د. احميده الـــنيــفــر: الفتوى ومعضلة المناعة المؤسّساتية
1- عندما تأكّدت شركة «مونيي (Menier) الفرنسية التي اشتهرت بصناعة الشكلاطة أن عدم إقبال التونسيين على منتوجها يهدد بالكساد التّام، التجأت إلى شيخ الإسلام الحنفي «أحمد ابن الخوجة» ليصدر فتوى بإمكانية استهلاكها. كان ذلك مع نهاية القرن التاسع عشر عقب ما شاع في تونس من أن من مكونات الشكلاطة المطروحة في الأسواق شحم الخنزير.قدمت الشركة الفرنسية لكبير رجال الإفتاء كشفاً بالمواد الأساسية التي اعتمدت في صناعة هذه المادة الجديدة على التونسيين وبيّنت له طريقة تصنيعها عملياً والفوائد المنجرّة عن استهلاكها. بعد التمعّن والدرس أقرّ الشيخ حِلِيَّة أكل الشكلاطة مثبتا أنها:«من ثمرات الأرض وأنها مركّبة تركيبًا خاصًّا غير ضارة فتشملها الآية الشريفة «هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً» شمولاً لا تشمله شعوذة الريب فهي حلال بحت».
وقع طبع الفتوى في كتيّب صغير وُضع مع كل علبة شكلاطة تشجيعاً على قبول هذه السلعة التي كانت تحيط بها «شبهات» حِرمة. ما حصل إثر ذلك من ردّ فعل جمهور من التونسيين أساء إلى الشيخ الجليل.لقد ظهرت شعارات مناهضة لشيخ الإسلام تلمزه بعبارت مفادها أنه بهذه الفتوى باع ذمته بثمن بخس. كان ثمن علبة الشكلاطة «صوردي فكان الباعة ينادون في استخفاف لاذع: «شيخ الإسلام بصوردي». في ذات الفترة كان الشاب عبد العزيز الثعالبي يكتب في «سبيل الرشاد»، الصحيفة التي أسّسها سنة 1895، مقالات لم تكن لترفع من مكانة شيخ الإسلام والمؤسسة الإسلامية التقليدية بقدر ما كانت تعرّضهما إلى الاهتزاز والتجريح مما فتح باب التّبخيس الذي ظل متصاعدا بعد ذلك بصورة لافتة.
السؤال الذي يطرح نفسه ما هو الخطأ في فتوى الشيخ عن الشكلاطة؟
2- للإجابة لا بدّ من التّذكير أن هذه الفتوى لم تكن استثناء في سجل الفتاوى المثيرة للجدل في تاريخ المسلمين القديم فضلا عن الحديث والمعاصر. في الغرب الإسلامي وقبل فتوى الشكلاطة بقرون طُرحت أسئلة عديدة خاصة بعد التوسّع النورماني وما أدى إليه من خروج صقلية من حكم المسلمين في القرن الحادي عشر ثم تكرّر الأمر بعد ذلك إثر «حروب الاسترداد» في القرن الخامس عشر م. في الحالتين كان المستفتون يسألون: هل يجب على المسلمين مغادرة صقلية ثم الأندلس أم يحلّ لهم البقاء فيهما؟
في القرن التاسع عشر مع احتلال الجيوش الفرنسية للجزائر أعيد طرح السؤال المحيّر وتنوّعت الإجابة وعاد بعض رجال الإفتاء إلى أشهر مرجع ألّفه قديما أبوالعباس الونشريسي بعنوان:«أسنى المتاجر في بيان أحكام من غَلَبَ على وطنه النصارى ولم يهاجر وما يترتب عليه من العقوبات والزواجر».
في الشرق العربي- الإسلامي توالت المستجدات والنوازل مثيرة حيرة الفئات الواسعة من المجتمع وحرج رجال الإفتاء. من ذلك نذكر ما واجه المطبعة من حظر ظل حتى عام 1726م عندما أعلن الشيخ «اسحقزاده افندي» في إسطنبول رفعه وأنه «يتوجّب شكر الله على هذا الفن البديع»، مُنهياً بذلك فترة منع طويلة شملت الطباعة وكل كتاب غير مخطوط. في جهات أخرى من عالم المسلمين كان السؤال والمنع متعّلقين بالهاتف واصطحاب المصحف إلى بلاد الفرنجة والقهوة والطماطم والدراجة ولبس البنطلون والبرنيطة.
لقد فُتِح بابٌ للسؤال والفتوى يعسر سدّه لكونه مثيرا للقلق أو الاستخفاف أمام ما يسميه البعض «تديين الحياة».
هل يمكن لهذا موافقةُ من يقول إنه: «لم يَعبث شيءٌ بالإنسان العربي مثلما عبثت به الفتاوى. أليست الفتوى بحدّ ذاتها نوعا من التناقض؟ إذ كيف يمكن لإنسان أن يصدر فتوى يحدّد فيها «رأي الله» في قضية ما؟وهل الإفتاء نوع من «التألّه» وادّعاء العصمة؟»
3- في هذا المستوى لا بد من التنبيه إلى أن الفتوى في الإسلام،خلافا للقضاء، حكم شرعي غير مُلزم فادعاء العصمة فيه غير وارد. وهي لا تصبح ملزمة إلا عند تعلقها بالمصلحة العامة المؤكَّدة.
من جهة ثانية فإن المفتي لا يُصدر فتواه في النوازل خاصة ذات الصبغة الحضارية وهي التي تثير جدلا في الغالب، إلا بامتلاك ناصية فقه الواقع. هو فقه يقتضي فهما يتحقّق عبر تدّرج ضروري لمراحل أساسية تسمح باستيعاب متكامل للجوانب المختلفة المتّصلة بموضوع السؤال. ينطلق الفقيه في ذلك من تصوّر للنازلة المعروضة في واقع الحال منتهيا إلى إصدار الحكم الشرعي بما يقتضيه من تنزيل له في الواقع بملابساته وأبعاده. يسهم ضمن هذا التدرج الفقهي الخبراء المختصون في المجال الذي تنتمي إليه القضية المعروضة(الطب – المالية – الاقتصاد- الفلاحة- الاجتماع إلخ ...) بما يتيح للفقيه القدرة على تكييف المسألة بإدراجها ضمن القاعدة الشرعية التي تشملها. عند ذاك يتبين للمفتي الحكم النظري الذي سيصدر منه في فتواه.
بالعودة إلى فتوى الشكلاطة، وهي من النوازل ذات الصبغة الحضارية وبالنظر إلى أولوية فقه الواقع، يتبيّن أننا أمام مسألة تتشابك فيها اعتبارات متصلة بذات المنتج المعروض وهل يحتوي على محرّمات تنجم عنها مفاسد ومضار مع اعتبارات مصاحبة تجب مراعاتها لما تتسبب فيه من إضرار بسلامة المجتمع الأهلي وقدراته الاقتصادية والاجتماعية نتيجة إقحامه في منافسة قاهرة تقضي على إمكانياته وتماسكه.
في خصوص فتوى الشكلاطة، ندرك أنها شرعيا،حلال في ذاتها يصحّ استهلاكها باعتبارها نعمة وغذاء يتركب من عناصر تنبتها الأرض لكنها وفي السياق الكولونيالي تصبح ممنوعة بالنظر إلى مآلها الضار بالواقع الوطني الأهلي. هذا ما يسمح بالقول إن جواب شيخ الإسلام عن سؤال شركة «مونيي» الفرنسية صحيح جزئيا وقاصر في منتهاه وهو في ذلك يكشف عن وعي ديني مفتقر للوعي التاريخي ومستلزماته. تلك علّة من علل عالم المسلمين في خصوص هذه المسألة وفي المسائل الشبيهة بها.
4- هذا ما يجعلنا لا نتفق مع التبسيط المُخِلّ الذي يرى في الفتوى «تَأَلُّها» وسببا رئيسيّا في فوضى العالم العربي. الأصوب هو معالجة القصور من جذوره أي من افتراق الوعي الديني عن الوعي التاريخي وهو الافتراق الذي تظافرت عناصر متعددة على تكريسه والذي يتطلب معالجة من ثلاثة مداخل متكاملة:
- تغيير نوعي في طبيعة التكوين العلمي والفكري والثقافي الذي يتلقاه الفقيه والمفتي بما يجعله وفق النظر الخلدوني مجالا واحدا و«صنعة أساسية من صنائع العمران» التي تصاغ ضمنه الشخصية الحضارية للجماعات القادرة على بناء التّمدنّ.
- انهاء عصر الإفتاء الفردي والدخول إلى عصر الإفتاء الجماعي المجلسي الذي يتمكّن فيه الفقهاء والأئمة والعلماء وخبراء الاختصاصات المختلفة من التفاعل الإيجابي بما يضع حدّا للعلاقة اللاتاريخية بالماضي منشئا بذلك وعيا تاريخيا يمسك بسيرورة الحضارة وخصوصياتها.
- العمل على ترسيخ المناعة المؤسّساتية القائمة على إرساء خطاب ديني جديد ومتجدّد قادر على تحصين الفرد من جهة ومعبّر عن يقظة العقل الاجتماعي الدائم التحفز بما يتميز به هذا الخطاب من معاصرة وقدرة تواصلية وفكر نقدي تطويري متوازن. هي معالجة مركّبة لمجال حيوي تسمح بمغادرة مواقع الدفاع العاجز أو جلد الذات وتبخيس عناصرها ومؤسساتها، وهي استحضار لحكمة قديمة تجد اليوم كل ألقها ونسغها جاد بها «هيراقليط» (576 - 480 ق. م.) حين قال: «اليقظون ساعون في عالم واحد أما النيام فهم ساهمون كلٌ في عالمه».
د. احميده الـــنيــفــر
- اكتب تعليق
- تعليق
