أخبار -
2016.09.16
تونس: السّراب والحقائق الصّادمة بقلم عبد الحفيظ الهرقام
أيّ قدر من الاهتمام تحظى به تونس من قبل الولايات المتّحدة الأمريكيّة التي ساندت ثورة 14 جانفي 2011 و«شجّعت» على اندلاعها ؟ وكيف تنظر واشنطن وعواصم بلدان عظمى أخرى إلى بلادنا؟تمثّل تونس اليوم نقطة استفهام على صعيد الرمز، إذ يتساءل كثيرون بشيء من الحيرة، في الأوساط السياسيّة والأكاديميّة الأمريكيّة عن مدى قدرة هذا البلد العربي والإسلامي على النجاح في تجربته الديمقراطيّة لتكون أنموذجا ومثالا في محيطها وكذلك عن مدى استمرار شعلة الأمل التي أوقدتها هذه التجربة.
والواضح الآن أنّ الولايات المتحدة الأمريكيّة لم تعد تُعير اهتماما للعالمين العربي والإسلامي، بعد ما وقع أوبـاما في خلط مفهومي بين الإسلام كعقيدة والإسلام كممارسة سياسيّة ، وأضحى من وجهة نظر دوائر صنع القرار الأمريكيّة الإسلام السّياسي صفحة من الماضي.
ظنّت الطبـقة الحاكـمة في تونس واعتقـد الــعديد من التونسيين، مباشرة بعد 14 جانفي 2011، أنّ القوى العظمى ستحوّل مشاعر الإعجاب والانبهار بالثّورة إلى دعم مالي سخيّ متدفّق سيساعدها على إنجاح مسار انتقالها الديمقراطي وتحقيق تنميتها الاقتصاديّة والاجتماعيّة. الاصطدام بالسّراب هو الطريق إلى إدراك الحقائق.
ولعلّ أوّل سراب يتجلّى اليوم هو أنّ هذا الدعم السخيّ المنتظر الذي لم يحصل، قد لا يأتي إلّا نزر منه.فقمّة البلـدان الثمـانية الأكثر تصنـيعا (G8) المنـعقدة في دوفيل بفرنسا في ماي 2011 كانت وعدت بمنح تونس 25 مليار دولار في شكل قروض وهـبات، لكـنّ الوعـود لم تر النـورإذ لم تكن سوى تعبير عن حسن النوايا.
وقد يتحوّل إلى سراب ما يُعقد على اللقاء المزمع تنظيمه في نوفمبر القادم في بروكسال، بمناسبة الذكرى الأربعين للتّعاون بين تونس والاتّحاد الأوروبي، من أمل في أن يفتح أفقا جديدا أمام التّعاون الثنائي ومتعدّد الأطراف، خاصّة وأنّ ما يهمّ الاتّحاد الأوروبي ، في المقام الأوّل، في نطاق سياسة الجوار التي ينتهجها، الحفاظ على أمن دوله وحمايتها من مخاطر الإرهاب وتأثيرات الهجرة السريّة، علاوة على أنّ القيادات السياسيّة لبلدان تعدّ من أبرز شركاء تونس، مثل فرنسا وألمانيا وإيـطاليا، منشـغلة بالأوضـاع الداخـليّة أكـثر من أيّ مسائل أخرى.
وثاني سراب، هو وليد خيبة الأمل في الطبقة السياسيّة التونسيّة بمختلف مشاربها وتوجّهاتها التي لم تقــدر إلى اليوم على وضع كلّ قواها في سبيل تجسيم أهداف الثّورة في أقصر الآجال وتحقيق الانتعاشة الاقتصاديّة المرجوّة لتخرج البــلاد من نفـق أزمة مستحكـمة، إذ بلغ حجــم الدين العـــمومي أكـثر من 52 مليار ديــنار في موفّى شهر جوان 2016 ، وسجّل عجز الميزانية في التاريخ نفسه ارتفاعا غير مسبوق، حيث فاق ملياري دينار، فيما بقيت الطبقة السياسيّة غير قادرة على الارتقاء بمستوى الحوار الوطني، في ظلّ ما تشهده أحزاب، ولاسيّما النداء والنهضة، من خلافات وانقسامات في صفوفها، هي إحدى صور الفوضى السائدة حاليّا في المشهد السّياسي الذي قد تزول منه تشكيلات وترحل عنه وجوه.
وثالث سراب مردّه الشعور بقصور المجتمع المدني في تعديل الكفّة على صعيد الحوار الوطني وملء الفراغ الذي تركته الأحزاب في هذا المجال، فالجمعيّات وفضاءات التفكير، على كثرتها وزخمها، لم تساهم إلّا في حالات نادرة وبالعمق الكافي، في بلورة مقاربات مجدِّدة لأمّهات القضايا المطروحة في الوقت الراهن .
ورابع سراب راجع إلى دور المواطن الذي، لئن هزّ زلزال الثّورة وجدانه وأيقظ ضميره، فإنّ سلوكه الاجتماعي لم يدرك، في غالب الأحيان، درجة الوعي بتحدّيات الحاضر والمستقبل.
أمام السّراب في تجلّياته التي سبق ذكرها يستفيق عديد التونسيين اليوم على حقائق صادمة.
الحقيقة الأولى : هي أنّ الثّورة التونسية بدأت تفقد توهّجها الخارجي وقيمتها الرمزيّة وبقيت مشروعا لم يكتمل، نتيجة اضطراب الأوضاع الداخليّة وانعدام الرؤية الواضحة التي تولّد القدرة على تخطّيها، علاوة على أنّ تعويل البعض على الخارج لحلّ أزمة داخليّة توجّه خاطئ. فحلّ مشاكل البلاد ينبغي أن يكون شأنا تونسيّا صـرفا.ومن الوهم الاعتقاد أنّه بالإمكان الاستقواء بالأجنبي والاستظلال بحمايته، فقوى النفوذ الخارجيّة لن تقدر اليوم على تغيير الواقع التونسي في إيّ اتجاه كان.
الحقيقة الثـانية : هـي أنّ الـدول العــظـمى شحـيـحة في دعمها المالي، ممّا يدعو إلى البحث عن مصادر جديـدة لتمـويل ما يُراد إنجازه من مشاريع وبرامج، خارج دائرة المؤسّسات الدوليّة كصندوق النقد والبنك الدولي والصناديق السّياديّة، لأنّ لهذه المؤسّسات والصناديق موارد محدّدة لا يمكن لها أن تتجاوزها. وقد يجدر التوجّه نحو صناديق الاستثمار الخاصّة التي تتوفّر على موارد تُمنح على أساس المردوديّة.
الحقيقة الثالثة : هي أنّ سياسة الهروب إلى الأمام أضحت اليوم منهج الفاعلين الأساسيّين في البلاد من أحزاب ومنظّمة شغيلة ومنظمة أعراف وقيادات رأي في مشهد سياسيّ واجتماعيّ أصابته شروخ عميقة أدّت إلى تشظّيه، في حين أنّ الوضع الدقيق الذي تعيشه تونس كان يفرض العمل على بناء توافقات تؤدّي إلى الالتقاء حول مشروع موحّد لتونس. وحتّى الوثائق التي أعدّت في إطار «اتّفاق قرطاج»، باعتباره ركيزة عمل حكومة الوحدة الوطنيّة، لم تفض بعد إلى صياغة رؤية جديدة تكون بمثابة خارطة الطريق للعمل الحكومي في قـادم الأيّـام. وبــقدر ما تتطـلّب هذه الرؤية الجديدة تصوّر برامج ومشاريع ورسم توجّهات عمليّة تغيّر الواقع نحو الأفضـل في مختلف المجالات، فإنّها تستوجب تحديد دور جديد لكلّ طرف، قــوامه التـوافـق في النظرة والمقاربة، ولا سيّما الاتحاد العام التونسي للشــغل المدعـوّ إلى كبح جمـاح المطلبيّـة، أخـذا في الاعتبار إمكانات البلاد، في ظلّ الأوضاع الاقتصاديّة والماليّة الراهنة. وكـم كـنّا نتمـنّى أن يتــزامـن التـوقيـع على «اتّفـاق قرطـاج» مع أمضـاء أطـرافه على وثيقة مخطّط التنمية 2016 - 2020.
الحقيقة الرابعة: هي أنّ الوضع في البلاد قابل للانفجار في كلّ لحظة. ولم يعد خافيا أنّ أطرافا تسعى إلى بثّ القلاقل وتجييش الشارع تحت غطاء مطالب اجتماعيّة وتغذية النعرات القبليّة والجهويّة. والبعض يحاول مشاغبة الجيش الوطني، حامي حمى الوطن ودرعه الـواقي من مخاطر الإرهــاب، وقد تـوهّم هـؤلاء أنّه بالإمكــان جرّ المؤسّـسة العسـكـريّة إلى الخــــروج من المنطقة العازلة في الجنوب، لمآرب معروفة. والمستفيدون بالطبـع من تفجير الوضع هم دعاة التّخريب وشبكات مافيا التّهريب والإرهابيّون الذين يحاولون استغلال حالات الفوضى والاحتقان الاجتماعي لزعزعة أمن البلاد واستقرارها وتقويض أركان الدولة.
هــل يكـون إدراك هـذه الحقـائق الصـادمة محفـّزا للجميع، طبــقةً سياسـية ونخـبةً ومجتمـعا مدنيّا ومـواطـنين على «الوقوف لتونس»؟
ذلك هو المؤمّل.
عبد الحفيظ الهرقام
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
- اكتب تعليق
- تعليق
أصداء المؤسسات
الأخبار الأكثر قراءة
2024.11.18
عزّالدّين المدني: أضواء على تنظيم المجامع
الأخبار الأكثر تعلِيقا
2024.11.18