من الطّبخ التّـــونسي الأصيل إلــى السَّندْويـــتْـــشْ الهجيـــن
كنّا جالسين إلى طاولة الغداء في مطعم أحد النّزل الفخمة ذي الخمسة نجوم، قريب من مدينة سوسة، خلال صائفة سنة 1969. والمناسبة كانت إجراء آخر التّمارين على مسرحيّتـــي «ثورة صاحب الحمار» بإدارة الفنّان علي بن عيّاد وإخراجه، وبتمثيل مجموعة كبيرة من الممثّلين من فرقة مدينة تونس للمسرح، ومن ممثّلين أحرار، وتقنيين، وذلك لتكون هذه المسرحيّة في افتتاح مهرجان المغرب العربي للمسرح بعد أيّام قليلة، هذا المهرجان الّذي أعطى الكثير والكثير جدًّا إلى المسرح التّونسي والمسرح الجزائري والمسرح المغربي.
كنا ثلاثة: علي بن عيّاد، وضيفه مصطفى كاتب الفنّان والمخرج الجزائري الكبير مدير دار الأوبرا الجزائريّة، وكاتب هذه السّطور.طلب علي بن عيّاد من النّادل أن يزيّن الطّاولة بمفتّحات تمهيدًا لأطباق الأطعمة الّتي طلبها كلّ واحد منّا حسب ما يشتهي ويميل...
انتظرنا وطال انتظارنا، ومللنا وطال مَلَلنا، وجُعنا، وكادت السّاعة تشير إلى الثّالثة بعد الظّهر. وغضب علي بن عيّاد فنادى النّادل بحنق... قال النّادل: سوف آتيكم بالحاضر من الطّعام. وفعلاً، أتى بعد قليل، وهو يحمل صحنا عاديًّا عليه سفنّارية (جزر) مطبوخة في الماء!!!
صاح علي: اعمل عِجّة وهز ها الصحن!!!
النّادل: عِجّة؟ نحن في خمسة نجوم!... عِجّة؟ شيء مستحيل!... تعلّمتُ الطّبخ في ألمانيا... أرسلتني الدّولة في تربّص!!!...
علي: يا حسرة عليك!... إذن لم تتعلّم الطّبخ في دار أمّك؟؟؟... وتتعلّم في ألمانيا؟! مصيبة! أحبّ عجّة بالمرڤـاز على كيف كيفك!!!
كان جانب من التّونسيين خلال السّتّينيات والسّبعينيات من القرن العشرين يحتقر الأطعمة التّونسيّة، ولا يرى أنّها تحظى بشرف الطّبخ في المجال السّياحي، ولا في المجال الرّسمي الحكومي، ولا في المجال الرّاقي ماليًا واقتصاديا واجتماعيًّا. ويَنْعَتُ هذه الأطعمة في مجملها بأنّها «تَمَرْمِيطْ» و«تَبَلْبِيزْ» «وتشكشيك» و«مَاكِلْةْ المِيزِيرَيهْ» محتجًا على من يفضّل الطبخ التّونسي على أيّ طبخ أجنبي بالتّعبير الشّهير: «خَنْفِسْ دَنْفِسْ بَاتْ مِتْعِشِّي» وهو تعبير يحتقر الطّبخ التّونسي، ومن يأكله.
ورغم هذا الاحتقار الكبير، وهذا الإقصاء الشّنيع من أولائك التّونسيين فإنّ تونسيّين آخرين قد تطوّعوا لكتابة مؤلّفات في الطّبخ التّونسي والمأكولات والأطعمة التّونسيّة. وبالإضافة، قد تمّ اكتشاف مؤلّف أجنبيّ (فرنسي من رجال الاستعمار) فأعيد نشر تأليفه الّذي يُقَدّر جوانب عظيمة من الطّبخ التونسي، ويذكر أصنافًا جيّدة راقية منه، ممّا زاد أهل السّياحة قناعة للدّعاية لفائدة الطّبخ التّونسي، ولترويج إنتاجاته المختارة خاصّة. هذا بالإضافة إلى بعض المتحمّسين للطّبخ التّونسي، الّذين أقاموا تظاهرات للأطعمة التّونسية في مستوى البلاد كلّها، وفي مختلف الجهات: مثل الكاف وباجة وسليانة وجهة الجَريد وجهة الجنوب الشّرقي وجهة صفاقس وقرقنة وجهة القيروان وجهة سوسة والسّاحل... وهي تظاهرات قليلة للأسف على أهمّيتها وقيمتها...
على أنّ ثمّة استثناء عظيمًا بين الأطعمة التّونسيّة، وهو يستقطب رضى المحتقرين للطّبخ التّونسي والمحبّين له سواء بسواء، وهو الكسكسي وخاصّة التّونسي بالذّات. وأغلب رأيي - إلى ما يخالف تاريخيًّا ذلك- أنّ رجال الاستعمار الفرنسي ونساءه هم الّذين قاموا بالدّعاية الإيجابيّة جدًّا لفائدته في باريس بل في جميع أقاليم فرنسا. وقد زادت الدّعاية تركيزًا وانتشارًا عندما عاد الاستعماريون إلى بلدانهم ومدنهم الأصليّة بداية من استقلال تونس سنة 1956، وقد تبعهم سنة 1967 التّونسيون اليهود الكثيرون الّذين فتحوا فيما بعد مطاعم تونسية وشبه تونسية في حي مُونْمَارْتِرْ، والحي اللاّتيني، وحتّى في حي سَانْ جَرْمَانْ الفَاخِر بباريس.
وقد تصدّر الكسكسي التّونسي المرتبة العليا فوق الكساكس الجزائريّة والمَاليِّة والنّيجيريّة واللّيبيّة والصّحراويّة، ونافس حتّى الكسكسي المغربي منافسة شديدة رغم الاختلافات الرّقيقة بين الكسكسَيْن الشّقيقين حسب رأي النّخبة السّياسيّة والثّقافيّة الفرنسيّة اليوم، لاسيّما إذا كان الكسكسي التّونسي ربيعيًّا أو خريفيًّا... لكن –للأسف- تنقصه الدّعاية السّياحيّة الضّروريّة في جميع الأقطار الغربيّة بلا استثناء. وعلى كلّ، فالكسكسي صار الطّبق المختار الأوّل على طاولة الشّعب الفرنسي منذ السّنوات الماضيّة، وصار ضمن الصّناعات الغذائية عندهم.
وفي أصناف الطّبخ التّونسي، هل لا يوجد إلاّ طبق الكسكسي؟ بل الطّبخ التّونسي ثريّ بالمأكولات والأطعمة المتنوّعة. ورحم الله من قال وردّد: إذا أردت أن تتعرّفَ إلى بلد فما عليك إلاّ أن تتناول أطعمته. ذلك أنّ الطّعام جزء عظيم من ثقافة ذلك البلد ومن حضارته...
وهل الطّبخ التّونسي ثريّ حقًّا بالأصناف والأجناس والأنواع؟ اعتمدت تونس خلال العصور القديمة على تقاليدها العريقة في إعداد المواد العجينية مثلاً، وعلى ذوقها المرهف الّذي يعرف جيّدًا عناصر الحلو والمالح والحامض مع تحديد مقاديرها الدّقيقة... واقتبست تونس من جاراتها في البحر الأبيض المتوسّط أطباقًا من المأكولات والأطعمة، لكنّها حوّرتها حسب مقتضيات الزّراعة ومتطلّبات الآكلين: اقتبست من موائد الأمازيغ، ومن تركيا العثمانيّة، وإيطاليا، والإغريق، وإسبانيا، والأندلس، وفرنسا، وإفريقيا السّوداء خلف الصّحراء الكبرى، وحتّى من بعض بلدان أمريكا الجنوبية... وهكذا أنتجت أطباقًا مبتكرة لا يوجد مثلها في بلدان أخرى من المغرب الكبير ومن العالم العربي...
وقد كانت في المدينة العربية منذ الأربعينيات من القرن العشرين وفي الأرباض المحيطة بها كباب سويقه، والبِيـڤـَهْ، وباب المنارة، ونهج المَرْ، والباب الجديد، مطاعم يرأسها أعلام في فنّ الطبخ التّونسي وصناعته ومهنته. كانوا طُهَاةً مَهَرَة من أمثال الحشايشي، والمهداوي، والغدامسي، وعَمْ رُمْضَان، والحاج عبد الكريم بن عبد الله، وحسُونَهْ المُورالي. ولعلّ المتفوّق عليهم جميعًا المعلّم الطبّاخ الحشايشي رحمه الله الّذي كان يشرف على مطبخه كالملك في مملكته. ولقد شاهدته بنفسي يختار البقول اليانعة والخضر الطّازجة والثّمار في مواسم نضجها من سوق الجملة لا في سوق الغلّة، ثمّ ينتقل إلى المسلخ البلدي لاقتناء اللّحوم: البقر والعجل والضّأن وخاصّة الماعز في فصل الصيف. وقد كانت له خبرة وتجربة معمّقة ومعرفة دقيقة بأسماك الموسم الّتي يصطادها الصّيادون في بنزرت أو المهدية أو الشّابّة أو قليبية، فتكون عينها مشتعلة حيّة لا باردة طافئة. ومن أطباق طبخه الشّهيرة طبق الكَبْكَابُو، وطبق الطّبيخة، ونحن نقول: الكَذَّابة لأن ليس فيه لحم، ولكن ما ألذّها! وطبق المَقْرُونهْ بِالسْفِن، وطبق الكَمُّونيّة، وصحْفة حلالم بالقَدِّيد! ولن تجد مكانا شاغرًا في مطعمه إذا أتيت متأخّرًا بعد السّاعة الواحدة ظهرًا لأنّ المعلّم الحشايشي لا يطبخ يوميًا إلاّ صنفًا واحدًا من الطّعام، يختاره هو ولا يفرضه عليه أحد، لزهاء ثلاثين حريفًا آكلاً عند الغداء فقط، ثمّ لا يطبخ شيئًا بعد ذلك، فيغلق الباب، وينصرف. وكان المعلّم الحشايشي نظيفًا جدًّا، موسوسًا بالنّظافة، فلا يحترم الحريف الّذي يأتي مطعمه وعليه زيّ الشّغل المتّسخ، فيكلّمه بازدراء: اليوم لم أقرأ لك حسابًا !!! اذهب للميضة!!! ولا يحترم الحريف الّذي يتناول طعامه واقفًا ومتعجّلاً والادام يبقّع وجهه وجُبّته فيخاطبه غاضبًا: احترم نعمة ربّي واقعد! أعطيها حقّها! واشرب عرقك وتنفّس... حامل البُوسْطة؟ بارك الله فيك وفي أمثالك!!! ولا يحترم الحريف الّذي يطلبه نصف خبزة وفيها زيت وهريسة! فيطرده!!!
كلّما قصدتُ في تونس العاصمة مطعمًا مختصًّا في طبخ الأطعمة والمأكولات التّونسيّة ذات الجودة العالية والذّوق المرهف الرّقيق تذكّرت المعلّم الطبّاخ الحشايشي رحمه الله. ومن المؤسف جدًّا أنّه لم يخلّف لنا تلاميذ ولا مريدين في فنّ الطّبخ. ولكم فرّطت بلادنا مثل البلدان العربيّة الأخرى في ذكر أسماء نبغاء الطّبّاخين والبارعين الحذّاق العباقرة منهم عبر عصور التّاريخ. ولا شكّ أنّهم كانوا في مطابخ قصور السّلاطين والملوك والأغنياء. والمتمـــرّد منهم مثـــل الحشايشي الّذي رفـــض أن يكون طبّــــاخ قصر البـــاي قـــد فتح مطعمًا في حيّ شعبيّ يقصده الغنيّ والفقير، المتمدّن والرّيفي المتخوشن، لأنّه معتزّ بالأطعمة والمأكولات التّونسيّة وبطبخها بشكل تقليدي مستمرّ يوميًّا، ولكن بلا شحم، ولا مرق زائد، ولا زخرف مجّاني بالتّوابل والأبزار والأفَاوِيهِ الّتي تقلب رأسًا على عقب الطّعم التّونسي والذّوق التّونسي والنّكهة التّونسيّة! وإذا ما اجتهد الحشايشي وجدّد فإنّما كان يجدّد إعداد الطّـــواجين: طاجـــين الجِبْنَ2ة، طاجين الرّوز بلحـــم السَّمَّان، طاجين السّوبيا بخضرتها، طاجين بوليس مكتّف!..
وتغتنم العائلة التّونسيّة خلال شهر رمضان من كلّ سنة الفرصة السّانحة لكي تبذل جهدها في سبيل طبخ أطعمة ومأكولات ذات جودة في الإعداد والطّهـــي، مع التّنـــويع في الأصنــــاف، والخروج عن المألوف، والدّخول إلى باب الابتكار على ندرته. ولكن كلّ ذلك إنّما هو رهن الإمكانات المــــالية بطبيعـــة الحال ورهن الإمكانات الصّحيّة أيضًا. وأخيرًا وليس آخرًا، هل مازالت الأمّهات يعلّمـــن بنــــاتهنّ الزّڤـْدِيدَة وأطفالّهن إعداد موائد الطّعام؟
ومن المؤسف حقًّا أنّ الحال قد ساءت، وتدهورت نحو الحضيض. وغزا الطّبخ الدُّولي: بالإغراء والحيلة شيئًا فشيئًا: سْتَاكْ وبُومْ فْرِيتْ الكثير من الموائد التّونسيّة. فالمأكولات الشّوارعيّة بدكاكينها غير النّظيفة، وعليها لافتة «أُكْلاَت خفيفات»، ومطاعمها الصّغيرة الضيّقة القذرة تبيع الكَسْكْرُوت الملطّخ بالهريسة الصّناعية الفاسدة، وصحْفة اللَّبْلاَبي الطّافحة بالزّيت القديم كأنّه زيت الـڤَازْوَال الأسود للسّيّارات، وصحنًا صغيرًا فيه ربع دجاجة كوشَه، الله أعلم بسنّها الّتي بلغت ربّما عشر سنين، واللّه ورسوله أعلم! وصحن كَفْتَاجِي لا يدري الآكل المسكين ما فيه، فيُقَال له: سَمِّي باسم الله وكُل واسكت!!!
ونحن نعشق الحداثة ونتظاهر للقريب وخاصّة للبعيد أنّنا حداثيّون، فنتناول على منوال البلدان الغربيّة ونلتهم الـپيتْزا، وما أدراك! والهَمْبرڤَر. وسوف نتظاهر وننظّم الاعتصامات في شارع الحبيب بورڤيبة لأنّ ليس في تونس مطعم مَاكْ دُونَالْدْ ولا كَنْتُوكي ولا كْوِيكْ ولا پيتْزاهُوتْ لماذا؟ وليس لنــا خبير أجنبي يعلّمنا صناعة السَّنْدْوِيتْشْ!!! هذه مصيبة! سبحان الله! يا حكومة اعمل معروف!!!
متى نعود إلى طبق النَّوَاصِر بالسّفرجل والزّبيب، وصَحْفة المدمّس؟ وطاجين مَلْصُوقَهْ؟ وسلاطة أمّك حوريّه؟ وصحن البِيصارة بزيت الزّيتون و بالكَمّون؟ متى؟
عزالدين المدني
- اكتب تعليق
- تعليق