رحلة في السّنوات
2066: كان سي عثمان فياّلة، معلّمي في سنوات الابتدائيّ، في مدرسة طارق بن في القيروان، يقول لنا: «الكتابة مرآة الرّوح! انظروا إلى فرحات كيف يكتب الألف مقوّسةً منحنية فصار ظهره مقوّسا، وطاهر يكتب الصّاد بكرش!»، وطاهر يضجّ بالضّحك حتّى تهتزّ كــــرشه؛ «... وعمّـــار كأنّه يحرث الورقـــة حــــرثا! خطّه ثقيل مثل خَطْوِه؛ أمّا نعمــــان، فتاؤه المفتوحة منغلقــــة تكاد تصير تاءً مربوطة، يا نعمــــان، لا تنغلق على نفســــك، وشارك أصحابك لَعِبَهم وعــــراكهم! الصّحبي سيّد الخطّ الجميل، ربّما كان خطّه نحيفا، ولكنّ ذلك لا يعيب، السّهم أيضا دقيق نحيف!».
ومع تقدّم العمر، بات خطّي غليـــظا سميكــــا، فأحـــاول أن أرفع قلمي ولكنّ يدي لا تطاوعني؛ كأنّي نسِيـــت حكمـــة سي عثمان فيّالة: «لا تكتب بيدك، ودع روحــك تقود قلمَك!». وعدتُ هذه الأيّام إلى تماريني الــــرّياضـــيّـــة، وكنت هجرتها منذ سنوات، وصديقي نور الدّين الرّياحي يثنيني، وهو الخامل الكسول: «لماذا الجهد والتّعب، وجسدك في أفضل حال، مفتول ممشوق؟»، وأنا أبسط أمامه أوراقي: «ألا ترى كيف صارت الألف مقوّسة منحنية والصّاد أُمّ كرش؟».
سنة 2067: أنا متأكّد أنّ الرّجل الذي التقيتُه هذا الصّباح من صيف 2067 هو «فرحات الزّايدي»، ورغم أنّ الرّجل أنكر أن يكون هُوَ هُوَ، فأنا متأكّد أنّه هُوَ! فلا أحد يستطيع أن ينسى فرحات، لأنّه بكلّ بساطة شخص ليس له في الوجود مثيل! و»فرحات» رفيق دراسة كان يقاسمني نفس الطّاولة في سنتنا الرّابعة من التّعليم الابتدائيّ في مدرسة طارق بن زياد في القيروان في أوائل السّتّينات من القرن الماضي؛ وكنت التحقتُ بالفصل متأخّرا شهرا وبعض الشّهر بعد أن انتقلتْ عائلتي من مدينة الوسلاتيّة إلى القيروان، والمعلّم سي الحبيب القلاّل يشير إليّ:»اجلسْ هناك!»، وكان فرحات يجلس وحيدا في الطّاولة الأخيرة إلى يمين القاعة، وبدا لي يمين القاعة مظلما أو به بعضُ غبش، رغم النّافذة الواسعة العريضة التي تطلّ على السّاحة الفسيحة! واكتشفتُ في أوّل حصّة حساب أنّ فرحات لا يعرف العدّ إلاّ إلى سبعة، فسبعة هي بالنّسبة إليه أكبر الأعداد على الإطلاق! وهو يستعين بأصابعه في الجمع والطّرح، وكان في يمناه خمسة أصابع، وفي يسراه إصبعان اثنان، السّبّابة والأبهام! وسرعان ما رفعنا الكلفة بيننا، وتلك ميزة الأطفال قبل أن تلوّثهم أدران الحياة! وقال لي مرّةً وهو يمسك يسراي: «أطبقْ أصابعك هذه، أنت لا تحتاج إلاّ إلى اثنين!»، وأسأله: «ولماذا خلق الله في كلّ يد خمسًا؟»، وهو يجيب: «أخطأ الحساب!»؛ وبدأتُ أمرّن وأتمرّن حتّى استقرّ في يقيني أنّ صاحبي كان على صواب وأنّ الله أخطأ الحساب! اثنتان تكفيان! تكفيان للكرة وللحجر وللزّناد؛ وباتتْ أصابعي الثّلاثة مُطْبقةً طول الوقت كأنّها ليست منّي؛ والرّجل الذي التقيتُه هذا الصّباح من صيف 2073، يفرد السّبّابة والأبهام في يسراه، ويقول لي، وهو حائر متردّد كيف يرفع الكلفة بيننا، وذلك عيبٌ في الرّجال إذا لوّثتهم أدران الحياة: «معك حقّ، اثنتان تكفيان!».
الصّحبي الوهايبي
- اكتب تعليق
- تعليق