وحــــدة "إنجــــاد": يــد بيضاء لانتشال ضحــايـا الاغتصاب والعنــف
ليدرز - (ريبورتاج من إنجاز ضحى عمار) - هي ذاك الشعاع المضيء الذي يتراءى في أخر النفق المظلم للروح التائهة في غياهب الشعور بالوحدة والوحشة والضياع، فتتحامل مثقلة بالهموم وتتجه نحوها علها تمسك بخيط رفيع من الأمل لتستعيد ما تبقى من حطام روح إنسانية مشظاة.
وحدة «إنجــــاد» للطـــب الشرعي الاستعجالي بمستشــفى شارل نيكــول بالعاصمة لاستقبال ضحـــايا العنـــف وخــــاصة الاعتداءات والجرائم الجنسية وفي مقدمتها الاغتصاب، يد ممدودة لانتشال المئات بل الآلاف من سديم الظلام، حلم لطالما راود الدكتور منصف حمود رئيس قسم الطب الشرعي بالمستشفى، لإحداث هذه الوحدة لتكون السند والمـــأوى والملاذ لضحايا الاعتداءات الجنسية.
رواد الوحدة، ضحــايا مـــن نوعية خاصة جدا، ليسو ضحايا حوادث مرورية أو انهيار مبنى أو كوارث طبيعية، جرحهم لا يكون بالضرورة ظاهرا للعين المجردة بل مخفي في غياهب الـــذات البشرية تلفه طبقات من الأحاسيـــس بالظلم والخوف وعدم الشعور بالأمان وتأنيب الضمير والقنوط في مجتمـــع مـــازال في عمــومه يحمّل الضحية أسبــاب الجريمة، بدل الوقوف إلى جانبها ودعمها للحصول على حقــــوقها وإنصــافها. هم أشخاص كانوا يتمتعون بحياة طبيعيـــة، يحلمـــون ويحبــــون ويفرحون ويحزنون كغيرهم من الناس، وفجأة تنقلب حياتهم في لحظة غادرة من الزمن رأسا على عقب، تدمـــــر ذواتهـــم ويتحولــــون مـن كائنات مفعمة بالحركة وحـــب الحيـــاة إلى ركام مهمل معطل عن العمل والإنتاج.
ملامح مختلفة لجريمة واحدة
عندما وصلنا إلى مقر وحدة «إنجاد» التابعة لقسم الطب الشرعي بمستشفى شارل نيكول، فــــوجئنـــا بمــدى حميمية المكان ورحــابة صدر العاملين فيه. مبنى صغير، بسيط، الوصول إليه غير معقد ولا يتطلب جهدا كبيرا للعثور عليه فهو يطل مباشرة على شارع 9 أفريل بجانب قسم الاستعجالي للمستشفى، وأهم ما يلفت نظر من يدخل المكان، الجدران المطلية بألوان هادئة تتراوح بين الزهري والترابي والبرتقالي بما يضفي على الفضاء مسحة من الهدوء تختلف تماما عن ألوان جدران المستشفيات البيضاء، كما لا تستقبلك رائحة الأدوية أو المطهرات القوية المعتادة في المستشفيات.
ثلاثة أسابيع فقـــط مضـــت على انطلاق النشـــاط الفعــــلي للوحدة التي دشنت رسمـــيا يــــوم 8 مارس المنقضي، وعندما دخلنا كانت مقاعد قاعة الاستقبال مليئة بمراجعي الوحدة، طبعا لم يكن مسموحا لنا بالتصوير أو بالحديث مع الضحايا احتراما للخصوصية، يدفعك الفضول وتبحث عن شيء ممــيز عند هؤلاء الضحايا وتفاجئك الحــــــقيقـــة، هـــم أشخـــاص عاديون يحملون نفس ملامحك لا يختلفون عنك في شيء، من أعمار مختلفة فيهم الرجل المسن والشــابة المصحوبة بـــأب أو أخ أو أخــت، طفلـة صغيرة تمسك بيد أمها، وهنــاك من جــــاء بمفرده، فيهم المنقبة وفيهم العاديـــة مكشـــوفة الرأس، وبرغم هذا الاختلاف في الفئات والأعمار والجنس، إلا أن غياب الحيوية والحياة مــن ملامح هؤلاء الأشخاص يبقى السمة البارزة التي تجمع بينهم.
وتتساءل لماذا هم هنا؟ ما ذنب وما مصير ذاك الرضيع ذي السبعة أشهر الذي صادفناه في مدخل الوحدة ويحمل على جبينــــه آثار تقطيب جرح غائر تسببت فيه سكين من يفترض أن يحميه، ويوفر له كل أسبــاب الرفــــاه والعيش الكـــريم «والده»؟.
عندما يتحركون أمامك، تشـعـــر أنهــــم يحملــون وزرا ثقيلا تنوء تحته أجسادهم يختزل هموم البشرية قاطبة، وزر يكبل طاقتهم عن أي مقاومة، الصمت هو الآخر إحدى السمات البارزة لهؤلاء الأشخاص لا تراهم يتحدثون إلى بعضهم البعض أو في هـــاتف جوال ..
العنف الجنسي يمثل 15 بالمائة من الجرائم
هم نموذج لصنف كبير من الضحايا ما فتىء يرتفع عددهم في تونس، ورغم غياب الدراسات الدقيقـــة عن ظاهرة الاغتصاب والتحرش والاعتداءات الجنسية في تونس جراء تكتم البعض، فإن تقرير شهر فيفري لسنة 2015، الذي أعده المرصد الاجتماعي التونسي، يشير إلى وقوع 72 حـــالة عنف مادي ومعنوي طيلة الشهر منها 17 حالة اغتصاب من ضحايا 8 أطفال (6 قاصرات وقاصرين أثنين، دون سن ال15)، أي ما يعادل عملية اغتصــــاب كل 48 ســــاعة، وتستهــدف هذه الجرائم الفئة العمرية بين 26 و45 سنة ، وتأتي ولاية تونس في المقدمة. مصدر بديوان الأسرة والعمران البشري أكد لنا أن العنف الجنسي بمختلف أشكاله بات يمثل 15 بالمائة من مجمل الجرائم التي تعرفها البلاد خلال السنوات الأخيرة.
وسط هذه اللوحة القاتمة، تلوح «إنجاد»، وبالرغم من محدودية الإمكانات (عيادتا طب شرعي، مكتب أخصائية نفسانية، مكتب مرشدة اجتماعية لم يتم انتدابها بعد، ومخبر للتحاليل) طوق نجاة ونبراس يستدل به الضحايا لنيل حقوقهم، والتصالح مع ذواتهم واسترجاع مكانتهم صلب عائلاتهم وفي المجتمع. فالكشف الطبي الاستعجالي كمحطة أولى في الإحاطة بالضحية، يقدم الدليل المادي على حصول الجريمة للقضاء بما يساعد الضحية على نيل حقوقها، فليس هناك أسوأ من رؤية المعتدي والمجرم طليقين دون عقاب.صحيح أن التجارب أثبتت أنه من الصعب إيجاد ضحية اغتصاب شفيت تماما من آلامها. لكن تبقى مقولة «قد نسامح حقـــا.. لكن لا ننسى أبـــدا» ضميدة لتسكين آلام جرح غـــائر لا يندمل أبدا.
- اكتب تعليق
- تعليق