د.كريمة البريكي : المثقف وسيطا بين العلم والرأي العام
أية علاقة بين المثقف والعلم والجمهور؟
احتل أهل السياسة و القانون والإعلام جميع المنابر تقريبا منذ قيام الثورة .وقد يكون لذلك أسبابه الموضوعية التي حتّمتها الظروف الثورية والانتقالية التي تعيشها تونس منذ أكثر من خمس سنوات .وفي تقديري انه آن الأوان ليقوم المثقفون بدورهم في هذه المرحلة الدقيقة من مراحل الانتقال الديمقراطي .ولا شك في أن المثقف يلعب أدورا مختلفة سأتحدث فقط عن واحد منها باعتباره ‘‘وسيطا '' بين ‘‘العلماء '' و'‘الجمهور'‘ أو ""الراية العام ''.وهو ما يعني أن المثقفين يشكلون فئة اجتماعية يحتاجها العالم المواطنين.’ كما يحتاجها عامّة
ولذلك كان -في رأيي- أول ما يجب بنا التذكير به هو التمييز الكلاسيكي بين ''العالم ''و'المثقف'' لندرك حقيقة وظيفة المثقف ‘‘كوسيط'‘ بين العلماء وعامة الناس. فالعالم قد يكون غير مثقف بحكم انقطاعه إلى اختصاصه الدقيق في العصر الحديث كما بين ذلك ا.كونت في الدرس الأول من ''دروس الفلسفة الوضعية إذ انتقلنا في العصر الحديث من ''العالم الموسوعي ''إلى العالم المختص وحتى الاختصاصات الدقيقة في مجال علمي واحد. وقد ترتب عن التخصص المتزايد فقدان النظرة العامة والأفق الرحب الذي كان يتمتع به العالم الموسوعي في العصرين اليوناني والعربي خاصة على غرار ما نلمس ذلك في المتن الأرسطي أو المتن السينوي . ولذلك رأى كونت أن تقون الفلسفة بمهمة تأليف بين المعرف قصد بلورة رؤية عامة يعي الفكر من خلالها وضعه العام ومعاني معارفه ويحدد درجة نضجها.فالفيلسوف ليس عالما ولكنه تحصّل على بنصيب من المعرف العلمية يجعله قادرا على تربية الفكر وتوجيهه في الاتجاه العام الذي تسير فيه العلوم
ويتحقق التقدم النوعي بفضل التراكم الكمي.
ولئن كنت لا أدعي أن الفيلسوف عند كونت هو ما نعنيه بالمثقف اليوم ’فانه يبدو لي انه يوجد قاسم مشترك بينهما وهوان الفيلسوف أو المثقف لابد أن يتوفر على جزء ولو قليل من العلم.ولذلك فأن العلم يمكن أن يستغنى عن الثقافة ولكن الثقافة لا تستغني عن العلم. فليس ثمة مثقف جاهل.
و''استغناء'' العلم عن الثقافة نعني به الاقتصار على الاختصاص الدقيق كأن لا يعنى عالم الرياضيات إلا بالمعادلات الحسابية فتلهيه تقريبا عن كل ما سواها فكأنما هو انقطع لذلك العلم انقطاعا كليا ينسيه شؤون الحياة ويجعله يغفل حتى عن موضع قدمه ’ كما تقول الأسطورة القديمة التي تزعم أن طاليس Thales سقط في بئر لم ينتبه إليه لفرط شغفه بالسماء ورصد ما يجري فيها من الظواهر.
والواقع يبيّن لنا أن القول بهذه القطيعة الكلية بين العلم والحياة العملية مما يندر في الحياة البشرية.فأسطورة طاليس المنعزل عن الحياة العامة تصححها أسطورة أخرى تجعل منه رجلا سخر علمه الفلكي ليصبح من أثرى أثرياء أثينا.ويعني ذلك انه مهما انزوى العالم وانطوى على نفسه في''برجه العاجي '' ’ فانه واقع بدرجات متفاوتة تحت ضغط الحياة العملية وهو بالتالي مدعو في وقت أو في آخر إلى أن يتخذ موقفا مما يجري حوله حتى وان لم يكن يعنيه مباشرة بصفته عالما
وهكذا فان تدخل العالم في الشأن العام يجعل منه مثقفا يلعب دور الوسيط بين إنتاجه العلمي والمجتمع.فاينشتاين وضع نظرية النسبية وهي نظرية رياضية معقدة ولكنه أيضا كتب ''تاريخ الأفكار في الفيزيا'' وهو نص على غاية من اليسر والوضوح دون التجاء إلى تصفيف المعادلات الرياضية .
وبناء على ما سبق نقول أن المثقف هو العالم أو المفكر المختص الذي يدعى بحكم ضرورات الحياة أو الاختيار الأخلاقي أو السياسي إلى التدخل في الشأن العام بنشر َضرب من الأفكار تكون على صلة وثيقة بالإنتاج العلمي من ناحية ’ وبالحياة الاجتماعية من ناحية أخرى ’باعتبار أن اختصاص العالم ذاته قد يدفع به إلى مثل ذلك التدخل ’ لان العالم هو باحث والبحث العلمي له متطلبات مادية وتقنية واجتماعية ، وبالتالي فمهما انزوي فلابد له من اتخاذ موقف من الحياة الاجتماعية التي هو فيها’أي أن العلم ذاته يدفع بالعالم إلى المواطنة فينتمي إلى نقابة أوالى تنظيم اجتماعي أو إلى حزب سياسي .فالعالم في العالم رغما عنه وليس في برج عاجي كما يقال.
ولا نعني بذلك أن تدخل العالم في الشأن العام يكون لحساب البحث العلمي وحده باعتبار ارتباط البحث العلمي نفسه بالكثير من المعطيات الاجتماعية مثل ميزانية الدولة المخصصة للبحث العلمي.وارتباط ذلك البحث العلمي بالاقتصاد الوطني وبالأوضاع الاجتماعية والفكرية من حيث هي أوضاع تشجع الباحث أو تحبط عزائمه.
ونتبيّن من ذلك أن تدخل العالم في الشأن العام إنما هو تدخل عام يتجاوز اختصاصه وظروف ممارسة الاختصاص ليكتسب بعدا وطنيا، بل إقليميا وعالميا. أي أن المثقف هو رجل الفكر عامة حين يتجاوز اختصاصه ليتخذ موقفا من الشأن العام في ارتباطاته الداخلية ومؤثرات الخارجية رغم أن انطلاقته قد تكون من موضوع أو وضع خاص جدا .ولذلك أمكن أن نقول أن المثقف هو الذي يضفي على الخاص صبغة الكوني أو يكتشف في الخصوصي الظاهر تعبيرا عن الكوني الخفي . ولعل ذلك ما عناه سارتر حين ذهب إلى أن الكوني هو همّ " المثقف '' الأساسي ’وانه الإنسان الذي ''يحشر انفه في ما لا يعنيه''.
لنقل إذا-اختزالا - أن المثقف هو من استطاع - بفضل تكوين محترم في علوم الطبيعة أو علوم الإنسان -اتخاذ موقف علمي من مسيرة المجتمع الذي ينتمي إليه ومما يجري في العالم الذي هو فيه.
بقي أن نتساءل عن طبيعية ذلك الموقف وعمّا يميزه عن بقية المواقف؟
إذا قلنا أن المثقف هو المواطن الذي اكتسب نصيبا من المعرفة تؤهله لإبداء رأي في الشأن العام سواء في بلده أو في العالم .’فإننا نقول في الوقت نفسه أن ذلك الرأي ليس إلا ''رأيا''’ أي انه لا يعتبر حقيقة لمجرد كونه صدرا عن عالم. ولا بدّ هنا من التمييز بين الراية والعلم .فالرأي مختلف عن العلم كما بين ذلك كانط في نقد العقل المحض. باعتبار أن القضية العلمية كافية ذاتيا وموضوعيا أي أنها تقنع قائلها وتقنع متقبلها على السواء ، وبالتالي فهي قضية كونية بحكم أنها برهانية . أمّا الرأي فهو قضية غير كافية ذاتيا وموضوعيا ، أي أن قائلها يعي تمام الوعي أن الرأي لا يقين فيه ، وبالتالي فهو ناقص بالضرورة ’ وهو قابل للحوار وهو غير كاف موضوعيا أي أن متقبله ليس مطالبا عقليا بالتسليم به.
والحقيقة أن هذا الوضع يستوي فيه العالم وغير العالم أي أن كل ذي رأي هو صاحب وجهة نظر قد تستهوي الناس لمنافعها أو لوقعها الوجداني ولكن ليس لقوتها المنطقية أو العلمية.
فهل لنا والحال تلك أن نضبط معيارا نميز بمقتضاه رأي العالم عن رأي أي مواطن أخر؟ هل رأي الطبيب مثلا في الصحة بالبلاد أجدر أو اقرب إلى الصحة من موقف بقية أعوان الصحة العمومية ؟ قد يكون ذلك إذا ما تعلق الأمر بالاختصاص ، وما يفترضه من علم إما إذا ما تعلق الأمر بالسياسة العامة بالبلاد وبالديمقراطية وأولويات التنمية فقد يكون رأي المواطن العادي أكثر وجاهة ’ بسبب قربه من الواقع المعيش واحتكاكه بالمشاكل اليومية ومعاناة مصاعبها. وبوجه عام فعلى قدر ما تكون المشاكل عامة على قدر ما تقترب الآراء من تساوى بعضها ببعض وبقدر ما تكون المسائل خصوصية على قدر ما يكون المثقف اقرب إلى وجهة النظر الصحيحة. وعند هذا الحد تتحول المسائل إلى مسائل سياسية أي إلى مسائل تخص عامة الناس.
أي دور للمثقف التونسي اليوم؟
ما هي –في ضوء ما سبق بيانه في الجزء الأول من هذا العمل –وظيفة المثقف عامة ؟ وما هي تدقيقا وظيفة المثقف التونسي في مرحلة الانتقال الديمقراطي؟ يبدو لي أن الوضع الذي نعيشه اليوم يلقي على المثقف مسؤولية تقريب المسائل النظرية إلى عموم الناس أي نشر الثقافة العلمية لتسلم المواقف من الدغمائية والانفعال وهو ما نسميه عادة بعملية تبسيط المعارف Vulgarisation.
واعتبارا لما يمكن أن تتعرض له العلوم من تسخير ايديولوجي مثل استغلال الانطروبولوجيا لدعم العنصرية أو العلوم البيولوجية لمناصرة أطروحة اللامساواة بين الرجل والمرأة بتحويل الفوارق الفزيزلوجية إلى فوارق قيمية وهو ما نسميه تزييف المعارف ’كان من الضروري تدقيق معنى ''تبسيط ''المعارف وخاصة كيف نميزه عن تزيف المعارف؟وكيف لنا أن نتحسس أبعاد هذا الإشكال ‘ النظري منها والعملي ’ على ضوء ما يعيشه الوطن من تحولات اجتماعية وسياسية
إذا ما عدنا إلى أ.كونت لنستأنس به لا لنقلّده ’ أدركنا أن السؤال الذي طرحه هذا الفيلسوف على نفسه هو اقتراح مخطط الهدف منه ''إعادة تنظيم المجتمع'' بعد حصول الثورة الفرنسية أي المرور من مرحلة الثورة بما فيها من مصاعب وأحقاد ومطالب وخصومات إلى وضع الدولة بما تتطلبه من نظام وإقبال على الإنتاج والعمل النافع .وهو وضع شديد الشبه بوضع تونس اليوم .
وهذه المهمة يجعلها كونت من مهام رجال الصناعة في حين يوكل إلى المثقفين من فلاسفة وفنانين ورجال القانون مهمة نشر قيم الفكر العلمي أو الوضعي الذي يلائم العصر الصناعي .وهو يعتقد انه كما كان الإنتاج الاقتصادي في العصر الوسيط بيد الإقطاع والتربية الروحية والقيادة الفكرية بيد رجال الكنيسة ’ فانه على المثقفين في العصر الصناعي والعلمي أن يحلوا محال الكهنوت المسيحي فهم قادة المجتمع في حياته الروحية كما أن الصناعيين هم قادة المجتمع في حياته الاقتصادية.
و المهم في هذا المذهب ليس مضامينه بل مقاصده وهي مقاصد تشير إلى أن المثقف يلتزم عفويا أو إراديا بحركة مجتمعه ويلتصق بطموحاته.وهو ما تعنيه إجمالا فكرة ''المثقف العضوي ''عند قرامشي الذي يعتبر أن كل طبقة اجتماعية تنشا على أرضية الإنتاج الاقتصادي’ تولّد بشكل عضوي فئة أو عدة فئات من المثقفين تتمثل وظيفتها في أن تصبغ تلك الطبقة المالكة لوسائل الإنتاج بضرب من ''التجانس'' Homogénéité ومن الوعي بدورها وبوظائفها وبأهميتها اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا .فإذا كان صاحب المبادرة الرأسمالية هو عند قرامشي أول أنواع ''المثقفين'' فانه يرى أن هذا المبادر الرأسمالي سرعان ما يوجد لخدمته التقني الصناعي وعالم الاقتصاد ورجل القانون الجديد والمثقف الذي يبدع ثقافة جديدة.ويعني ذلك أن المثقف ليس مستقلا بذاته لا في تفكيره ولا في معاشه سواء عند كونت أو عند قرامشي.
فكيف نفسر-والحال تلك- إصرار المثقف على ادعاء الاستقلال بالرأي والحرية في التفكير ؟ نكتفي بالإشارة إلى أن هذا الإشكال الذي طرحناه يتعلق بكيفية تصورنا للعلاقة بين الالتزام والحرية.فما يمكن أن تكون وظيفة المثقف التونسي اليوم بحيث لا يتناقض في حياته واجب الالتزام بما أراد أن يلتزم به مع حريته كمفكر؟
نعتقد أن الواجب الملقى على عاتق المثقف اليوم هو –قبل كل شيء - أن يصغي جيدا لما عبرت عنه الثورة من طموحات يوم اندلعت, وهي –إجمالا - طموحات سياسية طالبت بالحرية ‘ واقتصادية طالبت بالشغل.فالمطلب الأول يعني أن مسالة الحكم يجب أن تطرح في اتجاه الحرية بجميع معانيها الفردية والجماعية والفكرية الخ.وحين يترجم هذا الشعار سياسيا يصبح معناه المطالبة بالديمقراطية كنظام حكم .إما المطلب الثاني أي الشغل فهو يعني المطالبة بتغيير المنوال الاقتصادي حتى لا يحرم احد من عمل يكفل به استقلاله الشخصي فلا يكون عالة على احد لان الاستقلال المادي من متطلبات الحرية الشخصية وتحقق المواطنة في النظام الديمقراطي حيث يكون الإنسان محفوظ الكرامة .
وإذا اتفقنا على هذا الطرح أمكن لنا أن نستنتج وظيفة المثقف العضوي اليوم وهي في تقديري المتواضع نشر القيم التي نادت بها الثورة وهي الحرية والكرامة والمعاني اللصيقة بهما مثل أن الحرية لا تنفصل عن المسؤولية وان الحقوق لا تكون شرعية إلا بما يلازمها من الواجبات وان المنوال الاقتصادي الناجع والبادرة الاقتصادية الحرة لا تنفصل عن العدالة الاجتماعية .فالبعد الأول يحفظ البلاد من ويلات الفوضى وتعاسة الاستبداد معا.والبعد الثاني يكفل للبلاد تكاثر الخيرات من ناحية والسيطرة على مظاهر الاستغلال والأنانية
نحن إذا أمام منظومة من القيم تتطلب تضافر جهود علماء الاقتصاد والسياسة والفلسفة وعلم النفس والاجتماع والتربية حتى يتحقق التقارب بين النخبة أو الصفوة والجمهور وبين الاختصاصات الدقيقة وشيوع المعارف بين المواطنين .ولا ندعي أن هذه المنظومة القيمية كافية وحدها لتحقيق أهداف الثورة الوطنية ولكننا ندعي أنها ضرورية لتحقيق ما خلاها من القيم والمطالب.
فكيف للمثقفين أن يشيعوا العلم دون تزييف لحقيقته خدمة للكرامة و للحرية والمساواة والعدالة والمسؤولية؟
ولا بد أن نشير هنا إلى مسالة على غاية من الأهمية وهي أنّ العلم واسطة أو وسيلة في حين أن الحرية والكرامة والمساواة والعدالة _غايات سامية.والعلم واسطة في موضعين موضع إنتاجه على أيدي النخب العالمة في المخابر المتطورة حيث تكون له لغته التي تخصه ومناهجه الملائمة من ناحية وموضع شيوعه في صفوف المجتمع من ناحية أخرى.
فالمرور مما يسمى 'النخبة " إلى "الجمهور" هو مرور من مواقع إنتاج العلم بطقوسها وآدابها ’وقوانينها الذاتية , إلى مواقع استهلاكه أو استخدامه شتى ضروب الاستخدام . ويكن أن نقول أن مطلب العلم في مواضع إنتاجه هو القانون العلمي أو قل الحقيقة الموضوعية في تجردها.إما مطلب نشر العلم فهو الفهم في خدمة الحرية والكرامة والمساواة والعدالة.فهل أتيحت للجامعة التونسية باعتبارها مؤسسة علمية أن تساهم في نشر نتائج أبحاثها في المجتمع حتى يفهم التونسي معاني المواطنة والديمقراطية؟
ولئن كان المجال لا يتسع في هذا الموضع للوقوف على رهانات "التبسيط المعرفي" La vulgarisationأي إدخال العلم في النسيج الثقافي وإدماجه في بنية الوعي الجمعي فانه يجدر بنا أن نعي ما في ذلك المسار من المزالق التي قد تفضي إلى نقيض ما نريد أي إلى نفي الحرية .وهاهنا تكمن أهمية دور المثقف العضوي بحق وحقيق ويظهر بإلحاح ما ينتظره من تبديد سحاب الدجل الذي تنشره فضائيات واسعة الانتشار؟.
ونحن نشير في هذا السياق إلى ممارسات منتشرة من خصائصها استبدال المفاهيم بالكلمات الطبيعية أي اللغة العلمية /الاصطلاحية الرياضية باللغة الطبيعية والاستعاضة عن المعاني المجردة العلمية بالمجازات والصور بدعوى التقريب إلى الأذهان.
ويكفي في هذا السياق أن نسائل المجازات والصور االزائف من للتعبير عن العلاقة بين المواطن والدولة حيث ينزل بها الشيوع المزيف إلى المجاز الرعوي فيصبح الحاكم راع والشعب قطيعا أو المجاز الأبوي حيث يكون الحاكم أبا والشعب أبناء قصّر أو المجاز البيولوجي حيث يكون المجتمع جسدا والحاكم طبيبا .وفي هذه المجازات التي تطالعنا بكثير من الوضوح الزائف من قوة التخدير ما ينتفي معه الحس النقدي.
فالمجاز الأول يفترض أن الحاكم هو الذي يضمن للشعب غذاءه كما يضمن الراعي لقطيعه غذاءه ‘ والحال أن الشعب هو الذي يغذي الحاكم وليس العكس.إما المجاز الأبوي فان ما فيه من حميمية وما يثيره في السامع من وجدان ’ يخفي ما فيه غش ومن تسلط إذ يحكم على الشعب بالقصور والتبعية .
إما المجاز الطبي فهو يقوم على قياس المجتمع بالجسد في حين أن الفوارق بينهما كبيرة.فالجسد يحقق طبيعيا انسجام أعضائه في حين أن انسجام المجتمع مع نفسه لا يكون إلا بإرادة الأغلبية من أفراده.فالانسجام الأول آلي ولاوعي فيه ولا خيارات له ’ والثاني إرادي وواع واختياري .وعلى تلك الإرادة وذلك الوعي وذلك الاختيار تأسست نظريات العقد الاجتماعي باعتباره أساس النظم الديمقراطية المبنية على حرية المواطن.
وإذا كان للمثقف من دور – في نظري يمكّن له من أن يترفع عن التحزب دون أن يتهم بالانزواء في برجه العاجي ’ويمكّن له من آن ينحاز دون آن يتهم بالخيانة أو العمالة , ويمكّن له كذلك من الدفاع عن القيم الكونية دون أن ينبتّ عن خصوصية أرضه وأهله ’ فهو دور الدفاع عن القيم الأساسية التي نادت بها الثورة الوطنية ولا سيما قيمتي الكرامة والحرية وما ينجم عنهما من قيم كالعدالة الاجتماعية والمساواة بين المواطنين نساء ورجالا ...الخ
وعند هذا الموضع نتبين خصوصيات تدخل المثقف في تونس اليوم.فهو مدعو إلى أن يواجه ضروبا من الأقاويل التي غايتها إما صرف النظر عن إشكال الكرامة والحرية والتلهية عنهما وذلك بإثارة مشاكل هامشية أو ثانوية أو على الأقل غير متأكدة في الظرف الحالي أو بالتلهي بإشكاليات خيالية هي ابعد ما تكون عن مطالب الثورة.وهو مدعو إلى نشر قيم الحرية والعدالة حتى تصبح بعدا أساسيا من أبعاد نسيجنا الثقافي ووعينا السياسي.
وإذا كان لي أن أوجز القول في وظيفة المثقف اليوم ليكون حقا في خدمة أهداف الثورة الوطنية لقلت انه على المثقف الحق أن ينشر بين جميع شرائح المجتمع مقالة كانط التي عرّف بها عصر الأنوار وهي :تجاسر على التفكير بنفسك Aude sapere .ويحسن أن نضيف إليها مقالة كونت الشهيرة التي كان الزعيم بورقيبة يكثر من التذكير بها في إطار نشر أخلاقيات التضحية و نكران الذات :عش للآخرين Vivre pour autrui
د.كريمة البريكي
- اكتب تعليق
- تعليق