السّياسة والحَماسة بقلم د.الحبيب الدّريدي
عندما تولّى حاكم ولاية نيويورك الدّيمقراطيّ فرانكلين روزفلت رئاسة الولايات المتّحدة الأمريكيّة سنة 1932 كانت البلاد تواجه الأزمة الاقتصاديّة العالميّة الخانقة التّي تُعرف بأزمة 1929 حيث انهارت البورصة وأفلست البنوك والمؤسّسات الاقتصاديّة . وكان روزفلت قد أعدّ في حملته الانتخابيّة برنامجا اقتصاديّا واجتماعيّا لمواجهة تلك الأزمة سمّاه «الطّرح الجديد»، وهو يتضمّن قوانين واجراءات تعلن التّخلّي عن النّهج اللّيبيرالي وعن مبدإ الحريّة الاقتصاديّة المطلقة وتكرّس تدخّل الدّولة بقوّة في الميادين الاقتصاديّة والاجتماعيّة. ورغم أنّ الهيئة القضائيّة العليا أصدرت آنذاك حكما ينصّ على عدم دستوريّة الإجراءات التّي اتّخذها روزفلت فإنّ الرّئيس الجديد مــضى في تنفيذ برنامجه بفضل المساندة الشّعبيّة الكبرى التّي لقيهـا والتّي جعلته يفـوز في الانتخـابات الرّئاسيّة لسنـة 1936 بـ61 % من الأصوات، بل ينجح في البقاء على رأس الولايات المتّحدة لأربع دورات رئاسيّة متتالية.
إنّ ما يجعلنا نستحضر هذا المثال التّاريخيّ البعيد عنّا في الزّمان والمكان والقريب منّا في الوقائع والحيثيّات هو الحدث الذّي عاشته السّاحة السّياسيّة الوطنيّة مؤخّرا والمتمثّل في تشكيل حكومة وحدة وطنيّة جاءت لتواجه «أزمة تتعمّق يوما بعد يوم» كما ورد على لسان رئيسها يوسف الشّاهد في الجلسة البرلمانيّة المخصّصة لمنح الثّقة للحكومة الجديدة.
ولا غرابة أن تستأثر حكومة الوحدة الوطنيّة بكمّ كبير من التّحاليل والتّعاليق والقراءات وتكون محور كثير من المواقف والآراء ووجهات النّظر منها ما اتّصل بتركيبة الحكومة من قبيل التّحفّظ على عدد من أعضائها أو الإشارة إلى تباين المشارب الفكريّة والإيديولوجيّة لوزرائها بما قد يمسّ من انسجامها ويربك عملها، ومنها ما اتّصل بجسامة التّحدّيات التّي ستواجهها وأهميّة الرّهانات المطروحة عليها.
ولكنّ اللّافت أنّ جلّ هذه التّحاليل تنصبّ على الحكومة وتكاد تغفل الحديث عن الشّعب والحال أنّه هو الفاعل الرّئيسّي في كلّ وجه من وجوه الحياة الوطنيّة، وهي تحاول تسليط الضّوء على شروط نجاح الفريق الحكوميّ الجديد ولا تتوقّف كثيرا عند الشّرط الأساسيّ للنّجاح وهو المساندة الشّعبيّة للبرنامج بل المشاركة الشّعبيّة في تنفيذه. فالحكومة لا تعدو أن تكون سوى غرفة القيادة التّي تضبط الخيارات والتّوجّهات، أمّا المحرّك الفعليّ لآليّات تجسيم تلك الخيارات فهو الشّعب بكلّ فئاته وشرائحه.
لقد أثبتت أحداث التّاريخ قديما وحديثا أنّ المعارك الكبرى تكسبها الشّعوب لا الحكومات، وأنّ المنعرجات التّاريخيّة الهامّة تصنعها الشّعوب، والأزمات الخانقة تتغلّب عليها إرادة الشّعــــوب، ولنا في تجـارب التّنميّــة في كوريا الجنوبيّة واليابان وفي ما سمّي «المعجزة الألمانيّة» بعد الحرب العالميّة الثّانيّة شواهد ساطعة عن مدى أهميّة الانخراط الشّعبيّ في المشاريع الوطنيّة الكبرى والمصيريّة.
إنّ التّحديّـــات التّــي تُقبــــل على مواجهتها حكومة الوحدة الوطنيّة في تونس باتت معروفة لدى الجميع (التّهديدات الإرهابيّة ، المديونيّة ، اختلال ميزان الدّفوعات وتفاقم عجز الميزانيّة، استفحال الفساد والتّهريب ...) ، ولكن يخطئ من يعتقد أنّ الحلول الكفيلة برفع هذه التّحدّيات هي حلول فنّية تقنيّة صرف يُناط وضعها وإعدادها بالخبراء وأهل الاختصاص ثمّ تصـاغ في إطار جملة من الإجراءات والبرامج والمخطّطات.
لا شكّ في أنّ الوصفات العلميّة المختصّة ضروريّة في مثل هذه السّياقات ولكنّ عاملا آخر غالبا ما يكون حاسـما في ترجيح كفّة النّجاح على كفّة الفشل وهو الرّوح المعنويّة التّي تتسلّح بها المجموعة الوطنيّة وانخراطها بإيمان راسخ ووعي عميق في مشاريع الإصلاح ، فلا يكفي أن تنال حكومة من الحكومات ثقة نوّاب البرلمان وإنّما الأهمّ أن تنجح في إعطاء الغمار الذّي ستخوضه لتحقيق أهدافها بُعدا معنويّا ووجدانيّا عميقا فتعمل في إطار من المساندة الشّعبيّة الحقيقيّة التّي تترجم عنها الحماسة الفيّاضة والشّعور البعيد بالمسؤوليّة والتّصميم الجماعيّ على كسب رهانات المرحلة وتجاوز صعوباتها.
وقد رأى معاوية قديما أنّ كلّ مقبل على الاضطـلاع بأعباء الحكـم يكـون في البداية إزاء ثلاثة أصناف من المنظورين: صديق مستبشر (الموالاة) وعدوّ مستتر (المعارضة) وناس بين ذلك ينظرون وينتظرون فإن أُعطوا منها رضوا وإن لم يُعْطوا منها إذا هم يسخطون (المتردّدون). وليس أمام صاحب الحكم إلّا أن يعمل على استنهاض الجميع وحفز هممهم وتحويل الجالسين على الرّبوة من موضع المتــابع السّــلبيّ إلى موضع الفاعل الإيجابيّ حتّى يلتفّوا حوله ويشاركوا في شدّ أزره.
وغير خفيّ أنّ بثّ هذه الرّوح المعنويّة العالية التّي تجعل كلّ مواطن يعتبر التّغلّب على الأزمة قضيّة شخصـيّة لا يتمّ مصادفة واتّفاقا وإنّما هو عمل موكول إلى المجتمع المدنيّ أحزابًا وجمعيّاتٍ ومنظّماتٍ . بيد أنّنا نلاحظ أنّ عمل هذه الأطراف على صعيد التّأطير لا يزال محدودا جدّا، بل إنّ هناك مفارقة صارخة بين الأرقام المعلنة حول عدد الأحزاب (204) وعــدد الجمــعيّات (18000) في بلادنا وبين تحرّكها في الواقع، ذلك أنّ أغلبها له وجود قانونيّ وليس له وجود ميدانيّ، وجهودها في صنع رأي عامّ وطنيّ متحمّس لقضايا البلاد المصيريّة تبدو جهودا محتشمة .
إنّ سببا أساسيّا من أسباب الأزمة المستفحلة التّي تعيشـها بلادنا يكـمن في اضطلاع المجتمع المدنيّ بدوره الحيويّ في إذكاء روح المواطنة وإشاعة ثقافة المغالبة وإعداد القوى الحيّة في البلاد بمختلف شرائحها لخوض معركة يتوقّف على نتائجها مستقبل الأجيال القادمة، وهو دور لا يقلّ أهميّة عن التّدابير والإجراءات الاقتصاديّة والاجتماعيّة التّي ستتّخذها الحكومة لأنّ السيّاسات المفرغة من الرّمزيّة المعنويّة والخالية من الأبعاد القيميّة والشّحنات الوجدانيّة تظلّ - مهما كانت قيمتها – مجرّد برامج جافّة لا تلامس أعماق الوعي ولا تحرّك المشاعر الوطنيّة ولا تستدرّ الالتفاف الشّعبيّ العريض.
لقد قـال أبــو القاسـم الشّـابي في ثلاثينيات القرن الماضي مخاطبا الشّعب:
أَنْتَ فِي الكَوْنِ قُوَّةٌ لَمْ تَـسُـسْـهَا
فِكْرَةٌ عَبْــقَــرِيَّةٌ ذَاتُ بَـأْسِ
وما أحوج البلاد اليوم إلى هذه الفكرة العبقريّة التّي تسوس الشّعب فتستخرج قواه الكامنة وتستثير حماسته لأنّ الشّعب التّونسيّ أثبت في جميع مراحل التّاريخ أنّه طاقة جبّارة على الفعل والإنجاز والتّغيير متى وجد من يُدرك أتواقه ويفهم آماله وتطلّعاته .
د.الحبيب الدّريدي
- اكتب تعليق
- تعليق