عندما تبنّى الرئيس الباجي قايد السبسي مقترح تشكيل حكومة وحدة وطنية يكون مشاركا فيها بالضرورة الاتحاد العام التونسي للشغل والاتحاد التونسي للصناعة والتجارة للخروج من الأزمة الخانقة التي تعيشهــا تـونس دفع بقضية الوحــدة الوطنية إلى مقــدّمة الأولويات في المرحلة الراهنة، باعتبارها من القضايا الجوهرية التي تستوجب تمحيصها والتأمّل فيها. ولا شكّ أنّ المبادرة الرئاسيّة تدعو إلى التساؤل: هل أنّ مشاركة المنظمة الشغيلة على وجه الخصوص في الحكومة، إلى جانــب عدد من الأحزاب السياسية والشخصيات المستقلّة شرط كاف لتحقيق الوحدة الوطنية المنشودة؟ وهل بالإمكان اختزال هذا المفهوم في تشكيل حكومة قد تكون غايته غير المعلنة استدراج قوّة أو قوى معطّلة لعمل الحكومات السابقة لإقحامها في دائرة الحكم بغية إزالة العراقيل التي تحول دون بسط سلطان الدولة واسترجاع هيبتها؟
ولمّا ذكّر رئيس الجمهوريّة بحرص الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة، غداة الاستقلال، على ضمّ ممثلين عن المنظمات الوطنية إلى حكومته، فإنّه كان يعي، في تقديري، أنّه لا يجوز النظر إلى الحاضر بمنظور الماضي، وبالتالي لا يصحّ إسقاط تجربة تنزّلت في ظرف تاريخــي له خصــائصه ومتطلباته على سياق مغاير تماما، من حيث طبيعة النظام السياسي وموازين القوى في المشهد الوطني الحالي. ذلك أنّ الوحدة الوطنيّة اليوم ليست وصفة جاهزة يسهل اللجوء إليها في كلّ آن وحين لإعادة ترميــم الكيان الوطني وتفادي انفراط عقد المجموعة، بل هي مفهوم متحرّك وبناء متواصل يخضع لجدلية التاريخ وسيرورته وتحدّد شروطه إكراهات الحاضر ومستلزمات المستقبل.
ولعلّ من أبرز إيجابيات مقترح الرئيس أنّه ألقى حجرا في المياه الراكدة وخلق دينامية جديدة من شأنها فتـــح حوار معمّق حول السبل الكفيلة بصياغة مشروع وطني شامل أضحــت البلاد في أمسّ الحاجة إليه، انطلاقا من تشخيص دقيق للأوضاع الراهنة ومن الأولويـــات التي تتفــق حـــولها أغلب القــوى الوطنيـــة، وهي مكـــافحة الإرهاب ومقــاومة الفساد ودفع التنمية الجهوية والحدّ من معضلة البطالة والنهوض بقطاعات التعليم والتكوين والصحّة والاهتمام بقضايا الشباب والفئات المهمشة، علاوة على توفير البيئة الملائمة لتشجيع الاستثمار في الجهات الداخلية.
وحسبــي أنّ هــذا المشروع، الذي يمثّل البديــل للتوافق المغشوش الذي كان سببا في تردّي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية التي تشهدها البلاد، لا يمكن أن يــرى النور إلّا متى كان جمّاع الرؤى البناءة الرامية إلى إخراج البلاد من عنق الزجاجة ووضعها على درب الخلاص واستبعدت فيه خلافات الإيديولوجيا وقيود الانتماءات الحزبية الضيقة والمصالح الشخصية والفئويّة في كنف الولاء المطلق للوطن، عقيدة وممارسة. وعندما يُقرّ هذا المشروع وتلتــزم به القوى الوطنية في إطار عقد أخلاقي ومدونّة سلــوك سياسي وتعمل الحكومة الجديدة على تنفيذه، وفق خارطة طريق واضحة المعالم، بعد موافقة مجلس نواب الشعـب عليه، يمكن حينئذ إرساء قواعد وحدة وطنية متينة.
ولأنّ الشعوب الواعية هي التي تستخلص العبر من أزماتها لتمدّ الجسور نحو المستقبل بتبصّر وثبات، فإنّه بات من واجب الطبقة السياسية والنخب المثقّفة اليوم النظر بعمق وتأنّ في أسبــاب أزمة الحكم في تونس نتيجة تفتتّ السلطة وتوزّعها بيـــن رئيـــس الجمهورية ورئيس الحكومــة ومجلس نــواب الشعب، في ظلّ نظام سياسي هجين أثبتت التجربة أنّه لم يكن النظام الأنسب لإدارة شؤون البلاد، علاوة على قانون انتخابي لا يسمح ببروز أغلبية مريحة في البرلمان تساعد على استقرار الحكومة.
ولم يعد خافيا على الجميع أنّ تونس في أوكد الحاجة إلى قيادة قويّة تمارس السلطة وتفرض احــــترام دولة القانون والمؤسسات وتسهـــر على تنفيذ البرامج دون معوّقات.
ومع الإقرار بأنّ الظرف الحالي قد لا يسمح بإجراء تعديلات على الدستور والقانون الانتخابي، فإنّ الجرأة والموضوعية تقتضيـــان التفكــير بجـــدية مـــن الآن في وضـــع برنامـــج زمنــي لمعالجة مـــواطن الخلل في منظـــومة الحـــوكمة الحــــالية لتفادي مسلسل تغييــــر الحكومة الذي يمـسّ من استقرار الوضع السياسي في البلاد.
عبد الحفيظ الهرقام