أخبار - 2016.05.21

الذّكرى الخمسون لبعث التّلفزة: الصّورة أصدق إنباء من الكتب

الذّكرى الخمسون لبعث التّلفزة: الصّورة أصدق إنباء من الكتب

الحدث في السّاحة الإعلاميّة والثّقافيّة هذه الأيّام هو مرور نصف قرن على إنشاء التّلفزة في تونس، إذ تحتفل هذه المؤسّسة يوم 31 ماي 2016 بالذّكرى الخمسين لانبعاثها، وهو حدث على قدر بالغ من الأهميّة بالنّظر إلى الأدوار الكبرى التّي اضطلع بها هذا الجهاز في حياة التّونسيّين على امتداد خمسين عاما، ذلك أنّ الانتقال في مجال الإعلام والاتّصال من عصر القراءة والسّماع إلى عصر الصّورة والمشاهدة كان انتقالا مبهرا ومدويّا وعميق الأثر، ولكنّه لم يكن ليتحقّق على الوجه الذّي عرفناه إلّا بفضل حماسة جيل الرّوّاد والمؤسّسين وتضحيات البناة الأوائل وصدق عزمهم، فقد خاضوا مغامرة الصّورة التّلفزيّة بأمانة الصّديقين وصبر المجتهدين وتواضع المريدين. 

غير أنّ التّلفزة لم تكن بمعزل عن تحوّلات السيّاسة والمجتمع في تونس، فقد اقتضتها السّياقات التّاريخيّة المختلفة أن تلبّي الحاجة إلى الصّورة المعبّرة عن خصوصيّات كلّ سياق وأن تستجيب لانتظارات مشاهديها وتطلّعاتهم في أن يعيشوا من خلالها واقع كلّ مرحلة ونبضها، وعلى هذا النّحو تنوّعت مهمّات الشّاشة وتلوّنت فكان التّونسّيون أحيانا إزاء شاشة مربية écran pédagogue وأحيانا أخرى إزاء شاشة مرفّهة écran divertissant وشاهدوا طورا شاشة مؤرّخة écran chroniqueur وطورا آخر شاشة فضائيّة مشعّة écran satellite rayonnant.

الشّاشة المرّبية L’écran pédagogue

تُسْلِمنا العودة إلى السّياق التّاريخي الذّي شهد بعث التّلفزة إلى تبيّن أنّ تونس المستقلّة كانت في خضمّ حركة البناء والتّشييد تخوض غمار معركة تحديث المجتمع وتغيير الذّهنيّات وتمضي في حملة واسعة من أجل النّهوض بالإنسان، ومن ثمّ كانت في حاجة ماسّة إلى جهاز إعلاميّ ناجع وواسع الانتشار يواكب تلك الملحمة ويرافقها ويسندها ويدعمها ويجمع كلمة الشّعب حولها. فلا شكّ في أنّ إنشاء التّلفزة كان بالأساس قرارا سياسيّا لاسيّما وأنّ عديد البلاد العربيّة قد سبقت تونس إلى ذلك مثل لبنان والعراق ومصر، ولكنّه كان في الآن نفسه تحدّيا جسيما كبيرا.

 

والحقّ أنّ أولى تجارب البثّ التّلفزي قد سبقت تاريخ 31 ماي 1966، فقد نقلت التّلفزة يوم 15 أكتوبر 1963 مباشرة من مدينة بنزرت فعاليّات مغادرة آخر جندي فرنسي تراب الوطن، وهو نقل أمّنه فريق تقنيّ إيطاليّ، كما نقلت في أكتوبر 1964 وقائع مؤتمر الحزب الاشتراكي الدّستوري المنعقد ببنزرت بصوت المذيعة مليكة بلخامسة، ونقلت في نوفمبر 1965 أوّل مباراة كرة قدم من ملعب الشّاذلي زويتن بمناسبة احتضان تونس كأس الأمم الإفريقيّة، ثمّ كان التّدشين الرّسميّ يوم 31 ماي 1966 بإشراف الزّعيم الحبيب بورقيبة في البناية الموجودة بشارع الحريّة، وهو المقرّ الذّي كانت الإذاعة قد انتقلت إليه سنة 1954.
 
واتّسمت المرحلة الأولى بنجاح القائمين على حظوظ التّلفزة النّاشئة في رفع التّحديّات الكثيرة التّي كانت مطروحة عليهم زمن التّأسيس، وهي تحدّيات ماديّة وبشريّة وتقنيّة، فقد انطلق العمل التّلفزي بإمكانيّات متواضعة وبموارد بشريّة محدودة وفي ظروف تقنيّة فرضت الاعتماد على البثّ المباشر فرضا لغياب آلات التّسجيل. ولكنّ المتأمل في أداء التّلفزة وتأثيرها على امتداد السّنوات الأولى من تأسيسها يلاحظ أهميّة الرّسالة التّي أُنيطت بها وتنوّع الأبعاد التّي أخذتها، فقد كانت التّلفزة في تلك المرحلة أداة حكم ومؤسّسة رسميّة حكوميّة أكثر ممّا كانت مرفقا عموميّا، ووُجّهت تبعا لذلك إلى لعب دور سياسيّ وطنيّ واضح، وذلك لأنّ بورقيبة أدرك حجم الفائدة التّي يمكن أن تُجنى من التّلفزة على صعيد التّواصل السيّاسيّ والاجتماعي فاتّخذها أداة لنشر أفكاره الإصلاحيّة وإشاعة الوعي بأهميّة المرحلة التّي كان يسميّها «الجهاد الأكبر» ووجد فيها وسيلة لتثقيف شعب مازال ينوء بتبعات مرحلة استعماريّة قاتمة، وهكذا كانت الشّاشة سندا للمحاور الكبرى التّي أقامت عليها الدّولة الحديثة سياساتها الإصلاحيّة مثل نشر التّعليم وتعميم الصّحّة وتجذير الشّعور الوطنيّ وتعزيز الانتماء إلى « الأمّة التّونسيّة » واستنهاض الهمم في معركة البناء ومقاومة التّخلّف.
        
وبالتّوازي مع ذلك انكبّ بناة التّلفزة على الإنتاج الغزير والمتنوّع في التّمثيل والموسيقى وبرامج التّثقيف والتّوعية، فأُنجزت سلسلات ميّزت تلك المرحلة ولقيت شهرة شعبيّة واسعة مثل « أمّي تراكي » و «الحاج كلوف » و « كمّوشة »، وبرز منشّطون اختصّ كلّ واحد منهم بمجال مثل خالد التّلاتلي في البرامج الثّقافيّة والحوارات وعزّ الدّين الملوّح في المنوّعات ورضا شطورو في البرامج الاجتماعيّة ورضا البحري في المسابقات الشّبابيّة ورؤوف بن علي ومحمّد المدّب في الرّياضة.
 
ومن جهة أخرى واكبت التّلفزة أبرز الأحداث الرّياضيّة والفنيّة فنقلت الألعاب المتوسّطيّة تونس 1967 مباشرة من ملعب المنزه وواكبت زيارات نجوم الفنّ إلى تونس مثل أمّ كلثوم (ماي – جوان 1968) وعبد الحليم حافظ (جويلية 1968) وفيروز والرّحانبة (1969) وغيرهم. 
وعموما، فإنّ هذه المرحلة الأولى كانت مرحلة حاسمة ومؤثّرة ساهمت خلالها التّلفزة في تشكيل ملامح المجتمع التّونسيّ الجديد ونحت معالم شخصيّة التّونسيّ في ستّينيات وسبعينيات القرن الماضي لأنّها كانت عامل توحيد وصهر وتأليف، فالتّونسيّون حيثما وجدوا كانوا يشاهدون البرامج نفسها ويتلقّون الصّورة ذاتها ويستهلكون المادّة عينها فدعّم ذلك كلّه أسباب وحدتهم وصنع ملامح عامّة مشتركة عزّزت عناصر الائتلاف والتّشابه دون أن تنفي مظاهر الاختلاف والتّنوّع. وكانت الشّاشة بالأساس شاشة تثقيف وتوعية تحرص على النّهوض بالإنسان والرّفع من مستواه وتعمل على توجيهه وتأطيره بما ينسجم مع الأهداف الوطنيّة الكبرى.

الشّاشة المرفّهة L’écran divertissant

يمكن أن يميّز المتابع لحياة التّلفزة مرحلة ثانية في مسارها الطّويل تختلف عن الأولى بعض الإختلاف، فلئن حافظت الشّاشة على دورها التّثقيفي التّوعوي فإنّها اتّجهت على نحو واضح إلى التّرفيه والبحث عن تلبية حاجة المجتمع إلى صورة جديدة وخطاب سمعيّ بصريّ جديد، ولعلّها كانت تستجيب بذلك لانتظارات مجتمع خرج منهكا من أزمة التّعاضد الخانقة وانتظارات فئة شبابيّة واسعة تعيش على وقع الأفكار الإنسانيّة والتّحرّريّة، كما كانت تتلاءم بذلك مع خيار وطنيّ جديد قوامه الانفتاح والتحرّر. وعلى هذا الأساس تميّزت هذه المرحلة بالانفتاح على الإنتاج الدّرامي المشرقيّ، فقد اتّجهت التّلفزة مع تزايد ساعات البثّ وتحسّن الإمكانيّات الماديّة وتطلّع المشاهدين إلى ألوان تمثيليّة غير الألوان المحليّة إلى تقديم المسلسلات الوافدة من مصر ولبنان فشاهد التّونسيّون أعمالا طبعت مرحلة السّبعينيات وبداية الثّمانينيات وشدّت الاهتمام ونالت شهرة واسعة وظلّت عناوينها وأبطالها علامات بارزة في الذّاكرة الشّعبيّة.
 
وفي هذا الإطار نفسه ستتّجه التّلفزة إلى السّهرات الفنيّة الطّربيّة والمنوّعات التّرفيهيّة، فخاضت تجربة أولى مع الفنّان محمّد الجمّوسي الذّي كان ينشّط ويقدّم مجالس غنائيّة يحييها صحبة عدد من المطربين، ثمّ ظهر برنامج «سهرة مع فنّان» الذّي يُسجَّل في بيت أحد مشاهير الطّرب في تونس، وشيئا فشيئا بدأت تجربة المنوّعات التّلفزيّة مع حمّادي الجزيري ثمّ مع عزّ الدين الملوّح وعادل ويشكة في برنامج سيكتشف عددا من الوجوه التّي ستصبح لاحقا نجوما في السّاحة الفنيّة وهو برنامج «مع النّاس». ولا بدّ أن نشير إلى أنّ صور التّلفزة أرّخت لأحداث كبرى في تاريخ تونس المعاصر فسجّلت حوادث  26 جانفي 1978 وحوادث قفصة في جانفي 1980 وما يسمّى بثورة الخبز بداية جانفي 1984 فجمعت إلى التّثقيف والتّرفيه التّأريخ لحركة المجتمع وتفاعلاته.

الشّاشة الفضائيّة المشعّة L’écran satellite rayonnant

يتبيّن الملاحظ أنّ عشريّة التّسعينيات والسّنوات التّي تلتها كانت مرحلة تحوّلات عميقة في تاريخ الشّاشة الصّغيرة في تونس، ولعلّ أبرز شواهد هذه النّقلة النّوعيّة المميّزة تتلخّص في:
  • تحوّل القناة التّلفزيّة إلى قناة فضائيّة منذ 1992، وقد فرض هذا التحوّل التّقنيّ شعورا بجسامة مسؤوليّة البثّ الفضائيّ فانعكس ذلك على حرفيّة الأداء وجودة المادّة.
  • غزارة الإنتاج الدّراميّ التّونسيّ من مسلسلات وأشرطة تلفزيّة وثلاثيّات بما كان يغطّي شهر رمضان وفترات أخرى من السّنة.
  • دخول التّلفزة مجال الإنتاج السينمائيّ، حيث كانت تشارك في الإنتاج بتوفير تجهيزات مقابل الحصول على حقوق البثّ، وهكذا ساهمت التّلفزة في إنتاج عديد الأشرطة التّونسيّة النّاجحة مثل «حلفاوين» لفريد بوغدير و«يا سلطان المدينة» للمنصف ذويب و«السيّدة» لمحمّد الزّرن و«ليلة السّنوات العشر» لإبراهيم باباي وغيرها.
  • تشجيع الأغنية التّونسيّة وتمكينها من مساحات أوسع للبثّ ومقاومة تيّار انتشار الأغاني الشّرقيّة.
  • تطوير المنوّعات التّلفزيّة الطّويلة التّي كانت تبثّ في سهرة السّبت ويوم الأحد وتستضيف كبار نجوم الطّرب والتّمثيل في تونس والبلاد العربيّة على غرار منوّعات «بدون استئذان» و«لو سمحتم» و«سهريّة على الفضائيّة» التّي لمع في تنشيطها المرحوم نجيب الخطّاب.
  • انطلاق القناة الثّانيّة الموجّهة إلى الشّباب (قناة 21) منذ 1994، وقد تميّزت برؤية مجدِّدة وأفكار مبتكرة مواكبة لتطلّعات فئة واسعة من الشّباب التّونسي واهتماماته، ومكّنت من اكتشاف وجوه تنشيطيّة شابّة تجمع بين الموهبة وثراء الزّاد الثّقافي.

 
ومن مظاهر الإشعاع في هذه المرحلة هجرة عديد التّقنيّين والصّحفييّن من أبناء الدّار للمساهمة في إنشاء تلفزات في دول عربيّة أو للعمل في قنوات ذات انتشار واسع، وحضور التّلفزة التّونسيّة في اتّحادات الإذاعات والتّلفزات على المستويين الإقليمي والدّولي، وهي هيآت كانت التّلفزة عضوا مؤسّسا فيها.

آفاق وتحدّيات

ولكنّ الانفجار الذّي شهده المشهد الاتّصالي المعولم وما رافقه من طفرة في مستوى القنوات الجامعة والمتخصّصة والباقات الرّقمية bouquets numériques سيطرح على التّلفزة التّونسيّة تحدّيات المنافسة ومواكبة روح العصر وتطوير تقنيات البثّ. ولئن توفّرت للتّلفزة اليوم بعض الشّروط المساعدة على كسب تلك التّحديّات وفي مقدّمتها مناخ الحريّة والمقرّ الجديد الذّي يمسح 50 ألف متر مربّع مغطّى فإنّها لا تزال تواجه عددا من الصّعوبات الحقيقيّة وفي مقدّمتها القيود التّشريعيّة التّي تكبّل عمل المؤسّسة على صعيد التّسيير والإنتاج، فالتّلفزة تعمل ضمن إطار الأوامر الصّادرة سنة 2007 التّي لا تؤمّن استقلاليّتها الكاملة، وحتّى المرسوم 116 الذّي أحدثت بمقتضاه الهيأة العليا المستقلّة للاتّصال السّمعي البصريّ لم يفرد التّلفزة بنصّ خاصّ ولم يتناول وظائف المرفق العموميّ إلّا على نحو إجماليّ عامّ. وهكذا تظلّ التّلفزة في انتظار صدور النّصوص القانونيّة التّي تحوّلها بالفعل إلى مرفق عموميّ يوجَّه إلى العموم ويموّله العموم ويراقبه العموم وتتّسم برامجه بالانتشار الواسع والتّنوّع والخصوصيّة، وهو إطار قانونيّ من شأنه أن يمكّنها من تحقيق استقلاليّة كاملة في سياستها البرامجيّة وخطّها التّحريريّ وتجاوز قيود التّسيير المالي والإداري التّي تحول دون تطهير وضعها المالي وإكسابها المرونة اللّازمة.
 
أمّا الصعوبة الثّانية فهي ذات طبيعة تقنيّة لأنّ التّلفزة التّونسيّة مازالت تعتمد البثّ التّناظريanalogique  في زمن البثّ الرقميّ ذي الدقّة العالية HD ، وهو أمر يقلّص من قدراتها التّنافسيّة ويقعد بها عن بلوغ مراتب الجودة العالية. ولا شكّ في أنّ مناسبة الخمسينيّة ستقترن بجملة من المبادرات التّي من شأنها أن ترتقي بأداء التّلفزة وتدعم ما تحقّق لها من مكاسب على امتداد نصف قرن، من ذلك أنّ التّلفزة قد شرعت في إنجاز عمل ضخم بالاشتراك مع وزارة الثّقافة يتمثّل في رقمنة الأرشيف السّمعي البصريّ، وهو أرشيف يشتمل على 6 آلاف ساعة من البثّ ويؤرّخ لذاكرة تونس وتاريخها الفنيّ. وستقترن الخمسينيّة كذلك بتطوير آليّات البثّ الرّقميّ وتكنولوجيّاته إذ ستستقبل التّلفزة في الأسابيع القادمة المعدّات الخاصّة بستوديو 900 وستوديو 300 اللّذين سيتمّ الشّروع في استغلالهما بداية من غرّة جويلية 2016 وتتمثّل هذه الآليّات في حافلتي نقل تلفزيّ لكلّ واحدة منهما 10 آلات كاميرا عالية الدقّة. يضاف إلى ذلك احداث بوّابة سمعيّة بصريّة تفاعليّة بأحدث التّقنيّات ستتيح للمهتمّين بالتّلفزة والباحثين الولوج إلى كلّ المعطيات المتّصلة بتاريخها وبرامجها ومستجدّاتها.
 
وفي الجملة فإنّ التّلفزة اليوم وبعد خمسين سنة من بعثها تعتزّ بأنّها كانت صورة تونس الأمينة وذاكرتها الحيّة ومستودع تاريخها السّياسيّ والاجتماعي والثّقافي، ولكنّها تتطلّع – ويتطلّع مشاهدوها أيضا- إلى أن تكون قناة مرجعيّة ومؤسّسة امتياز على صعيد الإنتاج والإبداع، ولعلّها في حاجة، من أجل تحقيق هذه الغاية النّبيلة، إلى تشريعات جديدة وتصوّرات مبتكرة ومناهج عمل متطوّرة ورؤية تحديثيّة حتّى تمضي قدما نحو أداء أكثر جودة وجاذبيّة وموارد بشريّة أمتن تكوينا وأكثر حرفيّة ونحو قدرة أكبر على خوض المنافسة العاتية داخل هذا الفضاء الاتّصاليّ المعولم، فالصّورة اليوم «أصدق إِنباءً من الكتبِ، في حدّها الحدّ بين الجدّ واللّعبِ»
حبيب الدريدي
هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.