رشيد خشانة: الحكومة مُخيّرة بين الاستجابة لنداء تونس أو خدمة ''نداء تونس''
«هناك رجالٌ كُثرٌ من أصحاب المبادئ في كلا الفريقين بأمريكا، لكن ليس هناك حزب مبدئي»
ألكسيس دوتوكفيل (1805 - 1859)
انزلقت تونس، بفعل حسابات حزبية ضيقة، من البحث عن التوافق الذي يُطيلُ عمر الحكومات، إلى منطق الغلبة المُستقوية بشرعية صناديق الاقتراع. انتقلنا من حكومة تقودها شخصية مستقلة إلى حكومة يقودها الحزب الأول الفائز في الانتخابات الأخيرة. وهذا طبعا حقٌ مشروعٌ من ناحية المنطق الصوري. لكن إذا نظرنا إلى الأمر من زاوية التحديات الاجتماعية والاقتصادية التي تواجهها البلاد في هذه المرحلة الدقيقة، نلحظ إجماعا على ضرورة تشكيل حكومة وحدة وطنية ترأسها شخصية سياسية لكن غير حزبية، على أمل أن تكون هذه الحكومة قادرة على عبور سنة 2017 بلا هزات، وهي سنة عسيرة وفق جميع التقديرات، بالاضافة لتنظيم انتخابات بلدية ومحلية، هي الأولى من نوعها في تاريخ تونس.
وبغضّ النظر عن مدى احترام مُقتضيات الدستور من عدمها في عملية استبدال حكومة بأخرى، يبقى الموضوع الجوهري مُتعلقا بمدى القدرة على تأمين المناخ السياسي والاجتماعي الذي تحتاجُه البلاد لحفز الهمـم ووقف التدهــور وإنعــــاش الاســتثمار والانتـــــاج، وهو ما لا يتحـقق إلا بتحقيق أوسع توافق ممكن حول الأولويات وحول الاستراتيجيات المنبثقة منها. وبتعبير آخر فالهدف هو توسيع القاعدة السياسية والاجتماعية للحكومة، وهو بالضبط ما كان يُردده الداعون لسحب الثقة من حكومة الحبيب الصيد. وكانت «وثيقة قرطاج» لبنة مهمة في هذه الطريق، إذ حظيت بمباركة تسعة أحزاب وثلاث منظمات وطنية كبرى.
غير أن ملابسات ولادة الحكـومة الجديدة أشارت إلى أننا مُقبلون على عودة الاستقطــاب التقليدي بين سلطة ومعــــارضة، مع ما يستتبعه ذلك من صراعات ومزايدات لا يمكن إلا أن تُبقينا في مربع الأزمة. بينما المطلوب اليوم هو الجنوح إلى توافق مرحلي يقوم على تنازلات متبادلة من أجل بناء حالة تقود البلاد، بعد حين، إلى تداول طبيعي على الحكم عبر الصنـــــاديق. وفي تراث بلدان عريقة سبقتنا إلى الديمقراطية، توصــف روح التنازل المتـبادل بـ«المُقايضة التاريخية» طبقا للعبارة الشهيرة التي نحتها السياسي الايطالي المخضرم أنريكو برلينغوير( Enrico Berlinguer 1984 -1922) ، وهو التفاهُم التاريخي الذي أبرمه الحزب الشيوعي مع الديمقراطية المسيحية. وبفضله أغلقت إيطاليا قوسي الأزمات السياسية التي عصفت بها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، والتي جعلت عمر الحكومــات لا يتجاوز سنة واحدة (تماما مثلما وصلــنا نحن إلى الحكـــومة الثامنــة في ست سنوات فقط). ومعلوم أن «الحزب الديمقراطي» بزعامة ماتيو رينزي، الذي يحكم إيطاليا حاليا، هو امتداد للحزب الشيوعي في قطاع واسع منه.
كذلك أثبتت تجربة الانتقال الديمقراطي في اسبانيا بعد رحيل «الكوديللو» فرانشيسكو فرانكو، أن إيجاد توافق أو عهد بين العائلات السياسية الكبرى هو معبرٌ إجباريٌ لدفع البلاد نحو مأسسة الديمقراطية وتصليب عودها، من أجل تفـادي الانـــزلاق نحو الاحتراب والصراع الأهلي. ولو تأملنا التجربة الاسبانية الناجحة، لألفينا أن شخصية فذة، مؤمنة بفلسفة التوافق، هي التي لعبت دورا جوهريا في نقل هذا البلد من النظام الدكتاتوري إلى الملكية الدستورية بين 1976 و1981، وهي شخصية أدولفو سواريز الذي يُلقَبُ بأب الديمقراطية الاسبانية. فقد كان رجل البحث عن توافقات لأنه مقتنع بضرورة التنازل المتبادل كمرحلة لا مناص منها لإحياء النظام الديمقراطي ووضعه على السكة من جديد.
استخلصنا المعاني نفسها في فضاء جغرافي وثقافي مختلف وعلى أرض عربية، عندما علمتنا الهزات التي تعرّضت لها التجربة الانتقالية في بلادنا، خلال السنوات الثلاث الأولى من المسار الانتقالي، أن الاحتكام إلى نتائج صندوق الاقتراع وحدها يمكن أن يقود البلاد إلى شفا الحرب الأهلية. ولم يُنزع ذاك الفتيل إلا عندما ارتفع هؤلاء وأولئك فوق الحسابات الأنانية وبدأوا يُفكرون في تقديم المصلحة العامة على ما سواها. ومن هنا انبلجت فكرة التوافق بوصفها الجسر الوحيد للعبور بسلام نحو الديمقراطية بمعناها التنافسي وبمضمونها المتعارف عليه في الأنظمة العريقة.
ذاك هو «الاختراع» التونسي الذي جعل العالم يلتفتُ إلى هذه التجربة الصغيرة، ويُعجبُ بفرادتها بين الثورات العربية الأخرى، التي عرفت، للأسف، مصيرا قاتما ومُحزنا. فليس المُهم أن العالم منحنا براءة هذا الاختراع، بل الأهم أن نُحسن استخدامه في ظل المناخ الاقليمي والداخلي المُثقل بالتهديدات الناجمة عن تمدُد الارهاب في الاقليم. فالحرب التي فُرضت علينا، بالاضافة للفوضى السائدة في جوارنا، حتَمتا تخصيص قسم ما انفك يتزايد من الميزانية لتحديث قواتنا المسلحة وأجهزتنا الأمنية على حساب البرامج الإنمائية. وهذا ما يستوجبُ بدوره ترسيخ عقلية التوافق والتنازلات المتبادلة بوصفها الوسيلة الوحيدة لضمان الاستقرار ومواجهة التحديات الاقتصادية (عجز الميزانية، تراجع قيمة الدينار، انخرام الميزان التجاري، شح الاستثمارات...) والاجتماعية (البطالة، عجز الصناديق الاجتماعية، تدهور البيئة...) بأيدي مُتكاتفة. غير أن ذلك يقتضي أن تكون بوصلة الحكومة الجديدة هي الاستجابة لنداء تونس وليس خدمة «نداء تونس»، فهل هذا ممكن؟
."Il y a beaucoup d’hommes de principe dans les deux "parties de l’Amérique, mais il n’y a pas de parti de principe
رشيد خشانة
- اكتب تعليق
- تعليق