يعني أنّ البنوك والمؤسسات المالية التي تمارس هذا النشاط لا يتوجّب عليها تقديم طلب للبنك المركزي والحصول على موافقة منه طبق منشور يصدره محافظ البنك المركزي يعرّف عمليات الصيرفة الإسلامية ويضبط صيغ وشروط ممارستها وبالتالي فإنّ ممارسة الصيرفة الإسلامية وإن كانت مستمدة من الشريعة الإسلامية فإن ذلك لا يؤدي إلى النيل من مدنية الدولة لأنّه لا يوجد أيّ تعارض بين هذا وذاك طالما أنّ المسألة تتعلق بمنتوج بنكي خاضع لمبادئ خاصة أيّا كان مصدرها وضعيا أو غير وضعي على غرار بقية العمليات البنكية الأخرى. ثم إن الأخذ بمبادئ الشريعة الإسلامية على نحو ما تمسّك به الطاعنون في هذا الإطار الخاص والمضبوط لا يعني التمهيد لقيام دولة دينية طالما أن الأمر محكوم ومقدر بنصوص وضعية تضبط شروطها (...)".
"وحيث أن عمليات الصيرفة الإسلامية لا تتنافى ولا تتجافى مع مدنية الدولة طالما تم إدماجها في النظام القانوني للبنوك والمؤسسات العمومية وأصبحت جزءا لا يتجزّأ من منظومة القانون الوضعي التونسي،
وحيث أضحى كذلك هذا الوجه من الطّعن المؤسّس على خلاف هذا الواقع غير حريّ بالاعتبار فيتعيّن ردّه."