الخريف العربي في التّناقض ما بين الثورة والديمقـراطية
صدر مؤخرا عن منشورات كرم الشريف كتاب «الخريف العربي» في التناقض بين الثورة والديمقراطية. بقلم الدكتور أيمن البوغانمي الباحث والمدرس في جامعة السربون بباريس وصاحب البحوث والدراسات والمقالات العلمية المتخصصة في السياسة والجيو - اقتصاد في الصحف التونسية والعربية والأجنبية بالعربية والفرنسية والإنقليزية.
فلئن جاء العنوان صادما بحكم قطعه مع مفهومي الربيع العربي والثورة الديمقراطية فإن المحتوى لا يعكس التشاؤم الحتمي الذي ميز الخطاب السياسي السائد في العالم العربي بعد أن خبت حماسة الثورة وذبلت أحلامها الوردية.
وليس التشاؤم في هذا الكتاب موقفا، لأن الكاتب أقرب إلى التفاؤل، خاصة في الحالة التونسية التي اختارها نموذجا تجريبيا لتوضيح تحليله النظري. ويبقى رأيه محكوما بضرورات العقلانية التي ولئن كان من بينها شيء من التشاؤم الجوهري بحكم رفضها المبدئي للاستسلام لأي تأويلات قائمة على التبسيط مهما كان مبررها، فإنها لا تنفي التفاؤل في حال توفرت شروطه.
ومن أبرزها في الحالة الثورية ضرورة الحفاظ على مكتسبات الدولة والمجتمع دون الوقوع في هوس القطع مع الماضي، ذلك الهوس الذي من شأنه فرض شرخ في نسيج التجربة التاريخية، بما يعيق مسيرة التطور الطبيعي للمؤسسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
وإذا لم يكن التشاؤم موقفا، فما موقعه إذا في هذا المؤلَّف؟
إنه ببساطة واحد من أبرز المواضيع التي يتطرق إليها الكتاب بالتحليل والنقد، مذكرا بأن هذا الشعور قد تلى شعورا يعادله حتمية وإطلاقا وإن ناقضه توجها وانتظارا ألا وهو التفاؤل الرومانسي الذي هيمن على المرحلة الثورية الأولى، والذي تسبب في إنشاء سرديات مغرقة في المثالية والتبسيط عن الماضي وعن المستقبل. وسرعان ما أدرك الواقع هذه السرديات، فانقلبت على أصحابها يأسا ومرارة.
وبالتالي يكون الخريف العربي نتيجة لربيع لم يعلم أصحابه حدوده ولم يستوعبوا طبائعه. وبهذا المعنى لا يكون الخريف نقيض الرَّبيع بقدر ماهو وجهه الأخر.
وبالنسبة إلى الحالة التونسية على الأقل يرى الكاتب أنه لا يزال بالإمكان تحويل الخريف الثوري إلى ربيع ديمقراطي إن تسلَّح أهله بقيم الواقعية والعمل. فلا تناقض بين الخريف والربيع إذا إلا من زاوية النظر والتمثل والشعور. وفي المقابل يبقى السؤال: لمَ القول بالتناقض بين الثورة والديمقراطية؟
يمثل التناقض بين الثورة والديمقراطية أطروحة الكتاب الرئيسية. وهي بالتأكيد صادمة، لا بسبب التمثلات الشعبية لهما فحسب، بل بحكم القيم المشتركة والعلاقة الأصولية التي تربط نظريا الواحدة بالأخرى. وهي علاقة تبرِّرها حجة الضرورة المنطقية بما أن الدكتاتورية عادة ما لا تفسح المجال أمام الديمقراطية إلا كرها.
ورغم إقراره بهذه الأبعاد ووعيه بتبعاتها المفهومية يصر الكاتب على القول بالتناقض بين الثورة والديمقراطية، معتبرا أن العلاقة السببية بينهما قائمة على خلاصات حدسية ومنهجيات استنباطية تتجاهل حقيقة التاريخ...
وينبع التناقض ابتداء من حاجة الثورة إلى التغيير الراديكالي الذي يقبل بالخروج عن القانون ويصل أحيانا إلى حد شرعنة العنف في حين أن الديمقراطية تقوم على التدرج في الإصلاح من داخل المنظومة القائمة.
وهو ما ترفضه الثورة على أساس أنها بعث جديد يهيمن على ما سبقه وقد يصل في هيمنته تلك إلى حد النفي. فتكون النتيجة أن الثورة حين تطالب بالديمقراطية تتناقض مع ذاتها فتحكم على نفسها بالفشل المسبق. ويكون ذلك عادة من خلال إطلاق ديناميات لا مجال للسيطرة عليها إلا بإعادة إنشاء نظام حكم قوي يتحدث باسم الثورة ويسيطر على الدولة ويقصي كل منافسيه وفي ذلك إعادة لبناء الديكتاتورية باسم الثورة.
ويفترض هذا النموذج وجود اختلال في توازن القوى يستفيد منه أحد الأطراف ليقدم نفسه مجسّد لقيم الثورة وكحام لمكتسباتها فينتقل بمطلب الثورة من الديمقراطية إلى حرب الثورة المضادة، حتى إن كان ذلك على حساب الحريات والمساواة.
وفي حال غابت قوة منسجمة تملك الرغبة في الهيمنة والقدرة عليها، تجد الدولة نفسها موضوع منافسة محمومة قد تؤدي إلى تفككها تدريجيا. مما يفرض نموذجا أشد خطورة من سابقه بحكم أنه يفتح الباب أمام الاحتراب، وصولا أحيانا إلى الحرب الأهلية وتبعات هذا النموذج على العقد الاجتماعي من الخطورة بحيث تفسر القول بأن الثورة كارثة سياسية، وإن كان الكاتب يصر على تحميل النظام السياسي الذي أدى إليها المسؤولية الأخلاقية عنها، بحكم فشله في تجنب الشروخ من خلال الإصلاح والتعاطي الإيجابي مع أسباب الثورة سياسية كانت أو اقتصادية أو اجتماعية أو ثقافية. أي أن الثورة قد تكون ضرورة تفرضها مقاومة النظام لسنن التطور، مما قد يؤجل التغيير حينا، ولكن مع تحويله من التدرج إلى القطع، ومن النسبية إلى الإطلاق ومن الإصلاح إلى الراديكالية.
إن الوعي بطبيعة الثورة ومحاذيرها ضروري لاستيعاب تحدياتها ولكنه مفيد أيضا لتقييم مراحلها موضوعيا، كما يسعى الكتاب لبيانه من خلال الحالة التونسية التي نجحت في تجنب كلا النموذجين المذكورين. ذلك أن ديناميات المناخ الثوري قد أضعفت الدولة، ولكنها لم تكن من التهور بحيث تؤدي إلى انهيارها كما لم تستطع أي من القوى التي ركبت هذه الديناميات أن توفر من القوة الفعلية ما يكفي لإقصاء منافسها. وهو ما دفع بالتجربة إلى نموذج ثالث تميز برخاوة تمظهرت سياسيا من خلال عقيدة التوافق التي حالت تدريجيا محل أحلام الثورة وقد تسبب هذا التوجه في مرارة عبّر عنها الخطاب السائد من خلال اليأس الذي يبرر ذاته بفشل الثورة في تحقيق غايتها.
وهو حكم مبالغ في التشاؤم لأنه لا يأخذ بعين الاعتبار حجم المنزلقات التي مكّن اعتدال تمشي التجربة التونسية من تجنبها.
ولئن أقر الكاتب بما في ذلك من ايجابيات واعدة، فإنه يحذر في المقابل من أن شكل الدمقرطة التي آلت إليها التجربة التونسية غير كاف. فطول أمد رخاوة التغيير قد يعيد البلاد إلى المربع الأول، فاسحا المجال أمام الأخطار التي كان الاعتدال قد مكن من تجنبها. ففقدان روح القيادة والقدرة على ممارسة السلطة فرضا للإصلاحات الضرورية قد يعيق نسق التغيير بحيث يكتفي المسار بديمقراطية شكلية توفر الحريات السالبة دون الانتقال بها إلى أبعادها الموجبة كدولة القانون والمساواة في الفرص وتحرير المبادرة الفردية. وفي ذلك تذكير بأن الدمقرطة لا تكفي لتجاوز تناقضات المناخ الثوري، وإن أسهمت في التقليص من وطأتها إلى حين.
- اكتب تعليق
- تعليق